الكيمياء

التجارب التي قام بها العالم “وهلر” لصناعة البول خارج الجسم الحي وآراء العلماء منها

1997 قطوف من سير العلماء الجزء الثاني

صبري الدمرداش

KFAS

تجارب وهلر صناعة البول خارج الجسم الحي الكيمياء

البول … التاريخي!

"استطيع أن أصنع في معملي بولاً دون أن أحتاج إلى كليتي إنسان أو كلب!"  من قال هذا؟ إنه وهلر الذي أكَّد بهذا قدرة الإنسان لأول مرة على أن ينتج في المعمل مركباً كان حتى ذلك الحين لا ينتج إلاّ عن طريق الأجسام الحية فقط .

ومن ثم "ليس من المحتمل أن نبلغ يوماً قوة تقليد الطبيعة في هذه العمليات" على حد قول الكيميائي الإنجليزي وليم هنرى في تقريرٍ له قبل سنة واحدة فقط من اكتشاف وهلر العظيم.

وعندما ترجم وهلر ما قاله عملياً، حيث تمكن من "صنع" بول في معمله، فإنه يكون قد وضع بذلك الأساس لما سُمِّي بالكيمياء العضوية .

 

ونحن ننظر الآن إلى ذلك النوع من الكيمياء باعتباره في الواقع كيمياء كربون لأن آلافاً مؤلَّفة من المركبات العضوية القائمة على ذلك العنصر أُنتجت في المعامل والمصانع لصنع أشياء جديدة .

ومن أمثلة ذلك أن هذا البول "التاريخي" أُضيف إلى الفورمالدهيد لينتج نوعاً خفيفاً غير قابل للكسر تقريباً من أدوات المائدة كالأطباق وألأكواب والفناجين.

ولكن ما القصة بالضبط ؟ نعرض لها فيما يلي …

 

رأي الدوائر العلمية

كان الرأي السائد في الدوائر العلمية التي احتكَّ بها وهلر وتعامل معها في شبابه هو وجود "قوة حيوية خفية" تتخلّل الأجسام الحية فقط وتمكنها من بناء مركبات معقدة من مثل السكر والنشا والزلال من مواد بسيطة التركيب.

وأن هذه القوة الخفية لا أثر لها ولا تأثير في الجوامد . وكان العلماء يعتقدون أن المواد التي تتركَّب منها الأجسام الحية تختلف تماماً عن تلك التي تتركَّب منها الأشياء غير الحية في أن الأولى لا يمكن تركيبها صناعياً في معامل الكيميائيين، ومن ثم كان من المستحيل على الإنسان مجاراة تلك القوة الحيوية في إبداعها، حتى لقد ظن بعضهم أن المركبات العضوية لا تخضع لقوانين الكيمياء .

بل كان برزيليوس نفسه، وهو أستاذ وهلر، قد أشار إلى استحالة سد الثُّغرة بين المواد العضوية والمواد غير العضوية.

كما كان جملين كذلك، وهو أستاذ وهلر أيضاً ، ثابت اليقين في أن المواد العضوية لا يمكن تركيبها صناعياً بأي صورة . كان ذلك هو الرأي السائد لدى الدوائر العلمية حتى عام 1828 .

 

الضربة … القاضية !

ولكن وهلر كان شاباً. وفي حماس الشباب واندفاعه شكَّ في كل ما يقال .ومن ثم فضّل أن يأخذ برأي الكيميائي الفرنسي شفرول الذي يرى في أن القول بوجود فارق مطلق بين ما هو عضوي وما هو غير عضوي أمرٌ مناقضٌ لروح العلم وطبيعته.

وكان عالِمنا يعتقد في قرارة نفسه أن فكرة "القوة الحيوية" ليست إلاّ ستاراً لما نجهل، وأن التسليم بها تسليماً مطلقاً يُعيق تقدم الكيمياء وارتقائها .

فراح يبحث ويُجرِّب ويستقصي ويُنقِّب حيث لا كلل ولا ملل، وكأنه كان يقول في نفسه: آه لو تمكنت من تركيب إحدى هذه المواد التي لم يعرف تركيبها قبلاً إلاّ في الجسم الحي!

إنني لو استطعت ذلك لضربت الفكرة السائدة ضربة قاضية ربما أقوى من الضربة التي سدَّدها لافوازييه لفكرة الفلوجستون.

 

الحلم يتحقَّق

كان وهلر قد طالع مؤلَّفا جديداً لشفرول أثبت فيه أن كثيراً من الدهون التي تتكوَّن في أجسام النبات تماثل تلك التي تتكون في أجسام الحيوان. وكان ملمَّا بأبحاث رول، مُعلِّم لافوازييه، في كيمياء الأجسام الحيوانية .

ولما كان الغرض الذي وضعه نصب عينيه جليلاً وثوريا، فقد مضى يجري تجربة إثر أخرى من غير أن يبلغ من إحداها نواله . وطالت مدة التجريب إلى سنواتٍ أربع متوالية .

وفي ذات مساء وقعت الواقعة ! .

لنا أن نتصور مبلغ دهشة ذلك الفتي الباحث وقد وقع بصره على مركب عضوي صنَّعه في إنبيق من مواد غير عضوية! ها هو ذا يرى في إنبيقه جراماً من بلورات بيض مستطيلة كالإبر.

 

وكان رول قد وجدها قبل نصف قرن في البول وأسماها العلماء "يوريا" وهي ملح ابيض يستحيل تركيبه خارج الجسم  الحي! .

إنها الفرحة. الحلم تحقَّق. بل أن وهلر رأى نفسه بعين خياله واقفاً على عتبة عصرٍ جديدٍ في الكيمياء

لقد أدرك في الحال أنه كان أول من صنَّع مادة عضوية خارج الجسم الحي. وتراءت أمام ناظريه الميادين الرحبة الجديدة التي يُمهِّد السبيل إليها هذا المركب الإصطناعي.

ومع هذا فقد ظل محتفظاً برباطة جأشه – ألا تذكر  تحذير برزيليوس له من التعجل؟ حلَّل المادة التي بين يديه ليُثبت من أنها وبلورات اليوريا التي تُركِّبها  "القوة الحيوية" الخفيَّة في الجسم الحي، شيءٌ واحد.

 

همسٌ … وتهليل

لما استوثق وهلر مما عمد إليه. كان لا بد من أن يكتب إلى استاذه برزيليوس ليبشِّره بإمكانية صناعة البول خارج الجسم الحي.

فتحمَّس العالم السويدي لهذا النبأ الخطير وأخذ يذيعه في مختلف الدوائر العلمية، فسرى فيها مسرى الرعشة الكهربائية في الجسم الحي!. ولما تناهى النبأ إلى شفرول، الذي كانت آراؤه دافعاً كبيراً لتحقيقه، رحَّب به أعظم ترحيب .

ها هو ذا وهلر قد ركَّب "اليوريا" من مواد غير عضوية، فماذا يمنعه، هو أو غيره من العلماء، من أن يركِّبوا السكر إو الزلال أو حتى البروتوبلازم نفسه ؟!. ولكن دُعاة "المذهب الحيوي" اعترضوا .

وقالوا: لعل اليوريا مادة متوسطة بين المواد العضوية والمواد غير العضوية. ثم أن تركيب اليوريا يقتضي استعمال الأمونيا والأمونيا من أصل حيوي، لذا فإنكار القوة الحيوية خطأ كبير لأنها كامنة في الأمونيا التي صُنِّعت اليوريا منها .

بيد أن همس الحيويين ضاع بين تهليل المعجبين. وكان ذلك فاتحة عصرٍ جديدٍ في علم الكيمياء وعالمه.

[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى