الرياضيات والهندسة

مبدأ انعكاس الضوء، ومرايا أرخميدس الحارقة

2000 الرياضيات والشكل الأمثل

ستيفان هيلدبرانت و انتوني ترومبا

مؤسسة الكويت للتقدم العلمي

الرياضيات والهندسة الهندسة

لقد مكن مبدأ الأمثليات الأول في الفيزياء من تفسير انعكاس الضوء وذلك بوساطة مرآة مقوسة.

ومنذ أيام فيثاغورس كان اليونانيون منكبين على دراسة الأشعة الضوئية. وفي زمن مبكر يعود إلى عام 490 ق.م ذكر إمپيدكُلْس Empedocles (من جزيرة صقلية) أن الضوء يسير في الفضاء بسرعة منتهية. ولم يجر تحقق هذه الدعوى الرائعة حقاً إلا عام 1676 من قبل عالم الفلك والرياضيات الدانمركي . O>رومر Romer (1710-1644)<

إن معظم ما كان معروفاً عن الضوء عند الإغريق وارد في بحث منسوب إلى إقليدس (330-270 ق.م تقريباً). الذي عاش في مدينة الاسكندرية التي أسسها عام 331 ق.م الإمبراطور الاسكندر (الذي يدعى لسوء الحظ الاسكندر الكبير) عند مصب نهر النيل. وقد غدت تحت حكم البطالسة المركز العلمي للعالم. وهو مركز حافظت عليه طول خمسة قرون. وبعد انهيار دولة أثينا المدينية عام 338 ق.م. أصبحت الأسكندرية مركز الثقافة اليونانية. وفي هذه الحاضرة، كانت المعارف تجمع وتنشر في سائر أرجاء العالم القديم. وفي عام 285 ق.م. تأسس المتحفMuseum  (أي هيكل الإلاهات التسع الشقيقات اللاتي يحمين العلوم والفنون والتي كان يطلق الإغريقيون على كل منها اسم ميوز Muse ). وكان المتحف مركزاً ثقافيًا يتاح للعلماء فيه الدراسة والبحث، وكانت مكتبته الشهيرة تحوي، في ذروة ازدهارها، قرابة 750000 مخطوطة. وفي الاسكندرية، كتب إقليدس مؤلفه الأصول Elements (لعلم الرياضيات) الذي غدا واحداً من أوسع الكتب انتشاراً في العالم الغربي (إذ يوجد له 1700 طبعة). وفي الحقيقة، فإن الأصول مؤلف من 13 كتاباً جمع فيها إقليدس معظم المعارف الرياضياتية في عصره بحيث غدا هذا المؤلف تحفة فنية تتسم بسلامة المنطق ووضوح الفكر والأسلوب. وهذا المؤلف هو في الأصل كتاب في علم الهندسة، لكنه يحوي أيضاً مبرهنات في نظرية الأعداد وبعض القضايا المتعلقة بالسطوح والحجوم. وعندما سأل الملك الاسكندري سوتر Soter إقليدس عن إمكان تعليم الهندسة بأسلوب أسهل من قراءة كتابه الأصول أجاب قائلاً: "ليس ثمة طريق ملكي إلى علم الهندسة".

وفضلاً على كتاب "الأصول" فقد وصلتنا مؤلفات أخرى لإقليدس، من بينها كتابا البصريات Optics  و"نظرية المرايا" (كاتوپريكا) Catoptrica. وقد ظل هذان الكتابان حتى القرن السابع عشر أساسيين بالنسبة إلى علم البصريات الهندسي، تماماً كما كان كتاب الأصول بالنسبة إلى الرياضيات.

وقد نص إقليدس في كتابه البصريات على أن "الضوء يسير في الفضاء وفق خطوط مستقيمة"، وبعد ذلك استخدم هذه النتيجة مع نتائج أخرى من أجل دراسة طبيعة الرؤية. وقد قدم في كتابه "نظرية المرايا" القانون

الأساسي في الانعكاس الذي ينص على القاعدتين التاليتين المتعلقتين بشعاع ضوئي وارد إلى مرآة ثم منعكس عنها:

القاعدة الأولى: إن مستوى ورود الشعاع إلى مرآة يطابق مستوى انعكاسه.

القاعدة الثانية: إن زاوية ورود الشعاع مساوية لزاوية انعكاسه.

لنفترض أن الشعاع الوارد يسقط على المرآة في نقطة  p، وليكن L العمود على المرآة في هذه النقطة. عندئذ يسمى المستوى الذي يحتوي الشعاع الوارد والعمود L مستوى الوقوع plane of incidence، في حين يسمى المستوى الذي يحوي الشعاع المنعكس والعمود L مستوي الانعكاس Plane of reflection. كذلك، فإن متممة الزاوية الحادة بين الشعاع الوارد والعمود L  تسمى زاوية الوقوع angle of incidence كما تسمى متممة الزاوية الحادة بين الشعاع المنعكس والعمود L زاوية الانعكاس angle of reflection..

وهكذا فإن القاعدة الأولى تنص على أن الشعاعين الوارد والمنعكس يقعان في مستوٍ واحد يعامد المرآة. ويقطع هذا المستوي العمودي المرآة وفق منحن مستو ٍ C، يكون مستقيماً في حالة مرآة مستوية، لذا فإن إنشاء الشعاع المنعكس هو مسألة في الهندسة المستوية يمكن حلها في المستوى الذي يحوي المنحني C . أما القاعدة الثانية فمفادها أن زاويتي الورود والانعكاس في هذا المستوي يجب أن تكونا متساويتين. وهكذا يقودنا ذلك إلى دراسة انعكاس الأشعة الضوئية عن منحنيات مستوية.

وبعد إقليدس بزهاء 400 عام، اكتشف العالم الاسكندري هيرون Heron (عام 100 ب.م. تقريباً) قانوناً أساسياً جداً يكمن وراء قانون الانعكاس. وقد ذكر أن هذا القانون ينتج من المبدأ الذي ينص على أن الضوء يجب أن يسلك دوماً أقصر الطرق. وبغية إيضاح هذا الأمر.

قانون الانعكاس في حال مرآة منحنية:  = .

 لنمعن النظر في الانعكاس عن مرآة مسطحة. لقد اعتبرت هذه المسألة مكافئة لانعكاس شعاع في خط مستقيم. وهكذا لنفترض أن لدينا في إحدى جهتي المرآة نقطتين p و Q ، وأننا نود السير من  p، ونلمس المنحني، ومن ثم نذهب إلى Q. والسؤال الذي يدر الآن يدور حول أقصر طريق يحقق لنا هذا الهدف.

ويمكن طرح هذه المسألة الرياضياتية ذاتها كمسألة مختلفة نوعاً ما تتصل "بعالمنا الحقيقي". لنفترض أن راعي بقر على صهوة جواد يريد العودة من المرعى إلى مزرعته بعد حلول الظلام، إلا أن حصانه عطشان جداً. فإن كانت المزرعة وراكب الحصان موجودين في جهة واحدة من الحافة المستقيمة للنهر، فما هو أقصر طريق يتعين على الراعي أن يسلكه قاصداً بيته بعد أن يكون قد سقى

 

 

حصانه من النهر؟ كانت إجابة هيرون هي أن على الراكب أن يتجه على خط مستقيم من النقطة P إلى نقطة R في حافة النهر، ثم على خط مستقيم من R إلى  Q، حيث يجري اختيار R  على نحو تكون فيه زاوية الورود مساوية لزاوية الانعكاس. ونعطي برهاناً مختزلاً على مبرهنة ضمن الشرح المتعلق بالشكل الوارد في الصفحة المقابلة.

والسؤال حول "تحديد أقصر الطرق" هو في الحقيقة سؤال واقعي جداً، إذ إن كلاً منا لا بد أنه كان في أحد الأوقات في عجلة من أمره للوصول إلى مكان معين، ولا بد من أنه يكون قد فكر في كيفية بلوغه ذلك المكان بأقصر طريقة ممكنة.

إثبات لمبرهنة هيرون:

لما كانت القطعة المستقيمة هي  أقصر الوصلات بين نقطتين، فإنه يمكننا افتراض أن أقصر الطرق مؤلف من قطع مستقيمة. لنفترض أن أقصر الطرق يلمس المستقيم L في نقطة ما من R . لتعيين R، ارسم العمود النازل من P على L حيث S هي موقع العمود. وعلى هذا العمود. حدد نقطة P' تحت L بحيث تكون المسافة PS تساوي المسافة SP' . لتكن R هي نقطة تقاطع المستقيم الواصل بين Q و P' بالمستقيم L. لنرسم المستقيم الواصل بين P و R . لاحظ أن الزوايا الثلاث   متساوية. فإذا كانت R أي نقطة أخرى على L ، فإننا نستنتج من حقيقة أن مجموع ضلعين في مثلث أكبر من الضلع الثالث، أن الخط المنكسر PRQ هو أقصر الطرق الممكنة الواصلة بين P و Q والتي تمس L.

 هذا ويمكن تعميم المسألة السابقة بعدة طرق، وسننظر الآن في بعض منها. لنأخذ، مثلاً، نقطتين P و Q بين مستقيمين L و  M، ولنطرح السؤال هنا عن أقصر الطرق من P إلى Q الذي يلمس أولاً الخط  L، ثم يلمس الخط  M، وأخيرا يذهب إلى Q. إن الجواب هو خط منكسر يحقق قانون الانعكاس في كل من L و  M.

عرضنا في أمثلتنا الأولى لانعكاسات عن خطوط مستقيمة، وهذه تطابق الانعكاس عن مرايا مسطحة، وقد بحث اليونانيون أيضاً في الانعكاسات بوساطة مرايا منحنية أو خطوط منحنية، وتشمل هذه القطوع المخروطية.

لنبدأ بقطع ناقص، فكما سبق ورأينا، كان اليونانيون يعرفون أن لكل قطع ناقص بؤرتين، P و Q مثلاً، وان لهاتين البؤرتين الخاصة الشهيرة التالية:

في جميع النقاط R على القطع الناقص، يكون المجموع QR + PR لبعدي R عن P و Q ثابتاً، وليكن D مثلاً. وفضلاً على ذلك، فإن المجموع QR + PR لكل نقطة R من المستوي يكون أصغر من  D، أو أكبر من  D، أو يساوي  D، وذلك على الترتيب حسبما تكون R واقعة داخل القطع، أو خارجه، أو عليه.

لنرسم الآن مماسا للقطع الناقص في نقطة ما R منه، كما هو مبين في الشكل العلوي. عندئذ تقتضي خاصة القطع الناقص التي جئنا على ذكرها أن الخط المنكسر من P إلى R ثم إلى Q يجب أن يكون أقصر الطرق الممكنة من P إلى Q عن طريق المماس للقطع في P. وباستخدام مبرهنة هيرون التي تنص على أن خاصة الطريق الأصغري تقتضي قانون الانعكاس. فإننا نجد أن زاوية الورود يجب أن تساوي زاوية الانعكاس. ويعني هذا أن جميع الأشعة الضوئية الصادرة عن إحدى البؤرتين ستنعكس بوساطة القطع الناقص بحيث تمر جميعاً بالبؤرة الأخرى. فإذا ولدنا الآن مرآة ناقصية بتدوير القطع الناقص حول محوره الرئيسي (وهو المستقيم المار ببؤرتيه)، فإننا نحصل على مرآة تتمتع بالخاصة المخيفة التالية: إذا وضعنا منبعاً ضوئياً قوياً، مثل الشمس، في إحدى البؤرتين، فإن أشعته ستتجمع كلها في البؤرة الثانية محرقة كل ما تلاقيه هناك.

وللقطع المكافئ خواص إحراق مشابهة. ويمكن اعتبار القطع المكافئ قطعاً ناقصاً أزيحت إحدى بؤرتيه بعيداً إلى اللانهاية. لذا فإن جميع الأشعة الضوئية الصادرة عن محرقه تولد حزمة من الأشعة المتوازية بعد أن تكون قد انعكست بوساطة القطع المكافئ. لنتخيل الحالة المعاكسة – ونعني بذلك ورود عدة أشعة ضوئية من مسافة بعيدة، كأن تكون صادرة عن الشمس. إن هذه الأشعة ستكون متوازية علمياً، ومن ثم فإن القطع المكافئ سيعكسها كلها بحيث تتجمع في نقطة واحدة هي بؤرة القطع المكافئ. لندور القطع المكافئ المستوي حول محوره ليشكل مرآة مكافئية ثلاثية البعد. إن مثل هذه المرآة ستجمع كل الأشعة الموازية لمحورها في نقطتها البؤرية، وهذا يجعل كل ما يوجد في هذه النقطة يتحول بسرعة إلى رماد، لذا فمن الممكن استخدام الشمس كسلاح رهيب(1).

وفي 126 ق.م. عقدت مدينة سرقوسة Syracuse في جزيرة صقلية، التي كانت جزءاً من الحضارة اليونانية،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  1. في الحالة العامة لا يمكن للمرء توجيه المرآة على جسم يراد إحراقه، وفي الوقت نفسه استقبال أشعة الشمس بحيث توازي المحور. وبدلا من ذلك، فإن الأشعةالشمسية ومحور المرآة المكافئية يصنعان زاوية، وبعد انعكاس الأشعة، فإنها لن تتجمع في نقطة واحدة، بل تشكل سطحاً يسمى سطحاً كاوياً أو حارقاً caustic or burning surface، وهو سطج هندسي معقد جداً، ولكنه كتقريب أول، يحوي على الأغلب نقطة قُرنية cusp point، وما يحدث هو أن معظم الأشعة تمر خلال كرة بالغة الصغر تحيط بهذه النقطة. لذا فإنه يوجد تركيز قوي للأشعة قرب النقطة القرنية، ومن ثم فإن عملية الإحراق يمكن مع ذلك أن تحدث.

تحالفا مع مدينة قرطاجة في معركتها مع روما خلال حربها الثانية من الحروب القرطاجية Punic  الثلاث. ونتيجة لهذا الحلف، فقد حاصر الرومان سرقوسة عام 214 ق.م. وتروي الأساطير أن "مرايا أرخميدس الحارقة" مكنت أهالي هذه المدينة القديمة من استخدام الشمس الصقلية الصيفية الوهاجة في إحراق الأسطول الروماني وتحويله إلى رماد. ترى، كيف كانت تلك المرايا ؟

لقد قضى أرخميدس (287-212 ق.م)، وهو أعظم علماء رياضيات العصور القديمة، معظم حياته في مدينة سرقوسة التي ولد فيها، ويقال إنه أتم دراسته في متحف الاسكندرية، لكن ما نعرفه على وجه اليقين هو أنه زار مصر في إحدى المناسبات مرة واحدة على الأقل.

 

تستند شهرة أرخميدس العلمية، في المقام الأول، إلى اكتشافاته العديدة في الرياضيات. فمثلا، وجد تقريبا ممتازاً لقيمة  π، وهي المساحة المحاطة بدائرة نصف قطرها 1، كما تمكن من تبيان أن π يجب أن يكون عدداً محصوراً بين  3 و  3. وفضلاً على ذلك فإنه حسب عدة حجوم معقدة لمجسمات ومساحات السطوح، مثل حجم الكرة التي نصف قطرهاr3)r  (

ومساحة سطحها4π r2).). وقد برهن على أن حجوم المخروط ونصف الكرة والأسطوانة. التي لها جميعاً نصف القطر نفسه والارتفاع نفسه، تتناسب فيما بينها كالأعداد 1:2:3، وكان فخوراً جداً بهذه المبرهنة. وكانت هذه النتائج الرياضياتية التي حصل عليها إنجازات رائعة حقاً في تلك الأيام.

إضافة إلى كون أرخميدس عالم رياضيات موهوباً على نحو استثنائي، فإنه كان أيضاً من عباقرة علم الميكانيك الذين حظوا بإكبار الكتاب الذين عاصروه والذين أتوا من بعده. ومن بين مبتكراته الشهيرة لولب أرخميدس  Archimedean screw، وهو آلة لرفع المياه استعملت في مصر لري الحقول. وفي إسبانيا لضخ المياه إلى خارج المناجم، والقبة السماوية الصنعية Planetarium، وهي مجموعة من الكرات كانت تحاكي فيها حركة الأجرام السماوية بوساطة آلية بارعة، ويمكن أن نجد في أيامنا هذه أشكالاً ضخمة من هذا الاختراع الميكانيكي في العديد من متاحف العلم الكبيرة. و من الواضح أنها كانت شائعة في العصور القديمة كما في هذه الأيام. وقد ذكر الكاتب كلوديامس Claudianus (نحو عام 400 ب.م) عجائب جوپتر لدى رؤية عمله منسوخاً على كرة زجاجية من قبل عالم رياضيات من سرقوسة، كما كتب شيسيرو Cicero تقريراً يذكر فيه أن مارسيلوس  Marcellus، فاتح سرقوسة عام 212 ق.م، أخذ قبتين سماويتين صنعيتين غنيمة من المدينة التي استولى عليها.

بيد أن أعظم شهرة حظي بها أرخميدس في العصور القديمة لم تكن مثمرة لاختراعاته السلمية، إنما كانت نتيجة إسهاماته في الدفاع عن سرقوسة ضد الرومان. فعندما حاصر الرومان المدينة عام 214 ق.م واجهوا عدواً مزوداً بعالم رياضيات عجوز عمره 73 سنة، استعمل ضدهم أسلحة فتاكة غير متوقعة. وعندما كانت فيالق الرومان تقترب من المدينة، كانت تقصف بمدفعية فعالة جداً تطلق قذائف حجرية بعيدة المدى، وبقدر كبير من المقذوفات القصيرة المدى، وكان يجري إغراق الأسطول الروماني برافعات ضخمة ترميه بحجارة، أو ترفع السفن من مقدمتها بقبضة حديدية ثم تقذفها في الماء. وقد ذكر پلوتارك Plutarch (في كتابه حياة مارسيلوس Life of Marcellus ) أن القائد مارسيلوس خاطب جنوده قائلا:

"هلا توقفنا عن القتال ضد هذا البراياروس Briareus الهندسي (وهو في الأساطير اليونانية مارد له مئة ذراع) الذي يستخدم سفننا لغرف الماء من البحر، والذي يقلب على نحو مذل سلالمنا التي كنا نستعملها للستلق على أسوار المدينة المحاصرة، والذي يبز بقذائفه الكثيرة التي كان يرشقنا بها دفعة واحدة، المارد ذا المئة ذراع الذي ذكرته الأساطير".

ويروي پلوتارك أن الرعب دب في صفوف جنود الرومان إذ قال:

"إذا رأوا مجرد حبل أو قطعة من الخشب مدلاة خلف الأسوار، بادروا إلى الهرب والصراخ معلنين أن أرخميدس اخترع ثانية آلة جديدة للقضاء عليهم".

بيد أن أسوأ ما أحاق بجنود الرومان هو تحويل سفنهم إلى رماد بسلاح "المرايا الحارقة" الذي ابتكره أرخميدس. ترى، هل استعملت مثل هذه المرايا فعلا؟ في الحقيقة، لم يأت أي من مؤرخي تلك الأيام على ذكرها، ولم ترد إلا في القصص التي كتبت بعد ذلك بكثير. وقد جرى الحديث عنها أول مرة في كتاب ألفه كالين199-129) Galen ب.م) وهو طبيب يمثل مع هيپوقراط Hippocates أعظم أطباء العصور القديمة. وفي عام 1200، أورد المؤرخ البيزنطي تْسِيتِسْ Tsetses، وهو كاتب لا تحظى مؤلفاته بثقة كبيرة لسوء الحظ، الوصف التالي لما يفترض أن يكون أرخميدس قد أنجزه:

"عندما أصبحت القوارب الرومانية في مجال رمي السهام، صنع أرخميدس مرآة سداسية من نمط معين، ومرايا صغيرة لها 24 حرفاً، ووضعها جميعاً على مسافة ملائمة، وكان يحركها بالاستعانة بمفصلات وأسلاك معدنية. وقد نظم وضع المرآة السداسية بحيث كانت دائرة الزوال في الصيف والشتاء تقسمها إلى شطرين متساويين، وكانت أشعة الشمس الساقطة على هذه المرآة تضرم بعد انعكاسها ناراً كثيفة محولة القوارب الرومانية إلى رماد، حتى عندما كانت تبتعد عن مجال رمي السهام".

من المحتمل أن تكون هذه المجموعة من الصفائح العاكسة قد ولدت الأثر نفسه الذي تحدثه مرآة مكافئية parabolic mirror. وفي القرن السادس، أشار الرياضياتي والمهندس المعماري انْثيمينُسْ Antheminus إلى أن أرخميدس استعمل مرآة سداسية. وقد رفض العديد من المؤرخين هذه القصة واعتبروها محض خرافة. وقد أثارت الدعاوى والشكوك حول إنجازات أرخميدس البارعة قدراً كبيراً من الجدل طوال قرون. ومع ذلك تجدر الإشارة إلى أن إمكان تحقيق اختراع أرخميدس أمر أثبته تجريبياً عالم الطبيعة الفرنسي . G>بوفون< Buffon  عام 1747، والمهندس اليوناني . I>ساكاس< Sakkas عام 1973.

استمر حصار سيراكوز عامين اثنين، ولم تسقط المدينة إلا نتيجة للخيانة، وإثر سقوطها قتل العالم العجوز من قبل أحد الجنود الرومان، على الرغم من أن القائد مارسيلوس أمر جنوده بالإبقاء على حياة أرخميدس. وكما تروي الأسطورة، فقد كان أرخميدس آنذاك جالساً قبالة بيته يدرس بعض الأشكال الهندسية المرسومة على الرمل. ولدى اقتراب الجندي الروماني منه، صاح فيه أرخميدس: "إياك أن تفسد أشكالي"، فما كان من الجندي الهمجي الذي شعر بالإهانة إلا أن قتل الرجل العظيم.

وقد أقام مارسيلوس، كنوع من التعويض، ضريحاً لأرخميدس نقش عليه كرة مرسومة داخل أسطوانة ترمز، طبقاً لرغبات أرخميدس، إلى المبرهنة المحببة إليه حول حجوم المخروط والأسطوانة والكرة. وعندما زار شيسيرو (106-43 ق.م) صقلية، تمكن من تحديد مكان الضريح الذي كانت تنبت فوق الشجيرات والأشواك.

ومن الواضح أن أرخميدس كان ينظر إلى إسهاماته في الهندسة العملية على أنها ثانوية وغير جديرة بالتذكر من بعده. وفي هذا الصدد كتب پلوتارك يقول:

"لم يرض بأن يخلف وراءه أي عمل مكتوب حول هذه المواضيع، إذ كان يعتبر بناء الآلات شيئاً فيه حطة، وكذلك كل فن موجه بعامة لجني الربح، ولم يكن يكافح ويجهد نفسه إلا في سبيل تلك الأشياء التي نظراً لجمالها وروعتها، تبقى بعيدة عن الاتصال بالمطالب العملية للحياة".

وإذا فكرنا في كل الفظائع الناجمة عن الأدوات العلمية والهندسية المستخدمة في العديد من الحروب. فإن تصرف أرخميدس يبدو معقولا إلى حد ما. وقد كتب عالم الرياضيات الإنجليزي العظيم . H.G>هاردي< عام 1940 ما يلي:

"هناك رياضيات حقيقية يبدعها رياضياتيون حقيقيون، وهناك ما يمكن أن أسميه رياضيات "تافهة" لعدم وجود تسمية أفضل. فالرياضيات التافهة يمكن تسويغها بالمناقشات..، لكنه لا يوجد مثل هذا الدفاع عن الرياضيات الحقيقية، التي يجب أن تسوغ كفن إذا كان بالإمكان تسويغها بأية حال. ولا يوجد البتة أي تناقض أو أي أمر غير عادي في وجهة النظر هذه التي يتمسك بها علماء الرياضيات عامة. وثمة نتيجة مريحة يستسهلها عالم الرياضيات الحقيقي. فالرياضيات الحقيقية ليس لها آثار في الحروب. فلم يكتشف أحد حتى الآن هدفاً حربيا يمكن استنتاجه من نظرية الأعداد أو النسبية. ويبدو من غير المحتمل أن يتمكن أحد من فعل ذلك لسنوات عديدة. صحيح إن هناك فروعاً من الرياضيات التطبيقية، مثل علم القذائف ballistics  والديناميك الهوائي  aerodynamics، طورت خصيصاً للحرب وتتطلب تقنية معقدة تماماً، وقد يكون من الصعب تسميتها "تافهة"، إلا أنه ليس بإمكان أي منها أن يصنف في عداد الرياضيات "الحقيقية"، ولا شك في أنها قبيحة على نحو مثير للاشمئزاز ومملة إلى درجة غير محتملة.. لذا فإن الرياضياتي الحقيقي ينعم براحة الضمير؛ وليس ثمة ما يوجه ضد أي قيمة قد يحظى بها في عمله؛ فالرياضيات، كما قلت في جامعة أكسفورد، هي مهنة برئية ولا تضر بأحد. وفي المقابل، فإن للرياضيات التافهة تطبيقات حربية عديدة، والنتائج العامة لهذه التطبيقات واضحة: فالرياضيات هذه تسهل (ولو بطريقة غير واضحة تماماً، مثل الفيزياء أو الكيمياء) نشوب الحروب الحديثة العلمية "الشاملة".

لكن واحسرتاه، فليس ثمة وجود للرياضيات البرئية الصرفة، فحتى نظرية الأعداد، وهي المحببة إلى قلب هاردي، هي الآن سلاح في أيدي الأجهزة السرية.

 

 

 

[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى