العلوم الإنسانية والإجتماعية

أمثلة على علماء تتبعوا منهج واضح ومحدد في تفسير مكتشفاتهم

1997 قطوف من سير العلماء الجزء الثاني

صبري الدمرداش

KFAS

علماء تتبعوا منهج واضح ومحدد في تفسير مكتشفاتهم العلوم الإنسانية والإجتماعية المخطوطات والكتب النادرة

مما يميز عمل العلماء التزامهم بمنهج معين يتبعونه في تفسيرهم للظواهر وحلهم للمشكلات وتعاملهم مع الأشياء والأحداث.  وكان لكل من علماء الإغريق وعلماء العرب وعلماء الغرب منهجه الذي نوضحه فيما يلي :

لم يعرف علماء الإغريق المنهج العلمي الذي نعرفه نحن اليوم، وإنما كانوا ينطلقون من أفكار كلية مسبقة يؤسِّسون عليها استنتاجاتهم، مستخدمين في ذلك أصول المنطق والتفكير المجرَّد .

وإذا كانت الكليات هي محط اهتمامهم فإن الجزئيات لم تكن لتهمهم. ولم يكونوا يعنون بالتجربة العملية وما يتطلبه إجراؤها من صنع أدوات وأجهزة خاصة، وإنما كان جُل سعيهم وراء فكرة ذهنية شاملة عن الكون وما تحكمه من نظم تُحدِّد علاقاته وتربط بين مكوناته .

ولعل لذلك تفسيره إذا ما علمنا أن الإغريق كانوا يقدسون العمل الفكري قدر احتقارهم للعمل اليدوي الذي كانوا يرونه جديرا بالعبيد.

 

وقد بلغت هذه النظرة "العلمية" والاجتماعية الخاطئة في عهد أفلاطون ذروتها حيث يؤثر عنه قوله : "نكون في حياتنا أقرب إلى المعرفة طالما اجتنبنا ملامسة الجسم وتداوله!" .

وكل شيء عنده يُدركُ بالعقل وحده وليس بالملاحظة، حتى حركات الأجرام السماوية يقوم إدراكها على العقل للتوصل إلى معلوماتٍ مجردة عن الحركات المثالية للسرعة المطلقة أو البطء المطلق .

لذا، والحال كذلك، يكون العلم الطبيعي لدى الإغريق في جملته، ما هو إلا مجموعة من الأفكار والتأملات المجردة التي لا سند لها من ملاحظة أو تجريب.

فهو يقوم أصلاً على الفلسفة التقليدية والتفكير المجرَّد والاستنباطات العقلية. وقد يُستثنى من ذلك بعض العلماء المجربين مثل أرشميدس، حيث تشهد أعماله في الطبيعيات على أخذه بالملاحظة وركونه إلى التجريب .  وتمر الأيام وتتوالى السنون، ويُقبل العصر الإسلامي الزاهر .

 

وفي هذا العصر لم يحذُ علماء العرب حذو علماء الإغريق في منهجهم الاستنباطي، وإنما أخذوا بما نسميه اليوم "المنهج التجريبي". ولنضرب لذلك الأمثال الموضحة من منهج: ابن حيان، وابن الهيثم، والبيروني، وابن البيطار، والشَّيرازي على وجه الخصوص .

فكان ابن حيان يرى أن المعرفة الحقة لا تتأتى إلا بالتجريب. انظر إلى قوله:  "وأول واجب أن تعمل وتجري التجارب، لأن من لا يعمل ويجري التجارب لا يصل إلى أدنى مراتب الإتقان، فعليك يا بني بالتجربة لتحصل على المعرفة الواثقة".

تجده يركز بشدة على فضل التجربة وأهميتها البالغة في التوصل إلى النتائج الصحيحة . وقد وضع في كتابه : "العلم الإلهي" قواعد معينة، سبعة، على الباحث التزامها حتى لا تكون نتائجه زائفة ومضللة.

كما كان ينصح بضرورة فهم التعليمات لأن لكل صنعة أساليبها الفنية، والتذرع بالصبر والمثابرة، والتثبت في إصدار الأحكام. كما كان ينشد الدليل المقنع القائم على المشاهدة والمعاينة وليس عن مجرد النقل والتواتر.

تأمل قوله في كتابه "الموازين" : "إن كل نظرية تحتمل التصديق والتكذيب فلا يصح الأخذ بها إلا مع الدليل القاطع على صدقها".

 

كما ذكر في كتابه : "الخواص الكبير" أنه لم يشرح فيه إلا ما رآه بعينه مهملاً ما وصل إليه علمه عن قراءة أو سماع. بالضبط كما كان البغدادي يُوصي تلاميذه بعدم التعويل على  ما بالكتب في نشود  الحقيقة .

وإجمالاً، كان ابن حيان يرى الفخار في حبكة الطريقة المستخدمة والمنهج المتبع لا في وفرة النتائج وكثرتها. انظر إلى قوله في كتابه "الرحمة" : " ما افتخر الحكماء بكثرة العقاقير وإنما بجودة التدبير" .

وقد ظل هذا المنهج العلمي نبراساً لمن جاء بعد شيخ الكيميائيين من كيميائيَّ العرب .

أما ابن الهيثم، فقد أخذ في بحوثه بكل من الاستقراء والقياس (الاستنباط)، كما عُني في بعضها بالتمثي ، وهي العناصر الثلاثة الرئيسة التي تشكل الركائز الأساسية في الطريقة الحديثة في البحث العلمي، بل هي – من غير تجاوز – المنهج العلمي المعاصر بعينه!.

 

وبذا يكون ابن الهيثم قد سبق بيكون الذي يُنسب إليه الفضل في كشف هذا المنهج واستخدامه .

ليس هذا فحسب بل تفوق عليه، وكان أوسع منه أفقاً وأعمق فكرا، وإن لم يُعن عناية بيكون بتحديد خصائص هذا المنهج وبيان فلسفته النظرية ليلتزم بها غيره من العلماء. ولكن حسبه أنه قد عرف هذه الخصائص وتلك الفلسفة، والتزم بها في بحوثه فعلاً وعملاً .

وكان للبيروني، منهج علمي انتهجه في التوصل إلى إنتاجه الفائض الغزير في شتى المعارف الإنسانية. ومن سمات هذا المنهج: عدم التسليم بما انتهى إليه الآخرون من نتائج، وإنما لا بد من إخضاعها – مرة أخرى – للبحث والتدقيق والمراجعة والتمحيص.

الالتزام بالحيدة العلمية والتنزه عن الميل والتجرد عن الهوى، التحرر من الخرافات والخزعبلات، الاحتكام إلى التجريب العلمي بمعناه الدقيق، العناية البالغة بصياغة الأفكار وتسلسلها منطقيا مع الاقتصاد في التوضيح بالأمثلة ليرغم القارئ الجاد على التفكير والمشاركة .

 

وكان ابن البيطار يمتاز بعقليته العلمية الأصيلة التي تميل إلى التجريب، وتؤمن بضرورة المشاهدة والملاحظة والاستنباط، والأمانة في النقل، وتحرَّي الدقة والتثبت من صحة ما يقول أو يقرأ أو يسمع، والالتزام بالموضوعية والبعد عن  التحيز، فضلاً عن رؤيته الخاصة التي كان يقف فيها موقف الناقد والمُصحِّح لمن سبقوه، مجاوزاً لهم بخبراته الذاتية وتجاربه الميدانية .

أما الشَّيرازي، فكان منهجه يقوم على التجربة والاستقراء والاستنباط، كما كان يعتمد على المشاهدة الحسية ثم التدليل الرياضي على المسائل الفيزيقية والفلكية، لذا لم يكن ممن يستندون على المحاكاة المنطقية كما كان يفعل علماء اليونان .

وإذا أضفنا إلى كل هذا، ابتكار أبي بكر الرَّازي لما يعرف بالتجربة الضابطة، لأدركنا إلى أي مدى تميَّزت أعمال علماء العرب بصحة الطريقة وسلامة المنهد وعلميته .

ونقفز من العصر الإسلامي إلى عصر النهضة الأوروبية . فنجد كوكبة من علماء الغرب كانت بصماتهم أعمق من أن تُمحى في أخذهم بالمنهج العلمي وتطويره مما أثرى الحركة العلمية في عصرهم ولا يزال.

 

ومن هؤلاء نذكر كوبرنيكوس، مفجر الثورة الفلكية، وبرونو الذي نادى بنظرية الكون غير المحدود، وجاليليو المنتصر للنظام الكوبرنيكي. وكان لثالثهم بالذات منهجه العلمي الخاص الذي مكنَّه من هدم الكثير من الفكر الفيزيقي لمعلم الإنسانية الأول.

ويقوم هذا المنهج في جوهره على ركيزتين اثنتين : البحث الرياضي الذي أجاده جاليليو ولم  يُجدهُ أرسطو، والتجربة العلمية الحقيقية التي لم يعرفها أرسطو .

وفي تلك الفترة بدأ عصر النهضة العلمية الحقيقية ، وظهر أثر التحرر العقلي من مجرد مشايعة الفلسفة الأرسطية أو النقل عن الكتب العربية.

 

وظهر على المسرح العلمي فرسان أربعة يتوجهم خامس: فرانسس بيكون ( 1561 – 1639 )، وفابرك بيرسك ( 1580 – 1637 )، ومارين ميرس ( 1588 – 1648 )، وبيرجاسَندي ( 1592 – 1655 )، وخامسهم رينيه ديكارت ( 1590 – 1650 ) .

وبهؤلاء الخمسة دخل العلم عصره الحديث، ووثب المنهج العلمي وثبةً بارعةً ورائعة إلى الأعمق والأرحب .

وكان أولهم وآخرهم، بيكون وديكارت، خاصة تتمة رائعة لتلكم الباقة اليانعة من الأعلام الذي وضعوا أسس المنهج العلمي في العصر الحديث .

ومن مؤرَّخي العلم من يُنزل بيكون بالذات منزلاً علياً بما ينسبون إليه من ابتكاره المنهج العلمي، الذي سبق أن أوضحنا أن علماء العرب كانوا إليه الأسبق وبه الأولى.

على أن بيكون كانت له سماته المميزة : براعة في جمع الحقائق ونظمها في عقد نضيدٍ يظهر ما بينها من صلات وعلاقات، والقدرة على الاستنتاج المنطقي في ضوء ما تُوصِّل إليه  العلاقات والصلات، والقدرة على فرض الفروض ومحاولة إثباتها بما جَمَع من حقائق.

 

يُضاف إلى هذا أنه نظر للمنهج العلمي وتفلسف فيه، وكان يُحَذِّر من التشبث بالرأي والتمسك بالأفكار الخاطئة والتسليم بالخرافات المتوارثة.

وعند الكثيرين أن بيكون قفز بالتفكير العلمي قفزة هائلة أبعدته بعيداً عن تفكير القرون الوسطى. وحقاً إنه ليتربَّع على القمة مع الذين نهضوا بالتفكير العلمي وأصلوا منهجه .

ويكمل ديكارت دور بيكون. فقد كان يوصي، وهو المفكر الفيلسوف، بالشك وعدم التصديق قبل المشاهدة، وعدم التحيز، وتقسيم المسألة الكلية إلى جزئيات حتى يتيَسَّر حلها، وأهمية توافر الإحصائيات الكاملة، والتدرج من السهل إلى الصعب ومن البسيط إلى المعقد سعياً وراء الحقيقة الكاملة .

 

وكان لكل منهما، بيكون وديكارت، القدح المعلَّى في تنشيط الحركة العلمية في عصرهما وإعطائها قوة دافعة، وذلك بتأسيسهما الجمعيات والأكاديميات العلمية .

وتوالت الجهود وتوالت، حتى أصبح المنهج العلمي في العصر الحديث دستوراً لكل عالم فكراً وبحثاً والتزاماً، طريقةً وأسلوباً ومسلكاً، بعد أن تحدَّدت خصائصه بشكل أدق، ورسخت خطواته بشكل أوضح، وتأكَّدت فلسفته بشكل أعمق.

وإلى كل هذا، وغيره، يُعزى ذلك السَّيل السيَّال من النتائج العلمية الأصيلة التي تطالعنا بها الدوائر العلمية في مختلف أنحاء العالم كل يوم بل كل ساعة!.

[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى