صحة

الالتهاب المزمن يعبث بأدمغتنا، فما يسعنا أن نفعل للتخفيف من وطأته؟

من الاكتئاب إلى الخَرَف، يكشف العلم حاليًا عن العلاقة العميقة بين الالتهاب المزمن واضطرابات الدماغ. ومع التقدُّم في فهم الآليات الحيوية الكامنة وراء ذلك، تلوح في الأفق علاجاتٌ جديدة لحماية وظائفنا الإدراكية وصحتنا العقلية، إلى جانب تغييرات بسيطة في روتين حياتنا.

بقلم  مانويلا كالاري

منذ أن بدأ يعي العالمَ من حوله، كان غلام خاندكر Golam Khandaker‎ شاهدًا على آلام والدته من جراء التهاب المفاصل، إلى جانب معاناتها الاكتئاب. وقد لاحظ خاندكر التزامن الدقيق بين نوبات التهاب المفاصل الحادة لديها وتفاقم حالتها المزاجية.
ربما ليس من المُستغرَب أن تعمِّق نوبات الالتهاب المؤلِم شعورها بالاكتئاب. ولكن عندما بدأ خاندكر (الذي كان حينها يدرس لنيل درجة الدكتوراه من جامعة كامبريدج University of Cambridge‎) التحقيقَ في الأمر جديًّا، اتضح أن المسألة أعقد مما تبدو عليه.
في الواقع، تكشف الأبحاث عن التأثير العميق للالتهاب المزمن منخفض الشدة في الدماغ الذي كان يُعتقد سابقًا أنه مُحصَّن – إلى حد كبير – من البؤر المشتعلة في أجزاء أخرى من الجسم، وما يعنيه ذلك ليس فقط لحالات الاكتئاب، بل أيضًا للقلق، والفصام، وألزهايمر… وغيرها. ومن خلال الكشف عن الآليات التي توجه هذه الروابط، يستكشف الباحثون طرقًا جديدة لحماية الدماغ والصحة العقلية، إضافة إلى العديد من أساليب الحياة اليومية التي تمكننا من مساعدة أنفسنا.
دفاعاتنا المناعية ضرورية للبقاء؛ فعندما يكتشف الجسم عدوى أو إصابة، يُفعّل استجابة مناعية تتميز بإنتاج سلسلة من البروتينات الالتهابية تُسمى السيتوكينات Cytokines‎؛ للقضاء على العامل المُمرِض، وتسهيل إصلاح الأنسجة. يمكن أيضًا أن يُحفَّز خلال الاستجابة «سلوك المرض» Sickness behavior المتمثل في مجموعة من الأعراض، مثل: التعب، والانسحاب الاجتماعي، وفقدان الشهية، والتي تشبه – على نحو لافت – الاكتئاب الشديد. وفي المرحلة الحادة من المرض، يكون هذا السلوك مفيدًا، ويشير إلى الحاجة إلى الراحة والتعافي خلال فترات الإصابة الجسدية أو العدوى.
ومع ذلك، في بعض الأحيان، قد لا تتلاشى الاستجابة المناعية الحادة، وتبقى السيتوكينات فترة طويلة بعد انتهاء المعركة الأولية؛ مما يؤدي إلى التهاب مزمن منخفض الشدة. وهذه هي إحدى آفات العالم الحديث التي تسهم في الإصابة بأمراض القلب والسكري من النوع الثاني، وأمراض الكلى… وغيرها. وحاليًا، صار العبء الذي يُلقيه هذا على أدمغتنا واضحًا أيضًا.

 

الالتهاب والصحة العقلية

تُسجَّل – في أكثر الأحيان – مستويات عالية من المؤشرات الالتهابية لدى الأشخاص الذين يعانون حالات عقلية حادة؛ مثلا: وجدت دراسة أُجريت في العام 2020، على أكثر من 5000 من الأشخاص المصابين بالاكتئاب، أن لديهم مستويات مرتفعة من الجزيئات الالتهابية في دمهم، مقارنة بمجموعة ضابطة؛ ما دفع مؤلفي الدراسة إلى الاستنتاج أن «الاكتئاب هو… حالة محفِّزة للالتهاب» Pro-inflammatory state‎.
سُجِّلت – بالمثل – مستويات مرتفعة من السيتوكينات لدى المصابين بالفصام والاضطراب ثنائي القطب. وفي يونيو 2025، أكدت الأبحاث الرابطَ بين الالتهاب المزمن والحالات النفسية على نطاق واسع؛ فقد خلص تحليل 1.5 مليون شخص من المشاركين في دراسة مجموعة صحتنا المستقبلية Our Future Health cohort ‎ في المملكة المتحدة إلى أن مَن يعانون حالات مرتبطة بالالتهاب المزمن – مثل التصلُّب المتعدد، والتهاب المفاصل الروماتويدي، وأمراض الأمعاء الالتهابية – يرتفع لديهم تقريبًا مرتين خطر الإصابة بالقلق والاكتئاب، حتى بعد تعديل عوامل، مثل الألم المزمن والدخل.
يقول أريش مودرا راكشاسا-لوتس Arish Mudra Rakshasa-Loots، من جامعة إدنبرة University of Edinburgh‎، في المملكة المتحدة، والذي قاد الدراسة: «الجزء المفاجئ هو أن خطر الإصابة بجميع الأمر اض العقلية المختلفة كان متقاربًا جدًّا [بغض النظر عن الحالة الالتهابية لديهم]. هذا يشير إلى أن هناك شيئًا أعمق يحدث ويتجاوز مجرد تجربة الألم المزمن أو العزلة الاجتماعية». ويعزز الرابط المتسق في الحالات المختلفة الفرضية القائلة بأن هناك آلية بيولوجية مشتركة لها دور في ذلك، وهي الالتهاب.

 

الفصل بين السبب والنتيجة

غير أن التمييز بين السبب والنتيجة أمر معقّد: هل يسبب الالتهابُ المرضَ، أم أنه نتيجة له؟
كان أحد أوائل الباحثين الذين بدأوا في إيجاد إجابة عن هذا السؤال هو أندرو ميلر Andrew Miller، من جامعة إيموري Emory University في أتلانتا، بولاية جورجيا الأمريكية، استنادًا إلى ملاحظات سُجِّلت في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، تفيد بأن الأشخاص الذين يتلقون إنترفيرون-ألفا Interferon-alpha (اختصارا: IFN-α)، وهو سيتوكين التهابي يُستخدَم علاجًا للسرطان، كانوا يُصابون باكتئاب شديد. يقول ميلر: «كنا نعلم بوجود علاقة بين ارتفاع مؤشرات الالتهاب والاكتئاب، لكننا لم نكن نعرف أيهما السبب وأيهما النتيجة».
لمعرفة ذلك، أجرى ميلر وزملاؤه تجربة عشوائية مضبوطة، وُزِّع المشاركون فيها عشوائيًّا لتلقي العلاج، أو دواء وهمي. ووجدوا أن مضادات الاكتئاب قبل بدء العلاج قلّلت من حدوث الاكتئاب المرتبط بعلاج إنترفيرون-ألفا لدى مرضى الورم الميلانيني Melanoma، وخلص الباحثون إلى هذا الرابط السببي لدى تكرار التجربة لاحقًا باستخدام محفِّزَيْن التهابيَين آخرين – على الأقل – هما الإندوتوكسين Endotoxin ، ولقاح التيفوئيد Typhoid vaccination.
وتقوم طريقة أخرى لفهم العلاقة السببية على تحليل دراسات المراقبة طويلة الأمد لاختبار ما إذا كان الالتهاب الموجود مسبقًا يزيد من خطر الإصابة اللاحقة بمرض عقلي. مثلًا، استخدم خاندكر، وهو الآن طبيب نفسي، وزملاؤه من جامعة بريستول‎ University of Bristol، في المملكة المتحدة، ‏بياناتٍ من الدراسة الطولية لأهل وأطفال إيفون Avon Longitudinal Study of Parents and Children في المملكة المتحدة، والتي قاست مستويات بروتين إنترلوكين – 6 (IL-6) الالتهابي لدى نحو 4500 طفل، عندما كانوا في التاسعة من العمر. ووجدوا أن المستويات الأعلى من هذا المؤشر الالتهابي في الطفولة ارتبطت بزيادة احتمال الإصابة بالاكتئاب بنسبة 50%، وبزيادة خطر الإصابة بالذهان Psychosis بمقدار يقارب الضعف عند بلوغ الثامنة عشرة من العمر. يقول خاندكر: «اقترح ذلك بوضوح أن الالتهاب يمكن أن يسبق المرض العقلي».
استخدم الفريق – بعد ذلك – تقنية وراثية تُعرَف باسم التوزيع العشوائي المندلي Mendelian randomisation، وتختبر ما إذا كانت العلاقة بين أمرين تُعد علاقة سببية، أم نتيجة لعامل ثالث يؤثر في احتمال حدوث كليهما، مثل نمط الحياة أو مرض آخر. وفي دراسة نُشرت في وقت سابق من العام 2025، حلَّل الباحثون بدقة 735 بروتينًا مرتبطًا بالمناعة، ووجدوا أدلة قوية على أن مسارات التهابية محددة تؤدي دورًا سببيًّا في الاكتئاب والفصام ومرض ألزهايمر. وبالطبع، من المرجّح وجود عوامل أخرى أيضًا. يقول خاندكر: «نحن نعلم أن الاكتئاب حالة مرهقة نفسيًّا؛ لذا فإن التوتر المصاحِب له يمكن – في حد ذاته – أن يسبب الالتهاب».
ومع ذلك، يصر ميلر على أن الأدلة قوية بما يكفي، معبرًا عن استيائه من استمرار الفكرة القائلة بأن الالتهاب ليس سببًا للاكتئاب، بل مجرد عرَض ثانوي ناتج عن العادات المرتبطة به، مثل: التدخين، وسوء التغذية، وقلة الحركة. ويقول: «لكن [الأبحاث] أظهرت أن الالتهاب يمكن أن يسبب الاكتئاب».
حسنًا، إذا كان التعرُّض المزمن للالتهاب الجهازي يؤثر في الدماغ والصحة العقلية، فإن ‏السؤال الذي من البدهي أن يُطرَح هو: كيف؟ ‏
عندما التحق خاندكر بكلية الطب، في تسعينيات القرن الماضي، كان يُنظر إلى الدماغ على أنه حصن مناعي بامتياز. عن ذلك يقول: «قال لنا أساتذتنا إنه محمي، وإن الحاجز الدموي الدماغي يفصله عن بقية الجسم».
هذا الحاجز – وهو محيط منظَّم بإحكام من الخلايا – مُصمَّم للسماح بمرور المغذيات الأساسية، مثل الغلوكوز والأكسجين، ومنع عبور السموم والعوامل المُمرِضة والخلايا والبروتينات الالتهابية. لكن الأبحاث تكشف عن أنه في ظل الالتهاب المزمن أو التوتر، يمكن أن يصير هذا الجدار الواقي قابلًا للتسرُّب.

النظام الغذائي المتوسطي الغني بالخضروات والأسماك وزيت الزيتون يساعد على تخفيف الالتهاب

 

تحقق كارولين مينار Caroline Ménard، من جامعة لافال Laval University في كيبيك بكندا، في الكيفية التي يحدث وفقها ذلك باستخدام نموذج حيواني للإجهاد الاجتماعي، وهي فئران يمكن أن تُظهر مستويات عالية من الالتهاب، وسلوكيات مشابهة للاكتئاب والقلق. تحت المجهر، رأت مينار وفريقها أن الحاجز الدموي الدماغي لدى الفئران السليمة في المجموعة الضابطة يظهر كخط متين ومتصل، بينما بدا لدى الفئران المُجهَدة والمصابة بالالتهاب كأنه «تمزّق بالكامل».
وتقول مينار إنه من خلال هذه الفجوات في الحاجز تتسلل الجزيئات الالتهابية – مثل السيتوكينات – إلى الدماغ؛ حيث يمكن أن تسبب إجهادًا تأكسديًّا، وتُخلّ بعملية إنتاج النواقل العصبية. في العام 2022 اكتشف فريقها أضرارًا بنيوية مماثلة في عينات دماغية مأخوذة بعد الوفاة من أشخاص كانوا يعانون الاكتئاب.
والفكرة هي أن التوتر يسبب انخفاضًا كبيرًا في مستويات بروتين يُدعى كلاودين – 5 Claudin-5، يحافظ على تماسك خلايا الحاجز الدماغي. وعندما تنخفض مستويات كلاودين – 5، يتمزق الحاجز، ويسمح للسيتوكينات الالتهابية بالدخول إلى الدماغ. وبمجرد دخولها، يمكن أن تُخلّ بالنواقل العصبية الأساسية، مثل: الدوبامين Dopamine، والسيروتونين Serotonin في مناطق معينة؛ ما يؤدي إلى انخفاض النشاط في الدوائر الدماغية المسؤولة عن التحفيز. كما يمكن للإشارات الالتهابية أن تُفعِّل الخلايا المناعية المتخصصة في الدماغ، وهي الخلايا الدبقية الصغيرة Microglia.
في الظروف الطبيعية، تتولى الخلايا الدبقية الصغيرة مهمة عمّال النظافة اليقظين الذين يزيلون الحطام، ويحافظون على سلامة الخلايا العصبية. لكن التعرض المزمن للإشارات الالتهابية يمكن أن يدفع هذه الخلايا إلى التحول من حالة وقائية إلى حالة مدمّرة محفِّزة للالتهاب؛ ما يتسبب في نشوء حلقة مفرغة.
يقول رافيندر ناغبال‎،Ravinder Nagpal ‎ من جامعة ولاية فلوريدا‎ Florida ‎State University ‎ إن هذه الحالة الالتهابية العصبية تُهيّئ ‏الظروف لتكوّن لويحات أميلويد-بيتا Amyloid-β وتراكمها، وهي سمة مميزة لمرض ألزهايمر. ويؤدي وجود هذه اللويحات إلى زيادة تنشيط الخلايا الدبقية الصغيرة التي تطلق عاصفة من السيتوكينات الالتهابية، مثل إنترلوكين – 1 بيتا IL-1β وإنترلوكين – 6 IL-6‎ وعامل نخر الورم ألفا TNF-α، إضافة إلى جزيئات مؤكسدة. هذا «الحساء الالتهابي» لا يسبب ضررًا مباشرًا للخلايا العصبية، من خلال الإجهاد التأكسدي فقط؛ بل يستدعي أيضًا مزيدًا من الخلايا الدبقية الصغيرة إلى ساحة المعركة؛ ما يُضخِّم الالتهاب.
ويشرح أن هذه الآلية تُضعف – كذلك – ‏‏قدرة الخلايا الدبقية الصغيرة على أداء وظيفتها الأساسية: إزالة لويحات أميلويد-بيتا المسبِّبة للمشكلة؛ ما يجعل الوضع يزداد سوءًا بالتدريج. ويقول: «هذه النيران الصديقة المستمرة تؤدي – في النهاية – إلى موت عدد كبير من الخلايا العصبية والتدهور الإدراكي».

 

الرابط المعوي

ينشأ المسار الرئيسي الآخر الذي يؤثر من خلاله الالتهاب في العقل في أمعائنا. بدايةً، يمكن لبكتيريا الأمعاء أن تُنتج العديد من النواقل العصبية المختلفة التي يمكن أن تؤثر في الدماغ عبر العصب المبهم Vagus nerve؛ لذلك، يقول ناغبال: عندما تكون ميكروبيوتا الأمعاءGut microbiota في حالة غير متوازنة، تُعرف باسم ديسبَيوزيسDysbiosis‎ ، نتيجة نظام غذائي سيئ، أو تناول المضادات الحيوية، فإن ذلك يمكن أن يؤثر في إنتاج النواقل العصبية. إضافة إلى ذلك، يمكن للميكروبات «السيئة» أن تُنتج سمومًا، مثل عديد السكاريد الشحمية Lipopolysaccharides التي تُلحق الضرر ببطانة الأمعاء؛ مما يسمح للجزيئات الالتهابية والبكتيريا بالتسرّب إلى مجرى الدم، وتحفيز الالتهاب الجهازي الذي يمكن – بدوره – أن يجعل الحاجز الدموي الدماغي قابلًا للتسرّب.
في المقابل، عندما تكون الأمعاء في حالة صحية سليمة، تُنتج الميكروبات المفيدة مركّبات مضادة للالتهاب، مثل الأحماض الدهنية قصيرة السلسلة Short-chain fatty acids التي تساعد على الحفاظ على حاجز معوي قوي. وقد دفع هذا بعض الباحثين إلى التساؤل عما إذا كان تحويل، أو استبدال، ميكروبيوتا الأمعاء يمكن أن يُوفر شكلًا جديدًا من العلاج للأمراض العقلية والأمراض التنكسية العصبية. وتقترح أدلة ناشئة، وإن كانت من تجارب أُجريت على نطاق ضيق، أن زرع ميكروبات برازية Faecal microbial transplant يمكن أن يُخفّف من أعراض القلق والاكتئاب.
أما الطريقة الأبسط لتوجيه ميكروبيوتا الأمعاء نحو مسار صحي فهي من خلال النظام الغذائي، وهناك أدلة جيدة على أن الأنماط الغذائية المضادة للالتهاب تُحدث فرقًا بالفعل. وقد ركزت معظم الأبحاث على النظام الغذائي المتوسطي Mediterranean diet الذي يتضمن تناول كثير من الفواكه والبقوليات والمكسرات والحبوب الكاملة والأسماك، وكمية وفيرة من زيت الزيتون، مع الحد من اللحوم الحمراء وتلك المصنَّعة؛ فقد وجدت دراسة شملت نحو 15,000 شخص في إيطاليا أن الالتزام الصارم بهذا النمط الغذائي ارتبط بانخفاض مستويات المؤشرات الالتهابية.
تقول روزا ماريا كاساس رودريغيز ‎Rosa María ،Casas Rodriguez ‎‏ من ‏جامعة برشلونة ‎University of Barcelona ‎‏ في إسبانيا، إن السر ليس في تناول صنف واحد مما يسمى الطعام الخارق Superfood‎، بل في التأثير التراكمي للنمط الغذائي بأكمله: «نحن نعتقد أن الأمر يتعلق بتكامل الأطعمة المختلفة التي تُعزِّز تأثيراتها من خلال التآزر فيما بينها».
لا نعرف – بعد – تأثيرات ذلك في الدماغ، لكن بعض الدراسات الأخرى تُظهر أن الالتزام بنظام غذائي متوسطي يرتبط بانخفاض خطر الإصابة بالاكتئاب، وهناك تجارب واسعة النطاق جارية حاليًا أملًا في الخروج بنتائج أوضح.
وقد تمتد فوائد النظام الغذائي المضاد للالتهاب إلى حماية الدماغ من الخرف؛ فقد وجدت دراسة أُجريت في العام 2024، على بيانات أكثر من 84,000 شخص من كبار السن الذين يعانون حالات صحية موجودة مسبقًا، مثل أمراض القلب أو السكري من النوع الثاني، وشاركوا في دراسة البنك الحيوي البريطاني UK Biobank، أن أولئك الذين تناولوا النظام الغذائي الأكثر غنى بالأطعمة التي تُعد مضادة للالتهاب كانوا أقل عرضة للإصابة بالخَرَف بنسبة %31.

 

ممارسة النشاط البدني، أو العزوف، عنه تضطلع بدور كبير في مستوى الالتهاب المزمن في أجسامنا

 

وللتعمّق في آليات هذه التأثيرات، أجرى ناغبال وزملاؤه تجربة صغيرة عشوائية على عدد من كبار السن الذين يعانون ضعفًا إدراكيًّا خفيفًا. ومقارنة بالمجموعة الضابطة، وجدوا أن اتباع نظام غذائي متوسطي كيتوني Ketogenic – وهو نظام منخفض جدًّا بالكربوهيدرات، وغني بالدهون – ستة أسابيع زاد من إنتاج الأحماض الدهنية قصيرة السلسلة المفيدة، لا سيما البيوتيرات Butyrate المعروفة بخصائصها الوقائية العصبية، وبأنها تسهم في تحسين صحة الحاجز المعوي. وقد ارتبطت هذه التغيرات في ميكروبيوتا الأمعاء بتحسّن في مؤشرات مرض ألزهايمر، مثل لويحات الأميلويد في السائل الدماغي الشوكي للمشاركين.

 

في الحركة بركة

بالطبع، ليس النظام الغذائي وحده مفتاح التغيير، فثمة وسائل أخرى في متناولنا. وقد يسأل سائل: ماذا عن النشاط البدني المنتظم؟ على الرغم من أن التمارين عالية الشدة يمكن أن تسبب ارتفاعًا مؤقتًا وطبيعيًّا في الالتهاب لأغراض إصلاح العضلات، فإن هناك أدلة على أن النشاط البدني يُخفِّف الالتهاب المزمن على المدى الطويل. كما تبيَّن وجود ارتباط واضح بين عدم ممارسة التمارين البدنية والالتهاب المزمن؛ فقد وجدت دراسة نُشرت في وقت سابق من 2025، وشملت نحو 16,000 شخص، أن الخمول يرتبط بالالتهاب الجهازي المزمن، وهو ما أطلق عليه مؤلفو الدراسة اسم «مرض الخمول» Sedentary disease؛ فكلما قلّت الحركة، زاد الخطر.
كما يُعد السلوك الخامل عامل خطر للإصابة بالسمنة التي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالالتهاب المزمن (انظر إخماد النيران). كما يُعد التقدم في السن عامل خطر آخر، إلى جانب التوتر المزمن الذي يؤثر مباشرة في الحالة الالتهابية للجسم، من خلال تحفيز الإفراز المستمر لهرمون الكورتيزول Cortisol. ومع أن الكورتيزول يعمل عادة بوصفه مثبطًا قويًّا للالتهاب، فإن التعرض المطوّل له يمكن أن يؤدي إلى حالة تصير معها الخلايا المناعية أقل استجابة للإشارات المضادة للالتهاب؛ مما يُطلق سلسلة من السيتوكينات الالتهابية التي يمكن أن تُخلّ بعملية استقلاب النواقل العصبية، وتُفاقم الاكتئاب. ولمواجهة هذه الاستجابة للتوتر، هناك أدلة على أن اليقظة الذهنية والتأمل يمكن أن يساعدا، لكن ناغبال ينصح باختيار نشاط ممتع حقًّا؛ لأن «السعادة هي أحد المكونات الأساسية التي يمكن أن تُقلّل التوتر بشكل مباشر».
ثم تأتي الأدوية، ففي خلال العقد الماضي تقريبًا، اختبر ميلر وخاندكر وآخرون أدوية مضادة للالتهاب تُستخدَم عادة لعلاج أمراض، مثل: التهاب المفاصل الروماتويدي، لعلاج الاكتئاب، وقد وجدوا عمومًا تأثيرًا إيجابيًّا. وليس من المستغرب أن يكون تأثير هذه الأدوية أكثر وضوحًا لدى المرضى الذين يُعزى اكتئابهم إلى نشاط التهابي مزمن منخفض الدرجة، وهي فئة قد تمثّل نحو ربع المصابين بالاكتئاب. يقول خاندكر: «السؤال الأكثر إلحاحًا في مجالنا حاليًا هو: كيف يمكن تحديد هذه الفئة». وهذا ليس بالأمر السهل؛ لأنه لا يوجد حتى الآن مؤشر بيولوجي معياري لقياس الالتهاب المزمن الذي يُعد عملية معقدة تشمل مجموعة متنوعة من المواد والخلايا المناعية.
يجادل ميلر بأن اختبار الدم الشائع للبروتين التفاعلي سي C-reactive protein، وهو مؤشر عام للالتهاب، يُعد من أسهل الوسائل المتاحة حاليًا لتحديد المرضى الذين قد يستجيبون للعلاجات المضادة للالتهاب، وقد بدأ بالفعل تطبيق هذا النهج على نحو تجريبي في بعض العيادات.

 

هل من فائدة تُرجى لأدوية إنقاص الوزن في هذه الحالات؟

لكن ربما يكون النهج الجديد الأكثر تداولًا يتعلق بالأدوية التي تُحاكي هرمون الشبع GLP-1؛ مثل تلك التي تحتوي على المركَّب سيماغلوتايد ‎ Semaglutide الذي يُباع تحت اسم أوزيمبيك Ozempic وويغوفي Wegovy، وهي أدوية معروفة بتأثيرها الكبير في فقدان الوزن. وعلى الرغم من أن هذه الأدوية استُخدمت في البداية لعلاج السكري ثم السمنة، فإن قدرتها على مكافحة الالتهاب جعلتها محورًا للأبحاث المتعلقة بالتدهور الإدراكي وحالات الصحة العقلية.
تربط عدة دراسات رصدية واسعة النطاق استخدام هذه الأدوية بانخفاض خطر الإصابة بالخرف والاكتئاب والقلق، مع أن نتائج التجارب السريرية، حتى الآن، كانت متباينة. لكن الأنظار تتجه إلى نتائج المرحلة الثالثة من تجربتين واسعتين، هما: إيفوك evoke وإيفوك بلس evoke+ اللتان تسعيان إلى معرفة إن كان المركَّب سيماغلوتايد يمكن أن يُعدّل مسار مرض ألزهايمر
في مراحله المبكرة. ومن المتوقع صدور النتائج
في نهاية 2025.
والسؤال الأساسي الذي يطرح نفسه هو: هل التأثيرات المضادة للالتهاب للأدوية التي تحاكي الهرمون GLP-1 ناتجة أساسًا عن فقدان الوزن وتحسّن ضبط سكر الدم، وكل منهما يُخفّف الالتهاب، أم أنها تحدث من خلال التأثير المباشر في الجهاز المناعي أو العصبي؟ تُظهر دراسات عرضتها خلال اجتماع جمعية علوم الأعصاب Society for Neuroscience في شيكاغو في أكتوبر 2024 شركة الأبحاث نيوروفيت Neurofit ، ومقرها في ستراسبورغ بفرنسا، أن الأدوية التي تحاكي الهرمون GLP-1 تُحسِّن العجز الإدراكي في نماذج فئران مصابة بألزهايمر، حتى لدى الحيوانات ذات الوزن الطبيعي. ويقول إميل أندريامبيلوسون Emile Andriambeloson من نيوروفيت: «هذا يُظهر أن التأثير المفيد يحدث مباشرة في الدماغ، وليس نتيجةً ثانوية لفقدان الوزن».
كل هذا يُبيِّن أننا مازلنا بعيدين عن الإحاطة تمامًا بالكيفية التي يعبث وفقها الالتهاب بعقولنا، لكن الأبحاث بدأت بالفعل تُترجَم إلى تقدم سريري ملموس. والخبر السار الآخر هو أن كثيرين، ممن قد يُعانون التهابًا صامتًا، يمكنهم أن إطفاء جذوته بتغييرات بسيطة في أسلوب حياتهم.

 

© 2025, New Scientist, Distributed by Tribune Content Agency LLC

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى