العلوم الإنسانية والإجتماعية

الأزمات والنموّ الاقتصادي

2014 مجتمع السوق

سبايز بوتشر

مؤسسة الكويت للتقدم العلمي

العلوم الإنسانية والإجتماعية التكنولوجيا والعلوم التطبيقية

نقيض النموّ الاقتصادي هو الأزمات الاقتصادية. لذا من المهم جداً فهم فشل النظام الاقتصادي من أجل زيادة الإنتاج بشكل ثابت. أحياناً يفشل النموّ، وبدل أن يتوسع الاقتصاد، يسجّل تقلصاً. يشهد تاريخ الرأسمالية على فترات طويلة من التوسع الاقتصادي تتبعها فترات أقصر من التقلص الاقتصادي. ويعرف هذا النمط من التوسع والتقلص الاقتصادي بـ "حلقة الأعمال" (Business Cycle). ومن حين إلى آخر، تسجّل حالات تعوق هذه الحلقة مثل الركود الاقتصادي الأكثر حدةً أو الكساد.

يساعدنا نموذج الفائض على التفكير في بعض أسباب الركود. فقد يقع خطب ما في أي مرحلة من مراحل مسار رأس المال. مثلاً قد ترتفع معدلات الفائدة، وقد لا تتوفر المواد الخام، وربّما يضرب العمّال، ولا ينفق المستهلكون (Heilbroner 1978). كما يلقي مسار رأس المال الضوء على أحد العوامل الرئيسية للركود. فإن لم تؤمن الشركات أن بإمكانها تحقيق ربح، فقد لا تقوم بالاستثمار ما يعني أن العمال سيفقدون وظائفهم. وتعتبر البطالة من عوارض الركود الأكثر أهميةً والأكثر ضرراً بالمجتمع.

أحياناً يكون الركود الاقتصادي قاسياً جداً إلى حدّ أنه قد يهدد أسس النظام الرأسمالي. فيظلّ النموّ سلبياً أو ثابتاً، ويبدو أن الأساليب التقليدية لتنظيم السوق لم تعد تعمل. ويقود المزيد من البطالة وتراجع الثقة بالأعمال إلى دوامة من التقلص الاقتصادي، يبدو من الصعب جداً الخروج منها. وتعرف الفترات المشابهة بالأزمات الاقتصادية، وتشمل الأمثلة على هذا النوع من الأزمات: الكساد الكبير في الثلاثينات والركود التضخمي في السبعينات وبالنسبة لجزء كبير من أوروبا والولايات المتحدة، الأزمة المالية العالمية عام 2007.

نظريات حول الأزمات

تشهد الأوساط الاقتصادية الكثير من الجدل حول طبيعة الأزمات الاقتصادية، فتشدد الكلاسيكية الجديدة القائمة على التوازن على استقرار الأسواق. وفيما تتغير الظروف الاقتصادية، تتأقلم الأسعار تدريجياً لضمان بقاء العرض والطلب في توازن. وتشير أدوات الإحصاء المقارنة إلى أن الأسواق ستحرص على أن كلّ الموارد تستخدم بفعالية.

ومثل نظريات النموّ، تميل أدوات الاقتصادات الكلاسيكية الجديدة لإفراز نظريات خارجية للأزمات – أي تحديد أسباب الأزمات خارج اقتصاد السوق. مثلاً، أكد الرائد الكلاسيكي الجديد وليام جيفونز (William Jevons) عام 1875 أنه يمكن تتبع الركود إلى وجود بقع شمسية أدت إلى تراجع حصاد الإنتاج الزراعي، ما رفع أسعار المواد الأساسية، وامتد أثره ليطال باقي الاقتصاد (Heilbroner,1980, p. 260).

ومن التفسيرات الخارجية المعروفة للأزمات، نذكر قول ميلتون وروز فريدمان (Milton, Rose Friedman) (1980, pp. 95-117)  إن الكساد الكبير الذي بدأ سنة 1929 واستمر في الثلاثينات، كان نتيجة تدخل الدولة من خلال نظام الاحتياط الفدرالي في التزويد بالأموال. وكذلك، يزعم البعض إن الأزمة المالية العالمية نتجت عن الافراط في التنظيم الحكومي للقطاع المالي ما أدى إلى قروض لامسؤولة أسهمت في ظهور القروض ذات التصنيف الائتماني المنخفض (Wallison 2009).

عدم اليقين

يتفق معظم علماء الاجتماع على أن الأزمات قد تكون نتيجة عوامل خارجية مثل الكوارث الطبيعية والحروب والسياسات الحكومية السيئة. ولكن بعض الأفكار الاقتصادية تختلف عن الاقتصادات الكلاسيكية الجديدة حيث تحدد مصادر داخلية للأزمات: فهي ترى عوامل ممنهجة تسبب حالةً من عدم الاستقرار تقود إلى حالات دورية من تباطؤ النموّ الاقتصادي وارتفاع نسب البطالة. ومن تلك المصادر الداخلية، نذكر عدم اليقين الناتج من الوقت الذي يستغرقه الإنتاج، والثاني ينبع عن أشخاص لديهم مصالح اقتصادية مختلفة.

تأتي النظريتان الخارجيتان الأهم من التعاليم الكينزية والماركسية، فكلاهما ينظر إلى الاقتصادات الرأسمالية بطرق تتحدى مباشرةً الفكرة الكلاسيكية الجديدة عن الأسواق كآليات متناسقة متجانسة. لقد أثّرت هاتان المقاربتان في النظرية الاقتصادية كما ناقشناها في الفصل 2، كما أثّرت في تطور المؤسسات الاقتصادية.

تستلهم المقاربة الكينزية من أعمال الاقتصادي الإنجليزي جون مينارد كينز(John Maynard Keynes) . بعد الكساد الكبير. ووضع كينز  (1965 [1936]) كتاب (The General Theory of Employment, Interest and Money). زاعماً ليس هناك سبب يدفع للاعتقاد بأن الأسواق الرأسمالية ستميل إلى الاستعمال الكامل للموارد أكان ذلك في ما يتعلق برأس المال أو اليد العاملة. وقد تحدى بذلك مباشرةً النظرية الكلاسيكية الجديدة حول الكفاءة التخصيصية التي تفترض ضمناً أنه عند التوازن ستستخدم كلّ الموارد المتوفرة، بما فيها استخدام كلّ العمّال. بدل ذلك، دلل كينز أن سوق العمل قد يؤدي إلى بطالة مستمرة عند التوازن (المربع 4.3( ، ما يعني أن سوق العمل لا يتمتع بكفاءة متأصّلة.

المربع 4.3 الأجور وسوق العمل

من الفروقات المهمة بين الاقتصادات الكلاسيكية الجديدة والكينزية مقاربتها لموضوع سوق العمل، على الأخص مستوى الأجور. في ما يتعلق بالاقتصادات الكلاسيكية الجديدة، سوق العمل هو تماماً مثل أي سوق  آخر، فتحدد المنافسة وقوى العرض والطلب، كلاً من سعر العمل (الأجر) وكمية العمل (مستوى التوظيف).

بالنسبة، للكلاسيكية الجديدة، البطالة هي على الأرجح نتيجة الإفراط في العرض. مثل باقي الأسواق، يعالج ذلك من خلال تراجع الأسعار، ما يعيد العرض والطلب إلى التوازن. يعني ذلك هنا تخفيض الأجور، ما يزيد عدد الموظفين الذين يكون ربّ العمل على استعداد لتوظيفهم، ويخفض على الأرجح عدد الأشخاص المستعدين للعمل. إذاً يمكن للقوانين التي تحدد حداً أدنى للأجور مثلاً، أن تؤدي إلى البطالة.

يختلف الكينزيون مع هذا التحليل، فيعتبرون سوق العمل سوقاً من نوع خاص. فعلى عكس السلع الأخرى، العمل هو من عوامل الإنتاج وسعر العمل (الأجر) هو أيضاً مصدر دخل أغلبية الأشخاص داخل الاقتصاد، لذا لا يمكن للأجور أن تنزل دون مستوى الكفاف. وتشبه حجج كينز إلى حدّ ما قول بولانيي (2001 [1944]) إن العمل هو "سلعة خيالية"، لأنها لا تنتج في السوق، وتحتاج  بالتالي إلى قوانين حماية لا تشمل بالضرورة سلعاً أخرى.

ولكن إن خفضت كلّ المؤسسات الأجور التي تمنحها للموظفين، فسيخفض ذلك مدخول كلّ العمّال، ما يخفض الطلب في الاقتصاد ويصعّب عليها بيع منتوجاتها، ويؤدي ذلك إلى المزيد من الصرف من الخدمة أو تخفيض الأجور أكثر. ويدعم هذا التحليل تنظيم الأجور في الاقتصاد أو "سياسة الدخل" (الفصل 5).

 

وبعيداً عن المشاكل الخاصة بتحليلات سوق العمل، حدد كينز أيضاً أهمية عدم اليقين في الحياة الاقتصادية. فيعني عدم اليقين هنا المزيد من الخطر، إذ يدلّ ببساطة أننا لا نعرف ما الذي يخبئه لنا المستقبل.

يقول كينز :

عند قول معرفة "غير مؤكدة".. لا أقصد التمييز بين ما هو مؤكد وما هو محتمل فحسب. فالموضوع هنا ليس عجلة الروليت.. أنا استخدم هذا التعبير في إطار أن الحرب في أوروبا ليست مؤكدةً مثلاً ولا سعر النحاس ولا معدل الفائدة بعد عشرين سنة من الآن.. لا توجد قاعدة علمية لهذه المسائل يبنى عليها أي احتمال يمكن احتسابه. نحن ببساطة لا نعرف. (Keynes 1937, pp. 213-14)

إذا كانت الظروف الاقتصادية المستقبلية غير مؤكدة، فلا يمكن للأسعار أن تشير إلى معلومات صحيحة حول تلك الظروف المستقبلية بل تعكس فقط توقعات الباعة والمشترين. تستند تلك التوقعات إلى الظروف السائدة وإلى الآراء والاتجاهات. قال كينز إن التوقعات هي غالباً نتيجة "الروح الحيوانية" (Animal Spirits) ومجموعة الديناميكيات التي تقود إلى فرح عارم ثمّ إلى الرعب. وبالطبع تمت مراجعة هذا التحليل بعد الأزمة المالية العالمية (Akerlof & Shiller 2009).

بالنسبة لكينز، التضمينات عميقة أما التوقعات فمتقلبة. ويعني عدم اليقين أن الثقة قد تزول بسرعة ما يجعل الأسعار والأسواق متقلبةً أيضاً. وكما هي الحال في سوق العمل، رأى كينز أن هذا التقلب لا يمكن أن يحلّ مكان قوى التوازن في السوق.

إن كانت التوقعات منخفضة جداً، ولا تتوقع الشركات أن تبيع منتوجاتها، فلن تستثمر ولن توظف عمالاً. وإن انتشر ذلك، ستتراجع المداخيل، ما يؤدي إلى النتيجة ذاتها التي كانت تخشاها الشركات. رأى كينز نبوءته تتحقق خلال الكساد الكبير في الثلاثينات. فبسبب التفاعل بين التوقعات وبين الإنتاج والطلب، قد يستمر النموّ المنخفض أو السلبي وتبقى البطالة مرتفعةً بدون وجود آلية تضمن عودة النموّ.

الصراع

قدم كارل ماركس في القرن التاسع عشر تفسيراً نقدياً لاذعاً تناول كيف تكون الرأسمالية عرضةً للأزمات الاقتصادية. أشار ماركس إلى أهمية عدم التوازن بين الإنتاج والاستهلاك. غير أنه اختلف عن كينز حين رأى أن انعدام التوازن ليس نتيجة التعقيدات وعدم اليقين فحسب، بل أيضاً نتيجة التناقضات والنزاعات بين المجموعات الاجتماعية داخل الرأسمالية.

رأى ماركس أن القوى ذاتها التي تحفز تراكم رأس المال وتفتح المجال أمام زيادات ضخمة في القدرة الإنتاجية في ظلّ الرأسمالية، تسبب أيضاً أزمات اقتصادية. ويكمن النزاعان الأساسيان بين العمّال وأرباب العمل وبين الأعمال المختلفة. وفي الحالتين يعكس ذلك صراعاً بين جماعات في داخل الاقتصاد لها مصالح مختلفة.

قد تدفع قاعدة الرأسماليين المتعلقة بزيادة الأرباح من خلال القيمة الفائضة التي ينتجها العمّال، بأرباب العمل إلى تخفيض الأجور، ولكن إن كانت الأجور منخفضةً جداً فلن يتمكن العمّال من شراء ما يكفي من السلع كي يبيع الرأسماليون كلّ مخزونهم. والنتيجة هي أزمة "قصور استهلاك" (Underconsumption)  أو إنتاج مسرف (Overproduction)  (Fine & Saad- Filho 2004, P. 93). إن الأمر مشابه بمقاربة الاقتصاد الجزئي الخاصة بكينز الذي لاحظ توتراً بين سلوك المؤسسات الفردية والنتيجة التي يحققها الاقتصاد بالإجمال.

يقول ماركس إنه حين يكون الاقتصاد مزدهراً، يوظّف الرأسماليون المزيد من العمّال، فيزيد ذلك من الأجور ويخفض الأرباح. إذن قد تستخدم المؤسسات آلات وماكينات تحلّ مكان العمّال، ما يزيد البطالة ويخفض الأجور. وشكك ماركس في احتمال نجاعة هذا الأسلوب على المدى البعيد. فقال في نظريته حول قيمة العمل إن الآلات وعلى عكس اليد العاملة، لا تستطيع أن تنتج قيمةً جديدةً، وأشار في شكل مثير للجدل إلى أن زيادة المكننة قد تؤدي إلى تراجع الأرباح (Fine & Saad- Filho, 2004, p. 95).

ولأن ماركس كان يركز على النزاعات بين الفئات الاجتماعية، فقد أشار أيضاً إلى أهمية العمل الاستراتيجي. فقوى التفاوض النسبية لكلّ من العمّال وأرباب العمل تتأثر بوضوح بخياراتهم المختلفة. قال ماركس إن البطالة قادرة على تأديب العمال وتدفعهم للقبول بأجور منخفضة لأنها تمثّل بديلاً غير مرغوب به عن الأجور المنخفضة. وصف ماركس (1976 [1867], ch 25) العاطلين بـ "جيش احتياط" (Reserve Army) سوق العمل لأن أرباب العمل قد يستخدمون العاطلين عن العمل كبدلاء عن العمّال المتمردين.

إن هذه الفكرة شبيهة بافتراضية "أجور الكفاف" (Efficiency Wages) في الاقتصادات التقليدية. وتشير الفرضية إلى أن أرباب العمل يدفعون غالباً للعمّال أكثر من أجر التوازن اللازم لقاء الوظيفة الكاملة. وتشجع الأجور العالية على بذل جهود أكبر في العمل إلا أنها قد تؤدي أيضاً إلى البطالة. ولكن البطالة قد تكون أيضاً لمصلحة أرباب العمل بما أنها تقلص احتمالات تقصير العمال بوظائفهم خشية أن يفقدوها (Shapiro & Stigliz, 1984).

ويمكن أيضاً لقطاعات العمل المختلفة أن يكون لها أولويات مختلفة وقد تتصارع أيضاً. قد يؤدي الازدهار في قطاع ما في الاقتصاد إلى زيادة آلات الإنتاج (مثل الماكينات الثقيلة) ولكن الطلب على البضاعة النهائية ربما لا يكون كافياً لهذا التوسع. وبما أن الإنتاج يأخذ وقتاً، فقد لا يظهر ذلك إلا بعد فوات الأوان، ويسبب أزمة "لا تناسق" (Dispropotionality) (Fine & Saad- Filho 2004 pp. 92-3).

في كلّ من الحالات أعلاه، ينذر ماركس أن الاقتصاد يرزح تحت وطأة الصراع الذي يشتد في وقت الأزمات الاقتصادية. للناس مصالح تختلف في ما بينها ويستخدمون كلّ وسيلة ممكنة من أجل تحقيق مكاسب على حساب الآخرين. وقد تغذّي المنافسة محركات النموّ إلا أنها قد تؤدي أيضاً إلى حالة من عدم الاستقرار.

 

[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى