
الفوضى الخلّاقة في الدماغ تحدث تحولًا في فهمنا الذكاء والوعي والإبداع
تسلِّط أبحاث حديثة الضوء على دور الفوضى، لا بصفتها خللًا، بل كعنصر بنيوي بالغ الأهمية في توليد أكثر قدرات العقل البشري تفرّدًا؛ إذ يبدو أن الدماغ يتأرجح بدقة بين الانتظام والاضطراب، في توازن ديناميكي يُعيد تشكيل فهمنا للذكاء والوعي والإبداع.
بقلم ديفيد روبسون
تأمّل يومَك، وفكّر في كل المهام المذهلة التي ساعدك دماغك على إنجازها؛ من تنظيف أسنانك، إلى تناول الغداء، وقراءة الكلمات على هذه الصفحة، تجد أن أفكارك ومشاعرك وتصرفاتك تبدو كأنها ناتجة عن آلة ضُبطت على نحو دقيق.
حتى مجرد أن تخبر أحدًا باسمك يُعدّ معجزة صغيرة تولِّدها إشارات كهربائية تتنقّل عبر كتلة هلامية تزن 1.3 كيلوغرام. يقول كيث هينغن Keith Hengen، عالِم الأحياء من جامعة واشنطن Washington University في مدينة سانت لويس: «أنت تنفّذ واحدة من أعقد عمليات الحوسبة في الكون وأروعها».
حيّرت هذه القدرة الفائقة الفلاسفة وعلماء الأعصاب على مدى قرون، وحاليًا يبدو أن الدقة ليست هي الجواب، بل قد يكون السرّ كامنًا في الفوضى المتأصلة داخل الدماغ.
هذه الفكرة يسمّيها باحثون، مثل هينغن، فرضية حالة الدماغ الحرجة Critical Brain Hypothesis. يقول هؤلاء الباحثون إن المادة الرمادية في دماغنا تقع قرب نقطة حرجة بين النظام والاضطراب، يُطلقون عليها اسم «المنطقة الحرجة» Critical Zone، أو – بصيغة أكثر شاعرية – حافة الفوضى Edge of Chaos. ويمكننا رؤية هذا النوع من عدم الاستقرار في الانهيارات الثلجية، أو انتشار حرائق الغابات، حين تؤدي أحداث صغيرة ظاهريًّا إلى نتائج متتابعة هائلة.
تخضع الأنظمة التي تتأرجح على هذا الحد الفاصل لقوانين رياضية دقيقة، ويبدو حاليًا أن الديناميكيات نفسها قد تفسّر كفاءة عقولنا ومرونتها الاستثنائية.
قد تبدو فكرة أن الإشارات الكهربائية في الدماغ تتبع القواعد نفسها التي تحكم الكوارث الطبيعية أمرًا غير منطقي، لكن كثيرًا من علماء الأعصاب، إلى جانب هينغن، باتوا يقتنعون بها. يقول كريم جيربي Karim Jerbi، عالِم الأعصاب من جامعة مونتريال University of Montreal في كندا: «إن الحالة الحرجة توفّر إطارًا قويًّا لفهم وظائف الدماغ واختلالاته».
تتيح هذه الفرضية توقّع تأثير العقاقير التي تغيّر الحالة الذهنية، وقد تُساعد في تشخيص أمراض مثل ألزهايمر بمزيد من الدقة. كما قد تُسهم في فهم أسباب اختلاف مستويات الذكاء بين الأفراد، وربما تُفسّر أيضًا وظيفة النوم، بل وأصول الوعي نفسه.
وأكثر ما يثير الحماس هو أن بعض تقنيات التأمل قد تُمكّننا من دفع الدماغ نحو نقطة التوازن، أو بعيدًا عنها، بما يُعزّز مرونتنا الذهنية.
نظرية كونية
يمكن تتبّع جذور فرضية الدماغ الحرج إلى الفيزيائي الدنماركي بير باك Per Bak الذي وضع – في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي – القوانين التي تحكم الأنظمة الحرجة؛ فقد توصل إلى أن انتشار حرائق الغابات، مثلًا، يقع على حافة نقطة حرجة؛ فإذا تجاوزت الحدَّ في اتجاه معيّن، احترق النظام البيئي بالكامل بسرعة، من دون أن يبقى فيه أثر للأشجار. وإذا تجاوزته في الاتجاه الآخر، انطفأت كل شرارة قبل أن تنتشر.
لكن باك بَيَّن أن حرائق الغابات تميل إلى أن تكون غير مرتبطة بالحجم Scale-Invariant، أي أن الحرائق يمكن أن تحدث بأي حجم. وقد خلص إلى أن تكرار هذه الحرائق يخضع لما يُسمى قانون القدرة Power Law، أي أن الحرائق الصغيرة أكثر شيوعًا من الكبيرة، وفق نسبة تعتمد على عوامل مثل المناخ والتضاريس.
بحلول أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، كان علماء الأعصاب قد بدأوا يلاحظون أن النشاط الكهربائي للدماغ يُظهر نمطًا مشابهًا؛ فخلايا الدماغ العصبية مترابطة عبر شبكات دقيقة من الوصلات التشابكية، وعندما «تنشط» إحدى الخلايا، يمكن أن تُحفَّز خلايا أخرى لتنشط بدورها. يقول جوردان أوبيرن Jordan O’Byrne، طالب الدكتوراه لدى جيربي من جامعة مونتريال، والذي نشر أخيرًا دراسة تُراجع الأدلة المتزايدة على فرضية الدماغ الحرج: «يتراكم النشاط على ذاته في سلسلة متصاعدة تشبه الانهيار الثلجي».
تبدو هذه السلسلة التفاعلية كأنها نموذج مثالي لنظام يتأرجح بين النظام والفوضى. ولاختبار الفكرة، قاس جون بيغز John Beggs من جامعة إنديانا Indiana University بمدينة بلومنغتون، وديتمار بلينز Dietmar Plenz من المعهد الوطني الأمريكي للصحة النفسية US National Institute of Mental Health في مدينة بيثيسدا بولاية ماريلاند، النشاطَ الكهربائيَّ لخلايا عصبية أُخذت من أدمغة الفئران في أثناء إطلاقها إشارتها تلقائيًّا داخل طبق بتري.
وقد وجدوا أن كل خلية عصبية نشطة تُحفّز، في المتوسط، خلية واحدة أخرى على أن تنشط، وهو رقم يُمثّل، وفق الحسابات الرياضية، نقطة التوازن الحرجة للدماغ؛ فإذا زاد الرقم كثيرًا، انتشر النشاط على نحو خارج عن السيطرة، مثل الانهيار الثلجي؛ وإذا انخفض، تلاشى النشاط قبل أن يبدأ فعليًّا. وأظهرت شرائح دماغ الفئران بالضبط ثبات النمط عبر المقاييس، أي عدم الارتباط بالحجم، والتوزيع – وفق قانون القدرة – اللذين يميِّزان الأنظمة الحرجة الأخرى.
منذ ذلك الحين، حدّدت عدة دراسات مؤشرات على الحالة الحرجة Criticality في أشكال أخرى من السلوك العصبي، مثل تزامن النشاط بين مناطق الدماغ المختلفة. كما لوحظ هذا النمط لدى أنواع عديدة من الكائنات، بما في ذلك سمك الزرد Zebrafish، والقطط والقرود، وبالطبع البشر.
لكن خلال هذه الدراسات، ظهرت بعض النتائج المتناقضة؛ إذ فشل بعض الباحثين في العثور على خصائص الحالة الحرجة، مثل قانون القدرة، في قياساتهم النشاط الدماغي. ويقول هينغن إن هذه التناقضات دفعت العلماء – في هذا المجال – إلى استخدام تسجيلات أكثر حساسية للنشاط العصبي، وتقنيات رياضية أكثر تطورًا لتحليل النتائج. يقول هينغن: «المجموعات المتشككة، في رأيي، هي أفضل ما حدث لدراسة الحالة الحرجة في الدماغ. لقد أجبرت الباحثين – في هذا المجال – على التعمّق فيه».
وبالتعاون مع وودرو شو Woodrow Shew، الفيزيائي من جامعة أركنسو University of Arkansas، حلَّل هينغن بيانات 320 تجربة سابقة، وأظهر أن النتائج المتناقضة ظاهريًّا يمكن التوفيق بينها وبين الفرضية إذا استُخدمت اختبارات إحصائية جديدة للحالة الحرجة. ونُشرت دراستهما في دورية نيورون Neuron، وهي من أبرز الدوريات المتخصصة في علم الأعصاب، في يونيو 2025.
ويبدو أن مدى اقتراب دماغ الإنسان من نقطة التوازن الحرجة يعتمد على عوامل متعددة، مثل: ترابط الشبكات العصبية، وتوازن النواقل العصبية في المشابك. يقول شو: «يعمل الدماغ بكفاءة ضمن منطقة محدَّدة تحيط بالحالة الحرجة».
وهذا ما يُساعدنا على تعديل تفكيرنا وتكييفه وفقًا للظروف. يقول جوردان أوبيرن: «إنه يمنح الدماغ مساحة لتعديل مستوى الحالة الحرجة بطريقة تفاعلية مرنة استجابة لمواقف أو مهام معينة».
الذكاء والإبداع
إن كون الدماغ السليم لا يبتعد كثيرًا – في أثناء اليقظة – عن الحالة الحرجة، يقترح أنها تحمل مزايا وفوائد كبيرة، أولاها هي اتساع نطاق نقل المعلومات ومعالجتها؛ فبفضل خاصية عدم الارتباط بالحجم في الأنظمة الحرجة، يمكن للإشارات أن تنتقل عبر مسافات قصيرة وطويلة؛ مما يُتيح التواصل داخل مناطق الدماغ المختلفة وفيما بينها. والنتيجة هي قدرة حوسبية هائلة. يشرح هينغن ذلك بقوله: «يمتلك الدماغ القدرة على استكشاف جميع الاحتمالات والحلول الممكنة».
كما أن التوازن بين النظام والفوضى قد يُساعد الدماغ على التكيّف مع المواقف الجديدة. يقول جيربي: «إنه يُتيح للدماغ أن يكون مستقرًا بما يكفي لفهم العالم، وديناميكيًّا بما يكفي للاستجابة له على النحو الأمثل… نحن نعتقد أن الدماغ يعمل قرب حافة الفوضى؛ لأنها المنطقة المثلى للتفكير المُعقَّد، والتعلُّم، واتخاذ القرار، والتكيّف مع المستجدات».
وإذا صحّ ذلك، فإننا نتوقّع أن تؤثر الفروق الطفيفة في مدى اقتراب الدماغ من النقطة الحرجة في الأداء المعرفي العام للفرد، وهذا بالضبط ما توصل إليه ناوكي ماسودا Naoki Masuda الباحث من جامعة ميشيغان University of Michigan وزملاؤه في العام 2020.
![]()
طلب الفريق من 138 بالغًا الخضوع لاختبارات لقياس الذكاء السائل Fluid Intelligence، أي القدرة على استخدام المنطق والاستدلال لحل مشكلات جديدة، ثم قارنوا النتائج بقياسات النشاط الدماغي المأخوذة من فحوص التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي fMRI. وكما كان متوقّعًا، وجد ماسودا وزملاؤه أن أدمغة الأشخاص الذين حصلوا على درجات أعلى كانت أقرب إلى الحد الفاصل بين النظام والفوضى، مقارنة بمن حصلوا على درجات أقل؛ وهو ما يتوافق تمامًا مع فكرة أن الحالة الحرجة تُعزّز قدرة الدماغ على معالجة المعلومات وإجراء الحسابات.
وظهرت مرونة التفكير الناتجة عن المنطقة الحرجة في تجربة أجرتها عالمة الإدراك يانا سيمولا Jaana Simola وزملاؤها من جامعة هلسنكي University of Helsinki في فنلندا. فقد طلبوا من المشاركين لعب لعبة حاسوبية تتغيّر قواعدها باستمرار؛ مما اضطرهم إلى تعديل استراتيجيتهم على الفور. وكلما اقتربت أدمغتهم من النقطة الحرجة، كان أداؤهم أفضل.
ويظن جيربي أن قرب الدماغ من النقطة الحرجة قد يكون مهمًّا بشكل خاص للإبداع، وهو نوع من التفكير لا تقيسه اختبارات الذكاء التقليدية IQ. يقول: «الإبداع ينبثق من قدرة الدماغ على استكشاف أفكار جديدة، مع الحفاظ على بنية كافية لجعلها ذات معنى. وقد توفّر الحالة الحرجة البيئة العصبية المثلى لهذا النوع من التفكير؛ إذ تُمكّن الدماغ من التنقّل بسلاسة بين التفكير التلقائي المتشعّب، والتفكير المركّز الموجّه نحو هدف محدد».
الابتعاد الكبير عن المنطقة الحرجة – سواء نحو النظام أو الفوضى – قد يؤدي إلى اختلالات خطرة في وظائف الدماغ. يقول جيربي: «مع أن الحالة الحرجة تمنح الدماغ تفوّقه، فإنها تعني أيضًا أن التحولات الطفيفة – الناتجة عن المرض أو الضغط النفسي أو الإصابة – قد تدفعه أحيانًا إلى حالات يكون أداؤه فيها أقل كفاءة أو حتى ضارة».
ويُعدّ مرض ألزهايمر مثالًا واضحًا على ذلك؛ فقد أظهرت عدة دراسات أن أدمغة المصابين بألزهايمر تتعرّض لتلف كبير قبل أن يبدأ تدهور التفكير لديهم بوتيرة سريعة. وقد يُمثّل ذلك اللحظة التي يُكافح فيها الدماغ للبقاء ضمن المنطقة الحرجة؛ مما يؤدي إلى انخفاض حاد في قدراته الحوسبية. يقول فنسنت زيمرن Vincent Zimmern، طالب الدكتوراه من جامعة باري-ساكليه Paris-Saclay University في فرنسا، والذي نشر أخيرًا دراسة عن التطبيقات السريرية للحالة الحرجة: «تأتي لحظة، إذا أزلت عندها عددًا معتبرًا من العقد من الشبكة، تبدأ فعليًّا في رؤية تراجع واضح في تعقيد الشبكة البنيوي، وفي غنى الروابط داخلها».
لماذا ننام؟
بدأت التداعيات المحتملة للحالة الحرجة في الدماغ تجذب اهتمام مجموعة واسعة من علماء الأعصاب الآخرين. يقول أوبيرن: «الاهتمام العام تزايد بوتيرة متسارعة في السنوات الأخيرة. الفكرة بدأت تنتشر». وقد أدى ذلك إلى طرح مقترحات بحثية طموح لما يمكن أن تُفسّره هذه الظاهرة.
يتساءل هينغن عمّا إذا كان النوم قد تطوّر ليُعيد الدماغ إلى نقطته الحرجة. وتُقدّم دراساته على الفئران أدلة قوية على أن الإرهاق يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالحالة الحرجة للدماغ. وفي رأيه فإن «أقوى مؤشر على ما إذا كان الحيوان سيكون مستيقظًا أو نائمًا خلال الساعة المقبلة هو مدى قربه من الحالة الحرجة. فكلما اقتربنا من النقطة الحرجة، زادت احتمالية الاستيقاظ. وكلما ابتعدنا عنها، زادت احتمالية النوم».
ويبدو أن العمل المتواصل للدماغ يدفعه بعيدًا عن نقطة التوازن، بينما يُساعد النوم على إعادة معايرته ليكون قريبًا من المنطقة الحرجة. ومن دون فترة الراحة تلك، يفشل الدماغ في الوصول إلى حالته المثلى؛ ما يؤدي إلى انخفاض الأداء المعرفي، وهو أمر معروف منذ زمن طويل لدى من يعانون الأرق. ويقول هينغن إن طول مدة النوم وجودته يمكن أن يؤثّرا حتى في العمليات التلقائية، مثل: تنظيم التنفّس. ويقول إن هذه التأثيرات الواسعة تقترح أن النوم قد تطوّر لمعالجة عامل أساسي يُنظّم جميع عمليات الدماغ، وهو قربه من النقطة الحرجة.
ويُشاركه أوبيرن الرأي بقوله: «إن إحدى وظائف النوم – وربما أهمها – هي السماح بإعادة معايرة الروابط العصبية، وإعادة ديناميكيات الدماغ ككل إلى النقطة الحرجة».
وقد تُقلّل الوسائل الكيميائية، مثل الكافيين، من الإرهاق عبر دفع الدماغ نحو الحالة الحرجة، لكن ذلك له ثمن؛ فقد دعا الباحث فيليب تولكه Philipp Thölke، من جامعة مونتريال، المشاركين في دراسته إلى النوم في مختبر خلال ليلتين منفصلتين؛ في إحدى الليلتين، تناولوا جرعات من الكافيين بمقدار 100 ملغ – أي ما يعادل فنجان إسبريسو قوي – قبل النوم بثلاث ساعات ثم بساعة واحدة. وفي الليلة الأخرى امتنعوا تمامًا عن الكافيين، ثم طُلب منهم ارتداء غطاء رأس مزوّد بأقطاب كهربائية لقياس النشاط الكهربائي في الدماغ في أثناء النوم، باستخدام تقنية تخطيط كهربائية الدماغ Electroencephalography (اختصارا: التقنية EEG).
وقد وجد الفريق أن الكافيين يدفع الدماغ باستمرار نحو النقطة الحرجة في أثناء النوم. يقول جيربي الذي شارك في إعداد الدراسة التي نُشر ت في مطلع 2025: «لقد أبقى الدماغ في حالة شبه يقظة». وقد لا تكون النتيجة أن المشاركين أمضوا مجرد ليلة مضطربة؛ فالكافيين، وعبر تقليص وقت الراحة، قد يمنع الدماغ من استعادة كامل طاقته بحلول الصباح: «إنه يتداخل على الأرجح مع الوظائف الاستشفائية للنوم».
وقد تُساعد الحالة الحرجة للدماغ – أيضًا – على فكّ لغز الوعي المستعصي؛ فعلى الرغم من صعوبة تعريفه بدقة، يتفق معظم علماء الأعصاب والفلاسفة على أن الوعي، في جوهره، ينطوي على «منظور ذاتي»، سواء في الواقع أو في الحلم، ويشمل ذلك إدراكات أو صورًا ذهنية ذات خصائص مميزة، مثل اللون والشكل.
تقول إحدى الفرضيات الرائدة، المعروفة باسم نظرية المعلومات المتكاملة Integrated Information Theory، إن المنظور الذاتي للوعي ينشأ من طريقة معالجة الدماغ البيانات ودمجها؛ بحيث يكون الناتج الكلي أكثر من مجرد مجموع الأجزاء. والمثير للاهتمام أن النماذج الرياضية تشير إلى أن مؤشرات تكامل المعلومات تبلغ ذروتها عندما يقترب الدماغ من النقطة الحرجة، وهذا يعني أن هذه الحالة ضرورية لوعينا بأفكارنا ومشاعرنا وإحساسنا بالذات.
ومن الطرق التي استُخدمت لاختبار هذه النظرية دراسة تأثير أنواع مختلفة من مواد التخدير؛ فمثلًا يبدو أن مادتي زينون Xenon وبروبوفول Propofol تُزيلان كل مظاهر التجربة الواعية. أما الكيتامين Ketamine فيُحدث حالة انفصال عن العالم الخارجي، من دون أن يُلغي الوعي تمامًا؛ إذ يظل المريض – مثلًا – قادرًا على اختبار أحلام حيّة مملوءة بالأحاسيس القوية وبشعور واضح بالذات.
وقد تُُساعد الحالة الحرجة للدماغ – أيضًًا – على
فكّّ لغز الوعي المستعصي؛ فعلى الرغم من صعوبة تعريفه بدقة، يتفق معظم علماء الأعصاب والفلاسفة على أن الوعي ، في جوهره ، ينطوي على منظور ذاتي
وفي دراسة نُشرت في العام 2024، وشاركت في إعدادها شارلوت ماشكه Charlotte Maschke وستيفاني بلين-موريس Stefanie Blain-Moraes من جامعة مكغيل McGill University في كندا، إلى جانب أوبيرن، وجد الباحثون أن أدمغة المرضى الذين خضعوا لتأثير الكيتامين بقيت قريبة من المنطقة الحرجة، في حين ابتعدت أدمغة من تناولوا زينون أو بروبوفول عن نقطة التوازن. يقول أوبيرن: «يبدو أن الحالة الحرجة للدماغ شرط أساسي للوعي، ونحن في حاجة إلى مزيد من الأبحاث، قبل أن نؤكد ذلك بمزيد من الثقة».
معايرة الدماغ
نظرًا إلى الدور الذي تؤديه الحالة الحرجة في التفكير، من الطبيعي أن نتساءل عمّا إذا كان في الإمكان تعلُّم كيف يمكن معايرة موقع الدماغ داخل هذه المنطقة. ألن يكون من المفيد إبعاده قليلًا عنها قبل النوم، أو دفعه نحو نقطة التوازن عندما نحتاج إلى معالجة معلومات معقّدة، أو توليد أفكار جديدة؟
يقول هينغن، المنشغل حاليًا في الإجابة عن هذا السؤال: «أجري مع وودي (شو) أبحاثًا مثيرة للاهتمام، حول ما إذا كان في الإمكان التأثير في قرب الدماغ من الحالة الحرجة بطريقة تُعزّز التعلّم المعقّد». ومع تحفظه عن الإفصاح عن التفاصيل، يقول إن الأمر يتعلّق بتشكيل أنماط النوم، وإن تجاربه على الحيوانات بدأت تُظهر نتائج واعدة.
ومن الخيارات الأخرى التأمل، لكن يجب اختيار النوع المناسب بعناية؛ فممارسات التأمل على طريقة ساماثا Samathaالبوذية التي تقوم على التركيز الشديد في إحساس واحد مثل التنفّس، تدفع الدماغ بعيدًا عن النقطة الحرجة. يقول أوبيرن: «هذا منطقي؛ لأن الحالة الحرجة تمثّل أقصى درجات الحساسية والمرونة، لكن في التأمل المرتكز على الانتباه، نحاول تجاهل المشتتات و‘بلورة‘ الذهن لإبراز تفاصيل معينة».
أما تأمل فيباسانا Vipassana، أو التأمل القائم على المراقبة المفتوحة، فيُشجّع على الوعي غير التحكّمي بكل الأفكار والمشاعر والأحاسيس التي تمرّ في الذهن. يقول أوبيرن: «هنا نتوقّع أن تزداد الحالة الحرجة، لتصير حساسيتنا تجاه البيئة في أقصاها». وتقدم أناليزا باسكاريلّا Annalisa Pascarella، من المجلس الوطني للبحوث في إيطاليا Italy’s National Research Council، تحليلًا جديدًا يُعزّز هذه الفكرة بأدلة مثيرة للفضول.
استندت الدراسة إلى بيانات جُمعت من 12 راهبًا بوذيًّا في دير سانتاشيتاراما Santacittārāma قرب روما، وسجّلتها لورا مارزيتي Laura Marzetti وفريقها من جامعة كييتي-بيسكارا University of Chieti-Pescara في إيطاليا. طُلب من الرهبان ممارسة تأملَيْ ساماثا وفيباسانا مدة ست دقائق لكل منهما، وخلال ذلك قِيس نشاط الدماغ باستخدام غطاء رأس لتخطيط الدماغ المغناطيسي Magnetoencephalography (اختصارا: التخطيط (MEG، وهو تقنية مشابهة للتخطيطEEG ، لكنها تُقدّم توصيفًا أدق للنشاط العصبي.
وكما توقّع الباحثون، دفع تأمل ساماثا الدماغ بعيدًا عن نقطة التوازن، بينما دفع تأمل فيباسانا الدماغ نحوها. يقول أوبيرن الذي شارك في إعداد الدراسة: «تمكّنوا من جعل أدمغتهم أكثر قربًا من الحالة الحرجة، مقارنة بحالة اليقظة العادية». والدراسة المتاحة، كمسوّدة في انتظار مراجعة النظراء، تشير نتائجها إلى أنه، مع التدريب الكافي، يبدو أن في إمكاننا تعديل نشاط الدماغ بإرادتنا؛ مما يُتيح لنا الوصول إلى الحالة الذهنية المثلى تبعًا للمهمة المطلوبة.
ومن الجدير بالذكر أن كل راهب شارك في الدراسة كان قد راكم أكثر من 2000 ساعة من خبرة التأمل، لكن التقنيات الحديثة قد تُسهّل هذه العملية مستقبلًا. يشير جيربي – الذي شارك أيضًا في إعداد دراسة التأمل البوذي – إلى تقنية تُعرَف باسم التغذية الراجعة العصبية Neurofeedback، وهي تُقدّم للمستخدمين تمثيلًا بصريًّا لنشاط الدماغ باستخدام أجهزة التخطيط EEG المحمولة، في أثناء ممارسة التأمل، ويُعتقد أنها تُسرّع التدريب على بعض تقنيات التأمل.
وفي هذه الأثناء، قد يكون من المفيد أن نتعلّم كيف نُقدّر عقولنا الفوضوية قليلًا؛ فحالات التشتّت الطفيفة قد تكون – ببساطة – علامة على أننا نتموضع بارتياح داخل المنطقة الحرجة، مستفيدين من كل ما تمنحه من مزايا.
© 2025, New Scientist, Distributed by Tribune Content Agency LLC