
نهاية اللانهاية .. ثورة رياضية على الأعداد الهائلة
في قلب الرياضيات، ينهض تيار جديد من أنصار المحدودية القصوى الرافضين للانهاية، الذين يرون أن الأعداد الضخمة تعيق التقدم العلمي في مجال المنطق وحتى علم الكونيات، ويقترحون رؤية جذرية قد تعيد رسم حدود المعرفة.
بقلم كاميلا بادفيك-كالاغان
كم عدد الذرات في الكون المرصود؟ تشير التقديرات الحالية إلى عدد يُكتب على هيئة 1 يتبعه 80 صفرًا، أي 8010. وإذا نظرنا داخل كل ذرة وعددنا الجسيمات دون الذرية فيها؛ فقد نتمكن من العد إلى رقم أعلى قليلًا. ولكن ماذا بعد ذلك؟ لنأخذ مثلا الرقم 9010، حتى لو عددنا كل ذرة وكل جسيم دون ذري في الكون المعروف، فلن نصل إلى هذا الرقم. من منظور واقعي، لا يمت 9010 بأي صلة إلى الواقع الفيزيائي المحسوس.
لكن الأمر يزداد تعقيدًا؛ فإذا كان 9010 يثير تساؤلات، فماذا عن اللانهاية Infinity ؟ تمثل اللانهاية لدى البعض عملية مثل العد يمكن أن تستمر إلى ما لا نهاية، لكنها لا تفعل ذلك بالضرورة. ولكن في نظر آخرين، فهي تعني رقمًا هائلًا لا يمكن إدراكه. في كلتا الحالتين، يصير ربطها بالتجربة البشرية أمرًا عسيرًا، حتى لو لجأنا إلى أكبر شيء نعرفه. تخبرنا الصورة القياسية لعلم الكونيات أن الكون لا نهائي بلا حدود، ومع ذلك نعلم أنه، من وجه ما، له «حافة» Edge، فقاعة داخل الكون تُعرف بالكون المرصود، تحددها أشعة الضوء التي تسافر نحونا منذ الانفجار العظيم. وكل ما يتجاوز هذه الفقاعة يظل – عمليًّا – مجهولًا.
هل لهذا الأمر أهمية؟ منذ ستينيات القرن العشرين، جادل فريق صغير، لكن مثابر من علماء الرياضيات والفلاسفة وعلماء الحاسوب والفيزياء، بأن الجواب هو نعم. هؤلاء الذين يطلقون على أنفسهم اسم أنصار المحدودية القصوى Ultrafinitists، يحذرون من الثقة الزائدة في أرقام مثل 9010 التي تتجاوز نطاق تجربتنا الواقعية. ولا داعي لأن نذكِّرهم باللانهاية Infinity، فهم يرونها «مجرد وهم»، كما يقول دورون زيلبرغر Doron Zeilberger من جامعة روتجرز Rutgers University في ولاية نيوجيرسي.
تاريخيًّا، قُوبلت حركة أنصار المحدودية القصوى أو الرفض التام للانهاية في أكثر الأحيان بالرفض، باعتبارها راديكالية وغير متماسكة، لكن أنصارها يرون أن الأعداد الهائلة واللانهاية تقوض أسس العلم، من المنطق إلى علم الكونيات. وحاليًا، صار عدد المتعاطفين مع هذه الحركة كبيرًا بما يكفي، ومن ثم فهم حريصون على التأكيد أنه لا يمكن تجاهلهم.
يقول جاستن كلارك-دوين Justin Clarke-Doane من جامعة كولومبيا Columbia University في نيويورك: «لقد بلغنا الآن كتلة حرجة من الأشخاص الذين فكروا مليًّا في هذه القضايا. حتى وقتنا الحالي، لم يُكتب أي مؤلَّف جامع أو نص معياري عن المحدودية القصوى؛ لأن المشكلة كانت تُعد عسيرة جدًّا أو راديكالية جدًّا. وها قد صارت لدينا إمكانية للتقدم».
في شهر أبريل 2025، استضاف كلارك-دوين مؤتمرًا عن المحدودية القصوى في جامعة كولومبيا، جمع فيه باحثين من تخصصات متعددة، مِمَن لم يكونوا جميعًا ملتزمين تمامًا بعقيدة المحدودية القصوى، لكنهم
كانوا – على الأقل – منشغلين بدور اللانهاية في الرياضيات. وقال في كلمته الافتتاحية: «آمل أن يمثل هذا المؤتمر نقطة تحول في الأبحاث المتعلقة بالمحدودية القصوى. يجب ألا يتمكن المعلقون بعد الآن من تجاهل هذا الرأي».
وعبر المشاركون عن آراء قوية بالفعل؛ ففي منتصف اليوم الأول من المؤتمر، قال زيلبرغر: «قد توجد اللانهاية وقد لا توجد… لكن لا حاجة لها في الرياضيات». لا شك في أن معظم علماء الرياضيات سيعارضون هذا الرأي؛ فالرياضيات الحديثة تعتمد على إطار مشترك يُعرَف بنظرية زيرميلو-فرينكل للمجموعات Zermelo-Fraenkel set theory، مقترنة بمبدأ الاختيار Axiom of choice، ويُشار إليها عادة اختصارًا بالأحرف ZFC. والنظرية في جوهرها قائمة من المسلمات التي تُفترض صحتها، وتُستخدَم دليلًا إجرائيًّا لممارسة الرياضيات. وتؤكد إحدى هذه المسلمات، بشكل صريح، وجود اللانهاية.
لمعظم الأغراض، تعمل النظرية ZFC بكفاءة. لكن، ومنذ ما يقرب من قرن، يحوم سؤال ضخم حول صلاحيتها؛ ففي العام 1931، أثبت عالم الرياضيات كورت غودل Kurt Gödel أن من المستحيل إثبات اتساق مسلمات النظرية ZFC من داخل إطارها نفسه. يقول كلارك-دوين: «لم يثبت أحد أنها غير متسقة، لكن لا يوجد ما يمنحنا يقينًا عميقًا بأنها متسقة حقًّا».
ولكن هذا لا يُقلق كثيرًا من الباحثين؛ إذ من السهل ترك النظرية ZFC تعمل في الخلفية. تقول زوزانا هانيكوفا Zuzana Haniková من الأكاديمية التشيكية للعلوم Czech Academy of Sciences: «في الوقت الحاضر، يستخدم علماء الرياضيات النظرية ZFC كأساس، من دون أن يتبنوها صراحة».
الأعداد الكبيرة والصغيرة
لكن بعد ثلاثين عامًا من زرع غودل قنبلة في صميم الرياضيات، رفضت شخصية غير متوقعة أن تنتظر انفجارها ببساطة؛ فقد ادعى ألكسندر يسينين-فولبين Alexander Esenin-Volpin، عالم الرياضيات والشاعر والمنشق الروسي، أنه وضع برنامجًا لإثبات اتساق نظرية المجموعات Zermelo-Fraenkel Set Theory، أو النظرية ZF، وهي جزء فرعي من ZFC. وقد كان لهذا البرنامج فرصة لتقوية العمود الفقري للرياضيات المعاصرة، بمناورة جريئة، وهي التخلي عن اللانهاية (انظر الإطار بعنوان: الرياضي المتمرِّد).
لكن كيف يحدث ذلك بالضبط؟ مازال الأمر غير واضح، إذ لم تصل أفكار يسينين-فولبين إلى التيار السائد في البحث الرياضي. يقول والتر دين Walter Dean، من جامعة واريك University of Warwick في المملكة المتحدة: «لم تكن هذه الأفكار مفهومة جيدًا في ذلك الوقت، ومازالت التفاصيل غامضة». وقد وصفت مراجعة معاصرة، هي التي صاغت مصطلح «المحدودية القصوى»، ورقة يسينين-فولبين المنشورة في العام 1961 بأنها «لم تقدم حججًا قوية بما يكفي».
لكن رياضيين آخرين حملوا شعلة المحدودية؛ ففي العام 1971، كتب روهيت باريك Rohit Parikh من جامعة مدينة نيويورك City University of New York ورقة بحثية أزالت بعض الغموض، وأظهرت أن فكرة «العدد الصغير»، على الرغم من صعوبة تعريفها بدقة، يمكن تضمينها في نظرية رياضية مفيدة. وقد طور نظرية رياضية تُبقي جميع الأعداد أصغر من رقم أقصى معين، مثل 2 مرفوعة إلى القوة 2، مرفوعة إلى القوة 2، وهكذا 1000 مرة، وهي عملية تُعرف باسم الرفع التتريدي Tetration. ومع أن هذا الرقم أكبر بكثير 8010، وهو عدد الذرات في الكون، فإنه يمكن اعتباره «ممكنا» ضمن نظرية باريك. ومن خلال اشتراط أن تكون البراهين ضمن إطاره محدودة الطول أيضًا، أثبت باريك أن النظرية يمكن أن تظل متسقة داخليًّا. ومع أنها لا تستطيع أن تحل محل الرياضيات القياسية بالكامل، فإنها كانت أول محاولة ناجحة لتقديم طريقة برهانية فائقة المحدودية بحق.
ما الذي يجعل عددًا أو برهانًا رياضيًّا «ممكنًا»؟ هذا السؤال يقع في صميم مشروع أنصار المحدودية القصوى. ومع أن المسألة ترتبط بمفارقات قديمة، مثل عدد حبات الرمل اللازمة لتكوين كومة، يرى باريك أن القضية الأساسية تكمن في الحفاظ على صلة الرياضيات بالإنسانية. يقول: «لا بد من وضع حدٍّ ما. الأمور يجب أن ترتبط بالنشاط البشري». ومن وجهة نظره، فإن طريقة التفكير فائقة المحدودية توجه الباحثين نحو تجربتنا الواقعية، ويضيف أن هذا النهج، وإن لم يكتمل بعد «فإن النهج غير المكتمل أفضل من لا شيء».
يستمد آخرون إلهامهم من مصادر مختلفة. يقول دورون زيلبرغر عالم الحاسوب إن كون الحواسيب لا يمكنها سوى تقريب اللانهاية، ومن ثم فهي غير قادرة على استخدام مفهوم «العدد الكبير جدًّا» الغائم الذي يعتمد عليه البشر، تمثل حجة لإقصاء هذا المفهوم. وقد بدأت ميوله نحو المحدودية القصوى عندما تعلّم حساب التفاضل والتكامل، الذي يستخدم الأعداد اللانهائية الكبيرة أو الصغيرة بكثافة؛ مما أثار نفوره. لقد رسّخ ظهور هذا الفرع الرياضي – في القرن السابع عشر – مكانة اللانهاية في الرياضيات، لكن زيلبرغر يرى أن ذلك كان مجرد مصادفة تاريخية، نتيجة لعدم تطور الحواسيب في وقت مبكر، ويقول إنه يودّ تعليم طلابه حساب التفاضل والتكامل من دون اللانهاية.
حتى من لا ينتمون إلى تيار المحدودية القصوى يهتمون بحدود القدرة الحاسوبية، بل إن هناك مجالًا كاملًا مكرّسًا لهذا الأمر، يُعرف باسم التعقيد الحوسبي Computational complexity. يرى والتر دين أن المحدودية القصوى والتعقيد الحوسبي وجهان لعملة واحدة، أحدهما فلسفي والآخر عملي.

ومن أشهر الأمثلة على عمل نظرية التعقيد الحوسبي معضلة P مقابل NP التي تُعد – في أكثر الأحيان – أهم مسألة في علم الحاسوب النظري. وهي تطرح صعوبة تحديد مقدار الجهد الحاسوبي اللازم لحل أنواع معينة من المسائل الرياضية، وما إذا كانت حلولها قابلة للتحقق منها بسهولة.
في ثمانينيات القرن العشرين، وبالاستناد إلى أعمال رواد مثل باريك، طوّر سام بَس Sam Buss، من جامعة كاليفورنيا في سان دييغو University of California, San Diego، ما يُعرف باسم الحسابات المحدودة Bounded arithmetic، وهي مجموعة أدوات تربط بين الحدود الرياضية والحاسوبية عند تقييم قابلية حل المسائل. وباستخدام هذه الأدوات، تمكَّن من تحديد بعض المسائل التي يسهل حلها والتحقق من حلولها. ويُعد توصيف هذه التوافقات بأكبر قدر من العمومية جوهر ما يلزم لحل لغز P مقابل NP. يقول دين: «مازالت هذه المسألة مهمة جدًّا وهدفًا مركزيًّا لنظرية التعقيد Complexity theory». ويقول بَس إن أهمية هذا العمل ازدادت مع بروز تقنيات جديدة، مثل: الذكاء الاصطناعي، والحوسبة الكمومية التي تطرح أسئلة جديدة عن حدود القدرة الحاسوبية.
ومن هذا المنظور، تصير نظرية التعقيد الحوسبي أداة لترجمة عالم الرياضيات المجرد إلى واقع مادي؛ لأن الحواسيب هي أجسام مادية حقيقية. تقليديًّا، تُعد الرياضيات مجرد لغة للتعبير عن الحقائق الفيزيائية، لكن بعض أنصار المحدودية القصوى يذهبون إلى أبعد من ذلك. فمثلًا، كتب بافِل بودلاك Pavel Pudlák ، من الأكاديمية التشيكية للعلوم Czech Academy of Sciences في العام 2013: «يمكن، من حيث المبدأ، تمثيل أي بنية رياضية منتهية Finite mathematical structure بجسم مادي. ومن ثم، فإن النظرية المتعلقة بالبنى الرياضية المنتهية هي أيضا قانون فيزيائي».
ومع أن هذا الرأي غير تقليدي، يقول كلارك-دوين إنه ليس غير معقول: «لم يقدّم أحد قط سردًا مفهومًا لكيف يمكن رسم حدٍّ فاصل واضح بين الرياضيات والفيزياء. وإذا كان العالم الفيزيائي جزئيًّا رياضيًّا، فعليك أن تأخذ الرياضيات على محمل الجد بطريقة تختلف عن معاملتها على أنها مجرد لغة».
كون منتهٍ
إذا نجح مشروع أنصار المحدودية القصوى في إزالة اللانهاية من أدواتنا الرياضية، فقد نضطر حينها إلى مواجهة احتمال أن يكون الكون، حتى خارج حدود الكون المرصود، منتهيًا بالفعل. كيف يمكن لقوانين الفيزياء أن تسمح بذلك؟ خلال المؤتمر، عرض الفيزيائي شون كارول Sean Carroll من جامعة جونز هوبكنز Johns Hopkins University في ولاية ماريلاند نموذجًا فيزيائيًّا لكون متناهٍ Ultrafinite universe.
بُني هذا النموذج ضمن إطار ميكانيكا الكم، ويظل الكون فيه لا نهائيًّا من حيث الامتداد المكاني، لكنه يحتوي فقط على عدد منتهٍ من الحالات الكمومية الممكنة. والنتيجة هي كون دوري في الزمن، يتغير، لكنه يعود دائمًا إلى حالته الابتدائية. وهذا يتناقض – بشكل صارخ – مع الرؤية السائدة التي تقول إن كوننا بدأ بالانفجار العظيم، ويواصل التوسع وفقًا لقوانين الفيزياء، مثل قوانين الديناميكا الحرارية. ومع ذلك، أظهر كارول أنه من خلال ضبط نموذجه بعناية – مثلًا، عبر تقييد الطرق التي يمكن أن تتقلب بها الإنتروبيا أو الاضطراب في هذا الكون – يمكنه تجنب انتهاك تلك القوانين. وبهذا، قدّم أساسًا أوليًّا للكيفية التي يعمل وفقها الكون المتناهي، وكيف يمكن لتعقيد الواقع، مثل شكل الزمكان، أن ينبثق منه.
وفي عرضه، لم يزعم كارول أننا نعيش في هذا النوع من الكون المتناهي، لكنه لم يستبعده تمامًا أيضًا، قائلا إنه «ممكن تمامًا». وهذه ليست محاولته الأولى لاستكشاف كون متناهٍ؛ فقد قدّر سابقًا، هو وزملاؤه، أن عدد الحالات الكمومية الممكنة في الكون المرصود هو 10 مرفوعة إلى القوة 122 (12210). وقال في المؤتمر: «لا شيء من هذا نهائي، لكنه يُجيز لنا التفكير في المحدود». ومن اللافت أن هذا الرقم مشتق من محاولات الربط بين نظريات الجاذبية وميكانيكا الكم، مقترحًا صلة بين المحدودية القصوى والتحدي الكبير المتمثل في صياغة نظرية الجاذبية الكمومية Quantum gravity، وهي النظرية الفيزيائية الشاملة لكل شيء.
معظم الفيزيائيين سيعترضون على قبول نموذج كارول للكون المتناهي بصفته تمثيلًا حقيقيًّا للواقع، لكن فكرة القضاء على اللانهاية في الفيزياء – أو على الأقل باعتبارها مشكلة – ليست من دون سوابق؛ لنأخذ مثلًا نظرية الحقول الكمومية Quantum field theory التي تُعد أساسية لفهمنا الحالي للجسيمات والقوى في الكون، ومع ذلك كثيرًا ما تُنتج نتائج لا نهائية. وكما يوضح كلارك-دوين، حتى عندما يتحدث الفيزيائيون عن الكون كأنه متناهٍ، «فإن الرياضيات التي يستخدمونها غارقة حتى أذنيها في اللانهاية». يستخدم الفيزيائيون حيلة تُعرَف باسم إعادة التطبيع Renormalisation لتجنب هذه اللانهاية داخل النظرية، وذلك عبر تقييد التحليل بسلوك جسيم ضمن نطاق محدد من الطاقات أو السرعات، بدلًا من النظر في جميع الجسيمات الممكنة.
لكن تيم مودلين Tim Maudlin من جامعة نيويورك New York University يقول إن هذا لا يعني وجود نزعة متناهية أصيلة داخل الفيزياء الكمومية: فإذا أدّت عملية حساب احتمال تصادم جسيمين إلى نتيجة لا نهائية، فإن هذا يعني أن العملية الحسابية فشلت ببساطة. واستخدام إعادة التطبيع في هذه الحالة لا يُقصي اللانهاية، بل يُعد وسيلة رياضية لاستخلاص إجابة ذات معنى من النظرية. ويضيف: «قولك إنك تريد نتيجة متناهية لا يعني أنك ترفض النتائج اللانهائية، بل إن ما تسميه نتيجة لا نهائية ليس نتيجة أصلا». ومن وجهة نظره، فإن هذه التعاملات الرياضية مع اللانهاية لا تؤثر في ما إذا كان الفضاء لا نهائيًّا، أو ما إذا كان هناك عدد لا نهائي من الأجسام في الكون.
يقول مودلين إننا لكي نقبل بفكرة الكون المتناهي الصرف Ultrafinite universe، فلا بد من أن تكون نتيجة لنظرية فيزيائية جديدة، لا نقطة انطلاق لها، على غرار ما فعلته نظرية النسبية الخاصة لألبرت آينشتاين، حين كشفت عن السرعة المحدودة للضوء. ومن دون هذا الدافع، يُشبّه مودلين مشروع أنصار المحدودية القصوى بكاتب يريد تأليف رواية من دون استخدام الحرف «أ» مثلًا، وهو تحدٍّ تقني هائل، تحركه جزئيًّا دوافع جمالية، لا ضرورة كونية.
ومع ذلك، وبالنظر إلى الفوائد المحتملة في عدد من التخصصات العلمية، هل حان الوقت لأخذ المحدودية القصوى على محمل الجد، بصفتها رؤية بديلة لأسس الرياضيات، ولو على سبيل المقارنة مع المناهج القياسية؟ ترى زوزانا هانيكوفا Zuzana Haniková التي لا تنتمي إلى هذا التيار، أن لها دورًا ممكنًا هنا. وتشير إلى أعمال عالم الرياضيات التشيكي بيتر فوبينكا Petr Vopěnka الذي طوّر نظرية رياضية بديلة مشابهة في سبعينيات القرن الماضي.
تساءل فوبينكا عما يجعل اللانهاية في الرياضيات قادرة على نمذجة تجربتنا الواقعية المتناهية بدقة. لم يكن من أنصار المحدودية القصوى الساعين إلى إقصاء اللانهاية تمامًا، لكنه رأى أن اللانهاية الفعلية تعيش خارج «أفق إدراكنا». وبدلًا من ذلك، تحدث عن «اللانهاية الطبيعية»، وطوّر نظرية تنفي مسلمة اللانهاية التي تظهر في الرياضيات القياسية، وتعوّض عنها بالتعامل مع نوعين من الكيانات الرياضية: تلك التي تتمتع بحدود واضحة وتعريف دقيق كالمعتاد، وأخرى أكثر «ضبابية»، تمثل مسارًا نحو أفق لا نهائي. وتقول هانيكوفا إن هذا مكّن فوبينكا من تصور اللانهاية، ليس فقط بصفتها شيئًا «يتجاوز» أي مجموعة كبيرة من الكيانات، بل أيضًا بصفتها جزءًا منها بطريقة ما.
هل يمكن أن يكون هذا النوع من التفكير هو مستقبل المحدودية القصوى؟ هل يجب حقًّا التخلي عن اللانهاية، أم يمكن إعادة بناء الرياضيات بحيث تعترف بها بصفتها شيئًا مختلفًا؟ تقول هانيكوفا: «هذا النهج لايزال مصدر إلهام الرياضيين والفلاسفة على حد سواء». فهو يظل ذا صلة مثلًا بدراسات الغموض التي تظهر في اللسانيات والأخلاقيات والمنطق الرياضي.
يتعاطف كلارك-دوين أيضًا مع فكرة ترميز الغموض في الحدود بين المتناهي واللانهائي داخل نظريات بديلة مستقبلية لأسس الرياضيات، لكنه يقرّ بأن أمام أنصار المحدودية القصوى عملًا هائلًا؛ فحتى مجرد صياغة نظرية متسقة ضمن هذا التيار لاتزال منطقة غير مطروقة إلى حد كبير.
هل لهذا الأمر أهمية؟ يقول كلارك-دوين: «في أكثر الأحيان لا نحتاج إلى أن نعير الأمر اهتمامًا لأغراض عملية. لكن أحيانا نحتاج إلى ذلك، وإذا لم يكن هناك من يملك سردًا فلسفيًّا متماسكًا بشأن الأسس، فهذه مشكلة جدية عندما تسوء الأمور. إذا انكسر أنبوب في قبو العلم، فإنك تأمل أن يكون هناك من يعرف كيف يصلحه قبل أن يغرق المكان».
أنصار المحدودية القصوى في حالة تأهب، يعدون أدواتهم استعدادًا لحالات الطوارئ الفلسفية.
© 2025, New Scientist, Distributed by Tribune Content Agency LLC
ألكسندر يسينين-فولبين .. الرياضي المتمرّد
وُلِد ألكسندر يسينين-فولبين Alexander Esenin-Volpin في الاتحاد السوفييتي، في العام 1924، لوالدَيْن من الشعراء، وكان متمردًا على كل صعيد. حصل على درجة الدكتوراه في الرياضيات، وكان أيضًا مترجمًا نشطًا للمؤلفات الرياضية القادمة من أوروبا، بفضل اتقانه اللغة الفرنسية. لكن مسيرته في الرياضيات، بما في ذلك تطوير ما سيصير لاحقًا رفضا لمفهوم اللانهاية (انظر المقال الرئيسي)، توقفت لعقود لمصلحة نشاطه الاحتجاجي ضد النظام السوفييتي. اعتُقل أكثر من مرة، ووُضع في مؤسسات نفسية قسرية بسبب كتاباته وأشعاره المناهضة للسوفييت، كما نظَّم بعض أولى المظاهرات العلنية ضد الحكم السوفييتي.
في العام 1972، هاجر إلى الولايات المتحدة، وبدأ العمل في جامعة بوسطن Boston University. التقى به روهيت باريك Rohit Parikh من جامعة مدينة نيويورك City University of New York في مؤتمر العام 1975، وهو من سيطوّر لاحقًا أفكار يسينين-فولبين عن المحدودية القصوى. عاش الباحث الروسي معه مدة شهر. يقول باريك: «للأسف، على الرغم من أنني كنت أعتقد أن فولبين عبقري، أدركت أيضًا أنه لم يكن مدركًا بحق لطبيعة عمله وأبعاده».
وعلى الرغم مما لقيه من معارضة، ظل يسينين-فولبين متمسكًا بمواقفه من اللانهاية، وغالبًا بروح مرحة؛ ففي محاضرة في العام 2002، روى عالم المنطق هارفي فريدمان Harvey Friedman أنه سأله عمّا إذا كانت سلسلة من الأعداد المتزايدة تدريجيَّا، مثل 21، 22، 23… 2100، أعدادًا حقيقية. فأجاب يسينين-فولبين عن الرقم الأول بـ «نعم» على الفور تقريبًا، لكن كلما ازداد الرقم، طال تأخره في الإجابة. قال فريدمان: «بالطبع، كان مستعدًا دائمًا ليقول نعم، لكنه كان سيستغرق وقتًا يعادل 2100 مرة ليقول نعم للعدد 2100 مقارنة بإجابته عن 21. لم تكن هناك أي فرصة لأن أحرز تقدمًا في هذا الحوار».
وصفه عالم الرياضيات روي ليسكر Roy Lisker في العام 1993 بأنه «كتلة بشرية منهكة… وجهه وجسده يحملان آثارًا واضحة لما فعله به النظام السوفييتي».
توفي يسينين-فولبين في العام 2016، وركزت المقالات التي رثته وتناولت سيرته على نشاطه السياسي أكثر من رفضه الطويل الأمد لمفهوم اللانهاية.