إسلاميات

نبذة عن حياة الصحابي “سلمان الفارسي”

2000 موسوعة الكويت العلمية للأطفال الجزء الحادي عشر

مؤسسة الكويت للتقدم العلمي

الصحابي سلمان الفارسي إسلاميات المخطوطات والكتب النادرة

سَلْمانُ الفَارِسِيُّ كُنْيَتُهُ أبو عبدِ الله. وهو صَحابِيٌّ شهِيرٌ؛ قِصّةُ حياتِهِ من الأَعاجيبِ، تُنْبِئُ عن شَخْصِيَّةٍ فَريدَةٍ، فَقَدْ قَضَى القِسْمَ الأَكْبَرَ من حياتِهِ يطلُبُ الدِّينَ الحقّ، ويَتْبَعُ من يَرْجو ذلكَ عِنْدَهُ، وتحَمَّلَ في سَبيلِ ذَلِكَ شَدائِدَ ونالَتْهُ مَشَقّاتٌ يَعْسُرُ أن يتحمَّلَها إلاّ سلمانُ أو مثلُه، خاصَّةً وأَنَّها اسْتَمَرَّتْ زمنًا طويلاً.

ومَعَ أَنَّهُ من أَبناءِ الأَكابِرِ في فَارِسَ، كانَ يَفْتَخِرُ بأنَّه «ابنُ الإسلامِ». وكانَ الصَّحابَةُ يسمُّونَهُ «سَلْمَانَ الخَيْرِ»، ورُبَّما أَطْلَقَ عليهِ بعضُهم: «صاحِبَ الكتابَيْن»، يَعْني: الإنْجيلَ والقُرآنَ.

وعِنْدما أَسْلَم، اخْتَلَفَ عليه المهاجِرون والأَنْصارُ، كُلُّهُم يريدُ أنْ ينْتَسِبَ سَلْمَانُ إليْهم. وكانَ عليٌّ بنُ أبي طالِبٍ يقولُ: «سَلْمانُ مِنّا أَهْلَ البَيْتِ».

 

ونبدأُ مع سلمانَ الفارسيِّ – رَضِيَ اللهُ عنهُ – رِحْلَتَهُ، كما قصَّها هو، وكما حَفِظَها لَنا مُسْنَدُ الإِمام أَحْمَدِ بنِ حَنْبَل، ونَخْتَصِرُها اخْتِصارًا.

كانَ أبوهُ من أَساوِرَةِ الفُرْسِ وفُرْسانِهِمْ، ذا ثروةٍ ومزارِعَ وعَبيدٍ، شَديدَ التَّمَسُّكِ بِدينِ المَجوسِيَّةِ القَائِمِ علَى تَعْظيمِ النَّارِ.

ولما رُزِقَ بسَلْمانَ أحبَّهُ حُبًّا جمًّا، جَعَلَهُ يخافُ عليهِ الخروجَ من القَصْرِ، ونشَّأَهُ نشأةً دينيّةً حتَّى صارَ ملازِمًا للنَّارِ، لا يَتْرُكُها تَنْطَفِئُ.

 

وفي أوَّلِ مرَّةٍ خَرَجَ من القَصْرِ، اكْتَشَفَ أنَّ هناكَ دينًا آخَرَ غيرَ المجوسِيَّةِ، وهو «النَّصرانِيَّةُ»، فَدانَ بها، فَحَبَسَهُ أبوهُ في القَصْرِ، ولكنَّهُ أَفْلَتَ، وغَادَرَ بَلْدَتَهُ «جِيّانْ» مُتَّجِهًا إلى بلادِ الشَّامِ حيثُ نَشَأَتْ النَّصرانِيَّةُ وأقامَ في كَنيسَةٍ كبيرَةٍ بها يَتَعَلَّمُ من رجالِ الدِّينِ فيها.

فَلَمَّا ماتَ مُعَلِّمُه، اتَّجَهَ (بِوَصِيَّةٍ سابِقَةٍ من معلِّمِهِ) إلَى الموصِلِ، ومن الموصِلِ انْتَقَلَ إلى نَصِيبِينَ، ومنْها إلى عَمُّورِيَّةَ. ولما مرِض أستاذُهُ في كنيسةِ عمّوريَّةِ مَرَضَ الموتِ سَأَلَهُ سلمانُ: إلى مَنْ تُوصي بي؟

 

وما تَأْمُرُني؟ قال: أيْ بُنَيَّ، ما أَعْلَمُ أحَدَا أصبحَ علَى ما كُنَّا عَلَيْهِ آمرُك أَنْ تَأْتِيَهُ، ولكنَّه قد أظلَّكَ زمانُ نَبيٍّ هو مَبْعوثٌ بدينِ إبراهيمَ، يخرجُ بأَرْضِ العَرَبِ، يُهاجرُ إلى أَرْضٍ بين حَرَّتَيْن (الحَرَّة: أَرْضُ صُلْبَةٌ ذاتُ حجارَةٍ سوداءٍ) بينهما نَخْلُ، به علاماتٌ لا تَخْفَى:

1- يَأْكُلُ الهِدِيَّةَ.

2- ولا يأكُلُ الصَّدَقَةَ.

3- بين كَتِفَيْه خاتَمُ النبوَّةِ.

فإن اسْتَطَعْتَ أَنْ تَلْحَقَ بِتِلْكَ البلادِ فافْعَلْ.

 

وأقامَ سلمانُ في عمّورِيَّةَ، وكانَتْ لَهُ ثروةٌ بسيطَةٌ من الأَبْقارِ والغَنَم، حتى مرّ بعَموريَّةَ جماعةٌ من العَرَبِ من قبيلَةِ كَلْب يَعْملونَ بالتجارَةِ، فقالَ لَهُم: احْمِلوني مَعَكُم إلَى أرضِ العَرَبِ ولَكُم هَذِهِ الأَبْقارُ والأَغنام، فَقَبِلوا.

ولكنَّهُم غَدَروا بِسَلمانَ، إذْ إنهم لمَّا وَصَلوا إلى «وادي القُرَى» ادَّعَوْا أَنَّه عَبْدٌ، وباعوهُ لرَجُلٍ من اليَهودِ. وظلَّ سَلمانُ في الرِّقّ، ينتقلُ من سيِّدٍ إلى آخَرَ حتَّى تداوَلَهُ بِضْعَةُ عَشَرَ سَيِّدًا.

ولكنّ هذا الرِّقَّ كانَ سبَبًا في مجيئِه إلَى المدينَةِ (وهِي الأرضُ بَيْنَ الحَرَّتَيْن بَيْنَهما نَخْل)، حيثُ سَمِعَ أنَّ رَسولَ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم،  ظَهَرَ بِمَكَّةَ، ثم انْقَطَعَتْ عنهُ الأخبارُ.

(لاحِظْ أَنَّ الرِّقَّ كانَ يقطعُ صاحبَه غالبًا عن النَّاسِ، حيثُ يَتَوَلَّى العبدُ الأعمالَ الشَّاقَّةَ، ومنها ما يكونُ خارجَ المَدينَةِ غالبًا كالرَّعْي والزِّراعَةِ، ولم يَكُنْ من حَقِّ الرَّقيقِ المُشارَكَةُ في حَديثِ السَّادَةِ).

 

ومَضَتْ الأيَّامُ، وهَاجَرَ رَسولُ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم، إلى المدينَةِ، واسْتَأْذَنَ سلمانُ سادَتَه في «إجازَةِ» يومٍ فأذِنوا لَهُ، فأتَى رَسولَ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم، وأصحابَه بطعامٍ وقال: هذا صَدَقَةٌ، فقالَ الرَّسولُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم، لأصحابِه: كُلوا، ولم يَأْكُلْ هو. فقالَ سَلْمَانُ في نَفْسه: هَذِهِ واحِدَةٌ.

وبعد مدَّة جاءَ سلمانُ بطعامٍ، وقَدَّمَهُ للرّسولِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم، وأَصْحابَهُ، وقالَ: هَذا هِدِيَّةٌ، فَدَعا النَّبِيُّ أصحابَه إلَى الطعامِ وأَكَلَ مَعَهُم. فقالَ سَلْمانُ في نفسِهِ: وهذهِ الثَّانِيةُ.

وفي مَرَّةٍ ثالِثَةٍ، بَيْنَما الرَّسولُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم، في جَنازَةِ، أَخَذَ سلمانُ يَدورُ خَلْفَ النَّبِيِّ، فأَحَسَّ النَّبيُّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم، أنّ سلمانَ يريدُ أنْ يَرَى «خاتَمَ النُّبُوَّةِ»، فَأَنْزَلَ الرِّداءَ عنْ ظَهْرِهِ قليلاً.

 

فَظَهر هذا الخاتَمُ (وهو قِطْعَةٌ بارِزَةٌ من اللَّحمِ حمراءُ، في حجمِ بيضَةِ الحمامَةِ، عِنْدَ الكَتِفِ الأَيْسَرِ، وهُوَ من العَلاماتِ الَّتي كانَ أهلُ الكتابِ يَعْرِفونَه بها). فَأَعْلَنَ سَلْمانُ إِسْلامَهُ، وسأَلَهُ رسولُ اللهِ عن قِصَّتِهِ، فَقَصَّها عَلَيْهِ.

نَصَحَ الرَّسولُ، عليهِ الصَّلاةُ والسّلامُ، سلمانَ أنْ يَفْدِي نَفْسَه من العُبودِيَّةِ، فكاتَبَ سَيِّدَه اليهودِيَّ أنْ يَزْرَعَ لَهُ ثَلاثَمِئَةِ فَسيلَةِ نَخْلِ، ويَدْفَعَ وزنًا معلومًا من الذَّهَبِ، فَتَبَرَّع الأنصارُ بالفَسائِلِ لِسَلمانَ، وغَرَسَها رَسولُ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم، بيدَيْهِ الشَّريفَتَيْنِ، فَأَثْمَرَتْ كُلُّها.

وفي إحدَى الغَزَواتِ غَنِمَ المُسلمونَ قِطْعَةَ ذَهَبٍ فَقَدَّمَها رَسولُ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم، لسلمانَ، واستوفَى اليهودِيُّ حَقَّهُ، وتَحَرَّرَ سلمانُ من الرِّقِّ.

 

وكانَتْ غَزْوَةُ الأَحزابِ أوَّلَ غَزْوَةٍ يَشْهَدُها سَلْمانُ، وهو الّذي أَشارَ بحَفْرِ الخَنْدَقِ، ثُمَّ لم يَفُتْهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ غَزْوَةٌ غَزاهَا الرَّسولُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم، بَعْدَها.

ووَاصَلَ سَلْمانُ حياتَهُ: مُجاهِدًا، طالِبًا للعِلْمِ والحِكْمَةِ، وزاهِدًا في زُخْرُفِ الحَياةِ الدُّنْيا. ولمَّا فَتَحَ المسلمونَ بلادَ فَارِسَ، ولاَّه عُمَرُ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، «المَدائِنَ»، فكانَ إذا خَرَجَ عطاؤُهُ (راتِبُه السَّنَوِيُّ) تصدَّقَ بهِ كلِّه، وعاشَ مِن عَمَلِ يَدِه، ولا يَقْبَلُ من أَحَدٍ شيئًا.

وفي أواخِرِ خِلافَةِ عُثْمانَ، ماتَ سلمانُ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، سنةَ 36هـ أو قَبْلَها بقليلٍ، ومَدْفَنُهُ اليومَ في «سَلْمَان باكْ»، وهي بَلْدَةٌ بجوارِ المَدَائِنِ في العِراقِ، سُمِّيَتْ باسْمِهِ.

 

ولأنَّ حياةَ سلمانَ كانَتْ سِلْسِلَةً من الرَّحَلاتِ والمَشَقَّاتِ، انتقلَ فيها مِنْ دينٍ إلَى دينٍ، ومِنْ بَلَدٍ إلى آخَرَ، ومِنْ حُرِّيَّةٍ إلَى عُبودِيَّةٍ، ومن سيِّدٍ إلَى سَيِّدٍ، دَخَلَتْ أخبارَه قِصَصٌ وحكاياتٌ لا تَسْتَنِدُ إلَى التمحيصِ التَّاريخِيِّ، ولا يُمْكِنُ الجمعُ بَيْنَ بعضِها في نَسَقٍ واحِدٍ.

ومن أَطْوَلِ ما في المَراجِعِ القَدِيمَةِ ما كَـتَبَهُ الذَّهَبِيُّ في قِصَّتِهِ، وفي آخِرِ الجزءِ الأَوَّلِ من «سِيَرِ أَعْلامِ النُّبَلاءِ»، ومن أَخْصَرِها تَرْجَمتُهُ في «الإصابَةِ» لابن حَجَر، و«الاسْتيعابِ» لابِنْ عَبْدِ البَرِّ. أمَّأ المُؤَلَّفاتُ الحديثَةُ عَنْه فكثيرةٌ، يمكِنُكَ الاهتداءُ إليها بفهارِسِ المَكْتَبَاتِ العَامَّةِ.

[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى