العلوم الإنسانية والإجتماعية

الليبراليّة الكلاسيكيّة االخاصة بالمجتمع المدني في مجتمع السوق النابض بالحياة

2014 مجتمع السوق

سبايز بوتشر

مؤسسة الكويت للتقدم العلمي

العلوم الإنسانية والإجتماعية التكنولوجيا والعلوم التطبيقية

طوّر واضعو النظريات ما قبل الليبراليين المعنى الحديث "للمجتمع المدني" (Civil Society) في القرن السادس عشر. في فترة قديمة ترقى إلى العام 1583، أعلن توماس سميث (Thomas Smith) أنّ انهيار سندات الإقطاعيين في إنجلترا استحدث عدداً من الرجال الأحرار "المجتمعين" في "ثروة مشتركة" (Common Wealth) أو في "مجتمع مدني" (Wood & Wood 1997, pp. 42-49). وفي ذلك الوقت، تمثّل الخوف الأساسي للمنظّرين في وضع حدّ للسلطة السياسيّة ضمن إطار يعتمد فيه الأفراد "الأحرار" على بعضهم البعض لتأمين معيشتهم ما حتّم عليهم العيش معاً في جماعة.

وبما أنّ العقود التجارية قد ازدهرت، برزت فكرة عمل المجتمع المدني وفقاً لاتفاقات وعهود بين أفراد يحظون بحقوق معيّنة، وعندها، لم تكن تلك الحقوق ديمقراطيّة بعد ولكنْ، في بداية القرن السابع عشر، بدأ الناس يتقبلون فكرة تمتّع الرجال الأحرار ببعض الحقوق الشرعيّة والحريّات التي تؤمّن لهم الحماية وتتيح لهم المطالبة بحقوقهم أمام الدولة. وارتكز جون لوك (1967 ]1689[) على الأفكار هذه عبر دحض تمتّع الملوك بسلطة سياسية مُنحت لهم "بحق إلهي" (Divine Right)، وسلّط الضوء على مبادئ "مجتمع مدني" تنبع فيه السلطة السياسيّة من الشعب. (مراجعة المربع 1.10).

كان مخطط لوك يرتكز على الملكيّة وفي الواقع ادّعى أنّ قمّة "]المجتمع المدني[ الحقيقية تكمن في الحفاظ على الملكيّة (1967 ]1689[)". وبالتالي، قيل إن المجتمع المدني يتشكّل لأنّ الأفراد تشاركوا طوعاً في "عقد اجتماعي" لكي تمارس السلطة السياسيّة بإنصاف في سبيل "المصلحة المشتركة" (Common Good) لأنّ هذه المصلحة اعتبرت كضمانة للملكيّة الخاصّة.

واعتبر أوائل المفكّرين الليبراليين أن المّجتمع المدني يوازي بشكل أكبر أو أقلّ المجتمع التجاري المتنامي في تلك الأيّام. فكان يشكّل حلبةً من الحريّة "بمنأى عن الدولة السياسية"(Polanyi 2001 [1944], p. 120). وأثبت التقسيم الاجتماعي المعقّد للعمل الذي نشأ مع تطوّر الإنتاج خارج المنازل، أنّ الناس لا يزالون يعتمدون على بعضهم بعض. من هنا، بات المجتمع المدني يعتبر "كنقطة ارتكاز يجتمع فيها الأفراد والطاقات الجماعيّة في سوق اقتصادي يستند على الاعتراف القانوني بالملكيّة الخاصّة كجذور للحريّة". (Chandhoke 2005).

ورأى آدم سميث أنّ الحريّة في المساعي الاقتصاديّة اكتسبت قيمة جوهريّة لأنّها رمزت إلى التحرر من أشكال التبعيّة الإقطاعيّة وبالتالي عزّزت الإعتماد على الذات. ولاحظ أيضاً أنّ الحريّة الاقتصاديّة تسهّل نموّ الدخل الذي يجعل "معقولاً عيشَ حياة جيّدة" من خلال تقدّم العلم والفنون وتطوير العلاقات الاجتماعية والسياسيّة ورقيّ الأخلاق في المجتمع (Grampp 1995, p. 15). بالنسبة إلى سميث، هذه هي التحسينات التي تمنح المجتمع صفة "المدنية".

مع ذلك، تخوّف سميث من أثر الجشع السلبيّ على اختلاط الناس ودان ما أسماه فيبلين (1899) لاحقاً بالاستهلاك الواضح. وكان سميث يخشى أن يسعى الأثرياء للاستحواذ على الثروات وإهمال تطوير "التفوّق الأخلاقي والفكري" (Moral & Intellectual Excellence) للمجتمع المدني في نفس الوقت علماً أنّ هذا التفوّق هو غاية المجتمع. (Grampp 1965, p. 17). وردّد الليبراليّون لاحقاً المخاوف هذه علماً أنّهم حاولوا تخفيف الضغوطات بين الفرديّة والمجتمع المدنيّ (مراجعة حلول المجتمع المحليّ لاحقاً في هذا الفصل).

وكان لجون ستيوارت ميل ([1859] 1975) مخاوف مشابهة مرتبطة بالفرد والحياة المشتركة في المجتمع المدني. ارتأى ميل أنّه لا بدّ للناس من التمتع بحرية القيام بما يحلو لهم شريطة ألا تؤذي أفعالهم الآخرين. في هذه الحالة فقط يحقّ للسلطة السياسيّة أن "تتدخّل" بحريّة "الفرد". وهذا ما أطلق عليه لاحقاً أشعيا برلين (1969) اسم "الحريّة السلبيّة" (Negative Liberty) الواردة في الفصل الرابع.

وفي الآونة الأخيرة عاد الليبراليّون الجدد إلى هذه الأفكار المتعلّقة بالمجتمع المدني، وتماماً على غرار خبراء الاقتصاد الكلاسيكيين الجدد، اعتبروا أنّ الأفرادَ مستقلّون، وأنّ المجتمع المدني فضاء يلتقي فيه الأفراد إن شاؤوا ذلك. وشدّد الليبراليّون الجدد على أهمية تعزيز المجتمع المدني من خلال تقليص دور الدولة عبر السماح للمنظمات التطوعيّة بتأدية وظائفها في  مجال الرعاية الاجتماعية (مراجعة Green 1993).

المربع 1.10 الثورتان الفرنسيّة والإنجليزيّة

كانت الثورة الفرنسيّة في فترة من النزاع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي بين الجمهوريين التقدميين والملكيين المحافظين في "فرنسا" وفي أنحاء أوروبا بين الأعوام 1789 و1799. وقد شهدت الثورة المعروفة بحدة عنفها، انتفاضات سياسيّة متعدّدة وإعلانات شتّى ناهيك عن حروب أهليّة وخارجيّة. وأدّت الثورة دوراً مطرداً في بلورة أفكار وحركات وضعت أسس تطوّر المجتمع المدني آنذاك.

هدف الثوّار الفرنسيّون إلى استبدال النظام القديم حيث كانت السلطة المطلقة بيد النظام الملكي أمّا تنظيم الدولة السياسي فكان حكراً على أولئك المتحدرين من سلالة النبلاء. لذا عمل الثوار على أن تشمل مُثل الحريّة والمساواة شريحة أكبر من الناس.

أفضت الثورة الفرنسيّة إلى إصلاحات مهمّة خاصة وأنّها عزّزت سيادة دولة علمانيّة تمثّل شعبها (الجمهوريّة الفرنسيّة) وتطغى على كلّ من النظام الملكي والكنيسة بدون ذكر المظاهر العملية والتاريخيّة لإمكانيات التغيير الاجتماعي الجماعي وتكلفته. وأدخلت أيضاً إصلاحات في حسّ المواطنة وسيادة القانون وحقوق الإنسان كما ورد في إعلان حقوق الإنسان والمواطن لعام 1789 (على الرغم من أنّ الوثيقة لم تمنح حقوقاً للمرأة والعبيد).

وقبل قرن من الزمن، قامت "إنجلترا" بثورتها السياسيّة الخاصة العام 1688 (Porter 2000)، وشكلت بعدّة طرق مصدر وحي للتقدميين الفرنسيين. بعد انتهاء الحرب الأهليّة بعقود، تمكنت الثورة الإنجليزيّة من تأسيس نظامٍ ملكيَ دستوريّ وضع حداً لسلطة الملك المطلقة.

ألقى ذلك أسس الديمقراطيّة البرلمانيّة الإنجليزيّة، إلا أنّ الأفكار القديمة حول الهرمية والتقاليد بقيت سائدة (Edmund Burke 1790)، وشقّت طريقها في هياكل سياسيّة جديدة تشدد على المواطنة والحقوق الفردية. ونجم عن ذلك هيئات سياسيّة حديثة (الحكم البرلمانيّ وفصل السلطات) ربطت المشاركة السياسيّة بحيازة الممتلكات. لم يتم أيّ تصويت جماعيّ لتمثيل برلماني مع استبعاد النساء والفقراء عن التصويت والكاثوليك عن البرلمان الجديد والعائلة المالكة.

تحدّت أفكار الحريةِ والمساواةِ المؤسسات والأعراف التقليدية لذلك كانت الثورتان الفرنسيّة والإنجليزيّة حدثين مهمّين رسما شكل المجتمع المدني (على الرغم من اللجوء إلى وسائل "غير مدنية" أحياناً)، وشكّلتا المحفّز الأهم لحركتين إنسانيتين عظيمتين طبعتا القرن التاسع عشر ألا وهما الليبراليّة والاشتراكية المتأصّلتان أيّما تأصلٍ في المجتمع المدني.

الاستجابة المجتمعية

تختلف نظرة المجتمعيين عن مقاربة اللّيبراليين الكلاسيكيين للمجتمع المدني، فهم يولون أهمية كبرى لتمثيل الإنسان كفرد بشريّ كامل. فهم يركزون على الطريقة التي يتبعها المجتمع المدني لصقل الأفراد بكيانهم الخاص عوضاً عن كون المجتمع مجرّد فضاء يتفاعل فيه أفراد اكتمل نموّهم. ومن شأن الاعتبار هذا أن يترك أثراً مهماً على التاريخ والعادات. وغالباً ما يتساوى المجتمع المدني مع المجتمع المحليّ ومزيج من القيم الموروثة والتقاليد والمعتقدات التي تعتنقها المجموعة.

وتعتبر ممثلية المجتمع المدني فائقة الأهمية بالنّسبة إلى المجتمعيين الذين يأثرون المنظمات غير الحكوميّة ومنظمات المجتمع المحلي بغية تحقيق أهدافهم. وتشمل هذه الأهداف تعزيز الديمقراطيّة على الحكومة والسلطة السياسيّة بالإضافة إلى تقوية روابط المجتمع المحلي. ويعدّ الانتماء إلى المجتمع المحلي ابتكاراً جديداً نسبياً ومع ذلك ترقى الأفكار المتعلّقة بأهميّة قيم المجتمع المحليّ والمجتمعيّة إلى زمن بعيد إذ أولاها أهميةً قصوى الليبراليّون الاجتماعيّون والإصلاحيون الاجتماعيون في القرن التاسع عشر (أيضاً مراجعة الفصل الخامس).

وعوّل الليبراليّون الاجتماعيون على الاهتمام المتجدد بالروابط الاجتماعية والمجتمع المحلي بمعزل عن تناقضات الرأسماليّة الصناعيّة. وكان من شأن انحدار الأعراف وازدياد الاستهلاك وارتفاع الشكوك الأخلاقيّة والدينيّة والتمدن والفقر المدقع أن أضعف النسيج الاجتماعي التقليدي، ما حفّز الرغبة في إقامة "روابط أخلاقيّة توحّد المواطنين" وتساعدهم على التغلّب على "الشك في الحياة الفردية" ( Caird1907 في (den Otter 1997, p.67)).

مع ذلك، لم تتجاهل هذه الروابط الأخلاقيّة "الفرد" بل شدّد الليبراليّون الاجتماعيون على أنّ حقوق الفرد الأساسيّة تنسجم مع السعي إلى تحقيق المصلحة المشتركة. من هنا، نادوا بالحقوق بمعناها الإيجابي (الفصل الرابع) كوسيلة لمنح المواطنين كافةً فرصة التطوّر والازدهار لأنّ "المواطن الصالح" (Good Citizens) يسهم إيجابياً في المجتمع الذي بدوره يسهّل عمليّة التقدّم (Sawer 2003, p. 8). لقد تمّ تأكيد فكرة الحقوق الإيجابيّة والمواطنة الفعّالة داخل المجتمع المدني بطريقة مختلفة عن تلك المقترحة في سياسة عدم التدخّل المعتمدة في "دول الحد الأدنى" (الفصل الخامس).

رفض الليبراليّون الاجتماعيون موقف الكلاسيكيين الجدد القاضي بانبثاق قيم الفرد وحقوقه من داخله وإنّما أقرّوا بأنّ الفرد هو ثمرة المجتمع وأنّ ذلك المجتمع المحلي هو الأساس لنشأة ا"لأخلاق الذاتيّة" (Genesis Of Moral Self) (Alexander 1898 في(den Otter 1997, p. 70) ). وبالتالي، يمنح المجتمع المدني والمجتمع المحلي "إطاراً أخلاقيّاً" لتحديد "المصلحة المشتركة" (في (den Otter 1997, p. 70)). وكما ذكر الفصل الخامس، عكست ابتكارات الليبراليين الاجتماعييّن السياسيّة والنظريّة القدرة على تعزيز الديمقراطيّة الاجتماعية وشقّت الطريق أمام دولة الرفاه الحديثة.  

وفي أواخر القرن العشرين هيمن فكر الليبراليين الجدد مجدداً ما دفع إلى تجدّد الاهتمام بالمجتمع المحليّ والمجتمع المدنيّ (كما ورد في الفصلين الخامس والسادس). يعود بنا هذا النوع من التنظير لدى الليبراليين الجديدين إلى سياسة عدم التدخّل الكلاسيكيّة. ويعتقد المجتمعيون أنّ الليبراليّة هي عموماً فرديّة وهي تحدّد الحقوق ولذلك تعجز عن مراعاة العلاقات الاجتماعية والمجتمعات المحلية (Sandel 1982). ويشير بعض النقّاد إلى أنّ الإصلاحات الاقتصاديّة الليبرالية الجديدة تقوّض الروابط الاجتماعية أساس كلّ مجتمع مدني ما يؤدي إلى إنشاء مجتمع أكثر فرديّة (Cox 1995). ويشير آخرون إلى انخفاض نسبة المشاركة السياسيّة مدّعين أنّ هذه النزعة الفرديّة تقلّص قدرة المجتمع المدني على  تقييد الدولة.

وفي المقابل، يعيد المجتمعيّون المعاصرون سكب اهتمامهم على أوجه "المصلحة المشتركة" والوسائل التي يمكن للمواطنين استخدامها بغية الاسهام بفعالية في المجتمع المدني والعمل السياسيّ. من هنا، سعوا إلى دعم رأس المال الاجتماعي ومؤسسات المجتمع المدني. وقد عكس هذه الأهداف وبشكل واضح، البيان الرسمي للشبكة المجتمعيّة التي أسّسها أميتاي إيتزيوني (Amitai Etzioni) في العام 1993:

تعترف المقاربة المجتمعية بأنّ المحافظة على الحريّة الفرديّة ترتبط بالحفاظ الفعّال على مؤسسات المجتمع المدني حيث يتعلّم المواطنون احترام الغير واحترام أنفسهم؛ وحيث نكتسب الشعور الدائم بالمسؤوليّات الشخصيّة والمدنيّة بالإضافة إلى تقدير حقوقنا الشخصيّة وحقوق الآخرين؛ وحيث نطوّر مهارات الحكم الذاتي وبالتالي حكم أنفسنا ونتعلّم خدمة الآخرين لا أنفسنا فحسب.

(الشبكة المجتمعيّة، من دون تاريخ) (Communitarian Network, n.d)

ويشير دعم أفكار مماثلة إلى مفهوم الحقوق الإيجابيّة، فبدون مجتمع، يفتقر الأفراد للحقوق؛ لذلك نجدهم يتشاركون مسؤوليّة الإسهام في تشكيل حياة جماعيّة. من هنا، يدعم المجتمعيّون عموماً السياسات التي تموّلها الضرائب نذكر على سبيل المثال التعليم والإسكان المدعومين من الدولة، والرعاية الصحيّة الشاملة، ودعم العاطلين عن العمل وحماية البيئة. ومن شأن العناصر كافة مجتمعة أن تنشئ "المواطن الصالح" و"الحياة الجيدة".

ومع ذلك، يتفق جمع من المجتمعيين مع مجموعة عناصر واردة في مقاربة الليبراليين الجدد الخاصة بالدولة. ويشدّد المجتمعيّون على أهميّة مقاربة العمل "من الأسفل إلى الأعلى" في السياسة بدلاً من "الرأس إلى الأسفل" مثلما هو الحال في بيروقراطيّات الدولة المركزيّة. قد تموّل الدولة "الخدمات" شريطة تأديتها على يد العائلات أو المجتمع المحليّ عند الإمكان. تتضّح هذه الأفكار جلياً في مروحة من سياسات حكومات "الطريق الثالث" (Third Way Governments) وممارساتها، وسنعرضها لاحقاً في هذا الفصل.

[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى