الطب

التطور التاريخي الذي مرًّ به علم “الطب” عبر القرون

2001 موسوعة الكويت العلمية الجزء الثاني عشر

مؤسسة الكويت للتقدم العلمي

علم الطب تطور علم الطب عبر القرون الطب

كانَ إِنْسانُ ما قَبْلَ التَّاريخِ يُؤْمِنُ بأَنَّ الأَمْراضَ تَحْدُثُ نَتيجَةَ غَضَبِ الآلِهَةِ، أَوْ ما أَسْماه بالأَرْواحِ الشِّرِّيرَةِ، ومِنْ ثَمَّ أَصْبَحَ شِفاءُ المَرَضِ مِنْ وَظَائِفِ الكُهَّانِ ورِجالِ الدِّينِ.

وفي مِصْـرَ القَديمَةِ كانَ الأَطِبَّاءُ المِصْرِيُّونَ القُدَماءُ هُمْ رجالَ الدِّينِ الّذينَ تُوحِي إليهِم الآلِهَةُ بأَسْرارِ الشِّفاءِ.

وكانَ هَؤُلاءِ يَتَخَصَّصونَ في الأَمْراضِ المُخْتَلِفَةِ. وقد ذاعَتْ شُهْرَتُهُمْ حَتَّى سَجَّلَ التَّاريخُ أَنَّ المُلوكَ سَعَوْا إلَيْهم من أَنْحاءِ الدُّنْيا القَديمَةِ لاسْتِشَارَتِهِم.

 

ويَذْهَبُ المُؤَرِّخونَ إلَى أَنَّ أَوَّلَ مَنْ أُطْلِقَ عَلَيْه وَصْفُ «طبيبٍ» في العَالَمِ كانَ المِصْـرِيُّ «إيْمحُتِبْ»، وهُوَ الّذي تَتَّخِذُ جامِعَةُ القاهِرَةِ مِنْ تِمْثالِهِ شِعارًا لها.

وقَدْ أَظْهَرَتْ البَرْدِيَّاتُ الطِّبِّيَّةُ أَنَّ الأَطِبَّاءَ المِصْرِيِّينَ القُدَامَى أَحْرَزوا تَقَدُّمًا هائِلاً في العُلومِ الطِّبِّيَّةِ وبِخاصَّةٍ في الجِراحاتِ. وقَدْ تَفَوَّقَ المِصْرِيُّونَ القُدَماءُ في عِلاجِ كُسورِ العِظامِ.

كَذَلِكَ قامَ الصِّينيُّونَ القُدماءُ بِتَطويرِ الطِّبِّ وَفْقَ مُعْتَقَداتِهِم القائِلَةِ بأَنَّ قُوَّتَيْن مِنْ قُوَى الحياةِ تَجْريانِ في الجِسْمِ وتَتَحَكَّمانِ فيهِ، ولا يَظْهَرُ المَرَضُ إلاَّ إذا اخْتَلَّ التَّوازُنُ بَيْنَ هاتَيْن القُوَّتَيْن.

 

وما زَالَتْ هَذِهِ الفِكْرَةُ قائِمَةً في العِلاجِ بالإبَرِ الصِّينِيَّةِ الّتي يُعْتَقَدُ أَنَّ الوَخْزَ بِها في أَماكِنَ مُعَيَّنَةٍ (تُسَيْطِرُ عَلَى هاتَيْن القُوَّتَيْن) يُعيدُ الاتِّزانَ المَفْقودَ إلَى الجِسْمِ. ولا يَزالُ الأَطِبَّاءُ الصِّينيُّونَ – وغَيْرُهم – يُمارِسونَ الوَخْزَ بالإبَرِ حَتَّى الآن.

وفي القَرْنِ الخامِسِ قبلَ الميلادِ وَضَعَ أَبُقْراطُ ما يُعْتَبَرُ بمَثَابَةِ الأَساسِ العِلْمِيِّ للطِّبِّ بِدِراسَةِ المَريضِ والمَرَضِ. وقَدْ أَثْبَتَ أَبُقْراطُ أَنَّ الأَمْراضَ تَرْجِعُ إلَى أَسْبابٍ طَبيعِيَّةٍ مادِّيَّةٍ لا إلَى السِّحْرِ أو أَسْبابٍ دِينيَّةٍ، وأَنْشَأَ مَدْرَسَتَهُ الطِّبِّيَّةَ الشَّهيرَةَ بجَزيرَةِ «كُو» الإغْريقِيَّةِ.

وكانَتْ الأَمْراضُ تُرَدُّ إلَى حُدوثِ خلَلٍ في التوازُنِ بينَ ما كانَ يسَمَّى «الأَخْلاَط» أو «الأَمْزِجَةَ» الأَرْبَعَة في الجِسْمِ (وهِيَ: الدَّمُ، والبَلْغَمُ، والمِرَّةُ الصَّفْراءُ، والمِرَّةُ السَّوْداءُ).

وإلَى أَبُقْراطَ يَرْجِعُ الفَضْلُ في وَضْعِ أَخْلاقِيَّاتِ الطِّبِّ الحَديثِ الّتي يُبَلوِرُها قَسَمُ أَبُقْراط الّذي ما يَزَالُ يَحْتَفِظُ بِمكانَتِهِ إلَى اليَوْمِ.

 

وفي روما مارَسَ الطَّبيبُ الإغْريقِيُّ جالينوسُ الطِّبَّ في القَرْنِ الثَّاني بَعْدَ الميلادِ. وهوَ أَوَّلُ من وَضَعَ النَّظَرِيَّاتِ الطِّبِّيَّةِ الّتي تَعْتَمِدُ علَى التَّجارِبِ العِلْمِيَّةِ.

وقَدْ ظَلَّتْ هذهِ النَّظَرِيَّاتُ – علَى الرَّغْمِ من خَطَأِ مُعْظَمِها – بـمثابَةِ الدَّليل الّذي يَسْتَـرْشِدُ به الأَطِبَّاءُ قروناً طويلةً، وقَدْ تَأَثَّر الأَطِبَّاءُ العَرَبُ الـمُسلمونَ بِجالينوسَ وشَـرَحوا أَفْكارَهُ وعَدَّلوا بَعْضَها واكْتَشفوا أَوْجُهَ الخَطَأِ فيها، وتَطَوَّرَ الطِّبُّ علَى أَيديهم تَطَوُّرًا عظيمًا، علَى حين ظَلَّ الطِّبُّ في العُصورِ الوُسْطَى الأُوروبِيَّةِ بِمَعْزِلٍ تَامِّ عَنْ المُمارَسَةِ المُباشِرَةِ للطِّبِّ.

وكانَ أَطِبَّاءُ العُصورِ الوُسْطَى يَعْتمِدونَ علَى الكُتُبِ القَديمَةِ وفَحْصِ البَوْلِ لتَشْخَيصِ الأَمْراضِ، وتَرَكوا الجِراحَةَ للحلاَّقينَ، والتَّوليدَ للقَابلاتِ، وتَرْكيبَ الأَدْوِيَةِ للصَّيادِلَةِ. أمَّا في العالَمِ الإسْلامِيِّ فَقَدْ لَمَعَتْ نجومُ عَدَدٍ مِنَ الأَطِبَّاءِ الكِبارِ الّذين أَسْهَمُوا في تَقَدُّمِ العُلومِ الطِّبِّيَّةِ تَقَدُّمًا مَلْحوظًا.

 

وفي القَرْنِ السَّادِسَ عَشَرَ قامَ الطَّبيبُ الإيطالِيُّ فِيزالْيوس بِتَشْريـحِ عَدَدٍ كبيرٍ مِنَ الجُثَثِ، ووَضَعَ أَوَّلَ كتابٍ تَعْلِيمِيٍّ عنْ تَشْريحِ جِسْمِ الإنْسانِ.

وفي القَرْنِ السَّابِعَ عَشَرَ نبغَ الطَّبِيبُ الإنجليزِيُّ توماسْ سِيدْنامْ الّذي اتَّجهَ إلَى الدِّراسَةِ المباشِرَةِ للأَمراضِ والمَرْضَى، وعُنِيّ عِنايَةً خاصَّةً بالحُميَّاتِ دونَ اعْتمادٍ علَى الكُتُبِ السَّابِقَةِ، وكانَ يُلَقَّبُ بأَبْقراطَ الإنجليزِيِّ.

وتَوَحَّدَتْ الجِراحَةُ والطِّبُّ في القَرْنِ الثَّامِنَ عَشَرَ، وكانَ جونْ هَنْتَرْ مُؤَسِّسَ الأُسْلوبِ العِلْمِيِّ في الجِراحَةِ، وكَوَّنَ مَجْموعَةً من الأَطِبَّاءِ سُمِّيَتْ «الجَرَّاحينَ المُفَكِّرينَ».

 

وقَضَى هَؤلاءِ أَوْقاتًا طويلَةً في حُجُراتِ التَّشْريحِ لِتَعَلُّمِ تَرْكيبِ جِسْمِ الإنْسانِ وأَسالِيبِ الجِراحَةِ. كَذَلِكَ كانَ الجَرَّاحُ العَسْكَرِيُّ الفَرَنْسِيُّ امْبرواز بارِيه أَوَّلَ من طَوَّرَ أَساليبَ الجِراحَةِ الحَدِيثَةِ، ولِهذا وُصِفَ بأنَّه أَبو الجراحَةِ الحديثَةِ.

وفي نهايَةِ القَرْنِ الثَّامِنَ عَشَـرَ (1796) اكْتَشَفَ الطّبيبُ الإنجليزِيُّ إِدْوارْ جِينَرْ أَنَّ بإِمْكانِهِ تَوْفيرَ المَناعَةِ ضِدَّ مَرَضِ الجُدَرِيِّ – وهُوَ مَرَضٌ مُعَدٍ جدًّا – وذَلِكَ عَنْ طَريقِ التَّطعيمِ بمَصْلٍ مُسْتَخْرَجٍ من جَراثِيمِ مَرَضِ الجُدَيْرِيِّ (وهُوَ مَرَضٌ قَريبُ الصِّلَةِ بالجُدَرِيِّ، وإنْ كانَ مَحدودَ الضَّررِ إذا ما قُورِن بِهِ).

وكانَ تَقَدُّمُ المِجْهَرِ (المِكْروسكوبِ) وكَشْفُ عَلاقَةِ البَكْتيرْيا بالأَمراضِ سَبَبًا في تَحْويلِ طِبِّ القَرْنِ التَّاسِعَ عَشَرَ إلَى عِلْمٍ مَعْمَلِيٍّ، وأَصْبَحَتْ للدِّراساتِ المَعْمَلِيَّةِ أَدوارٌ كبيرةٌ في تَشخيصِ الأَمْراضِ وفي بُحوثِ عِلاجِها.

 

وقَدْ تَمَكَّنَ الكِيميائِيُّ الفَرَنْسِيُّ لُوِي بَاسْتيرْ من إثْباتِ وُجودِ مَيْكروباتٍ دَقيقَةٍ جدًّا، لا تُرَى بالعَيْنِ المُجَرَّدَةِ، تَتَسَبَّبُ في الإصابَةِ بالأَمْراضِ وتُسَمَّى الجراثيم. كذلِكَ تَوَصَّلَ الطَّبيبُ الأَلْمانِيُّ رُوبَرْتْ كُوخْ إلَى أُسْلوبِ تَحْديدِ نَوْعِ الجراثِيمِ الّتي تَتَسَبَّبُ في كُلِّ مَرَضٍ مِنَ الأَمْراضِ.

وقَدْ سَاعَدَتْ هذه الاكْتِشافاتُ الجَرَّاحينَ في تَعْقيمِ الجروحِ بالمُطَهِّراتِ، ومُكافَحَةِ الإصابَةِ بالعَدْوَى عَنْ طَريقِ الغَسْلِ بالماءِ والمُطهِّراتِ قَبْلَ كُلِّ عَمَلِيَّةٍ.

كذلِكَ حَفِلَ القَرْنُ التَّاسِعَ عَشَرَ بِعِدَّةِ اكْتِشافاتٍ أُخْرَى مُهِمَّةٍ كانَ لَها أَثَرُها في تَقَدُّمِ الطِّبِّ. فَقَدْ اكْتُشِفَتْ مادَّتا الإثيرِ والكُلورفورْم، وهُما مادَّتانِ تَمْنَعانِ الإحْساسَ بالأَلَم في أَثْناءِ العَمَلِيَّاتِ الجِراحِيَّةِ، ومِنْ هنا تَطَوَّرَ التخدير تَطَوُّرًا كَبيرًا، ومِنْ ثَمَّ أَمْكَن مُمارَسَةُ عَمَلِيَّاتٍ جِراحِيَّة في أَجْزاء مُتَعَدِّدَةٍ مِنَ الجِسْمِ.

 

وحَفِلَ القَرْنُ العِشْرونَ بِمَظاهِرَ عَديدَةٍ لِثَوْرَةٍ طِبِّيَّةٍ أَفادَتْ مِنْ ثِمارِ التَّقَدُّمِ العِلْمِيِّ الكَبيرِ الّذي تَفَجَّر طَوالَ هَذا القَرْنِ.

فَقَدْ تَمَّ اكْتِشافُ الأَشِعَّةِ السِّينِيَّةِ (أَشِعَّة X) واسْتَخْدَمَها الأَطِبَّاءُ في تَصويرِ الأَجْزاءِ غَيْرِ الظَّاهِرَةِ مِنْ الجِسْمِ، والإفادَةِ مِنْ هَذِهِ الصُّوَرِ في تَشخيصِ العِلَلِ المُخْتَلِفَةِ.

كَذَلِكَ أَثْبَتَ عَدَدٌ من عُلَماءِ الطِّبِّ أَهَمِّيَّةَ الفِيتاميناتِ، ومِن ثَمَّ أَمْكَنَ التَّغَلُّبُ علَى بَعْضِ أَمْراضِ سُوءِ التَّغْذِيَةِ مُنْذُ العِشْـرينِيَّاتِ والثَّلاثينياتِ من القَرْنِ العِشْـرين.

 

وكانَ اكْتِشافُ المُضادَّاتِ الحَيَوِيَّةِ بِمَثابَةِ ثَوْرَةٍ كُبْرَى مَكَّنَتْ من مُكافَحَةِ كَثيرٍ من صُوَرِ العَدْوَى والقَضاءِ علَى كثيرٍ من الأَمْراضِ.

وتَوَالَتْ الاكْتِشافاتُ الّتي ساعَدَتْ علَى تَجْويدِ الأَداءِ الطِّبِّيِّ والارْتِفاعِ بكفاءَتِهِ. فَعَلَى سَبيلِ المثالِ أَدَّى اكْتِشافُ فَصائِلِ الدَّمِ إلَى جَعْلِ عَمَلِيَّاتِ نَقْلِ الدَّمِ أَكْثَرَ أَمانًا، كما تَطَوَّرَتْ وَسائِلُ الجِراحَةِ والتَّخْديرِ، وتَطَوَّرَتْ العَقاقير الطِّبِّيَّةُ نَفْسُها بِصورَةٍ غَيْرِ مَسْبوقَةٍ.

وبَدَأَ الطِّبُّ في زِراعَةِ الأَعْضاءِ، كالقَلْبِ والكَبِدِ والكُلْيَةِ، ولَكِنْ ووُجِهَتْ هَذهِ العَمَلِيَّاتُ أَوَّلَ الأَمْرِ بالفَشَلِ عِنْدَما رَفَضَ الجِهازُ المَنَاعِيُّ لِبَعْضِ المَرْضَى تَقَبُّلَ الأَعْضاءِ المَزروعَةِ حَتَّى تَمَّ اكْتِشافُ عَقَّارٍ لِمُقاوَمَةِ رَفْضِ الجِسْمِ لِلْعُضْوِ المزْروعِ (1978).

 

ويُعْنَى الطِّبُّ الآنَ عِنايَةً شَديدَةً بالتَّوَتُّراتِ العَصَبِيَّةِ والعاداتِ الغِذائِيَّةِ الخاطِئَةِ الّتي تُسَبِّبُ مُضاعَفَةَ الإصابَةِ بأَمْراضِ القَلْبِ والسَّكَتَاتِ المُخِّيَّةِ الوِعائِيَّةِ.

كما أَنَّه قَدْ تَمَّ تَوْظِيفُ كثيرٍ من التَّطْبيقاتِ التِّكْنولوجِيَّةِ لأَفْكارٍ هَنْدَسِيَّةٍ وعِلْمِيَّةٍ لِخِدْمَةِ أَغْراضِ التَّشْخيصِ.

 

وبَرَزَ هذا في التَّصويرِ بالمَوْجاتِ فَوْق الصَّوْتِيَّةِ، وبالرَّنينِ المِغْناطِيسِيِّ، والفُحوصِ المَقْطَعِيَّةِ المُبَرْمَجَةِ بأَجْهِزَةِ الكُمْبيوتَر.

ولَكِنْ لابُدَّ من الاعْتِرافِ بأنَّ مَيْكَنَةَ الطِّبِّ كانَتْ بِمَثابَةِ خُطوَةٍ تَقَدُّمِيَّةٍ كبيرةٍ إذْ هَيَّأَتْ للطِّبِّ المُعاصِرِ عَدَدًا كبيرًا من الآلاتِ الّتي تُساعِدُ علَى مُمَارَسَةِ الطِّبِّ علَى وَجْهٍ أَفْضَلَ، ولَكِنَّها لا تُغْنيهِ عَنْ الصِّفاتِ والمَهاراتِ الإنْسانِيَّةِ الّتي لابُدَّ من تَوافُرِها بِدَرَجاتٍ عَالِيَةٍ في الأَطِبَّاءِ.

[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى