الكيمياء

تقنية قديمة تُحْدِث ثورة في الكيمياء الحديثة

تُجرى التفاعلات الكيميائية حاليًا باستخدام السوائل، عبر خلط المركّبات في مذيبات سائلة، لكن هناك توجّهًا متناميًا نحو استخدام المساحيق الجافة، وقد أثبت هذا النهج فعالية كبيرة على نحو مدهش.

بقلم  هايلي بينيت

تخيل أنك داخل مختبر كيميائي، الأرجح أن ما سيستحضره ذهنك هو صورة نمطية راسخة في المخيلة الشعبية: محاليل تغلي في دوارق كروية القاع، وسوائل تدور في أنابيب اختبار، وقطرات تنساب على مكثفات زجاجية. مشهد كلاسيكي مألوف، لكن يعكس بدقة ما كانت عليه المختبرات الكيميائية حول العالم على مدى قرون.
لكن مختبر توميسلاف فريشيتش Tomislav Friščić، من جامعة برمنغهام University of Birmingham‎ البريطانية، لا يشهد كثيرًا من عمليات الفوران أو الغليان. فريشيتش وفريقه يسعون إلى الاستغناء كليًّا عن السوائل الكيميائية. أدواتهم ليست أنابيب أو مذيبات، بل آلات قوية مثل طاحونة الكرات Ball mill، وهي جهاز طحن بداخله كريات معدنية يشبه خلاطة إسمنت صغيرة. قد يبدو هذا النهج فظًّا، لكنه يعد بإحداث تحول جذري في طريقة عمل الكيميائيين، محررًا إياهم مما يسميه فريشيتش «السجن الذهني» الذي يفرض عليهم إذابة كل شيء قبل الشروع في التفاعل.
الكيمياء هي التي تصنع كثيرًا من معجزات الحياة الحديثة، من الأدوية التي تشفينا، إلى الشاشات التي نتواصل عبرها. وعندما يسعى الباحثون إلى تصنيع هذه المنتجات من الصفر، فإنهم غالبًا ما ينطلقون من افتراض وجوب إذابة المواد. لكن الكيمياء الآلية Mechanochemistry، وهو المجال المتنامي الذي يستحوذ على اهتمام فريشيتش، تبرهن لنا على أن هذا ليس ضروريًّا دائمًا. يقول فريشيتش: «الكيمياء الآلية تمنحنا حرية فكرية لنقول: دعونا نجرِّب هذا التفاعل عبر طحنه. وفي كثير من الأحيان، ينجح الأمر».
عدد الكيميائيين الذين يدركون مزايا هذا النهج المختلف جذريًّا في ازدياد. ومن أبرز فوائده أن الاستغناء عن المذيبات قد يجعل البنية التحتية الكيميائية للمجتمع أقل جورًا على البيئة، فهل يمكن أن يلقى هذا التوجه الثوري رواجًا واسعًا؟
في الواقع، لم يكن الكيميائيون – دومًا – يعتمدون بمثل هذا القدر على المذيبات. فالكيميائيون الإغريق في القرن الأول الميلادي الذين صنعوا الصبغة الحمراء القرمزية الفاخرة المعروفة باسم الزنجفر Cinnabar، فعلوا ذلك ببساطة من خلال طحن الزئبق مع معادن كبريتية. وفي العصور الوسطى، كان العطارون يسحقون النباتات لتحضير الأدوية؛ لكنهم ربما لم يتعاملوا مع ذلك على أنه كيمياء بالمعنى الدقيق؛ إذ إن فلاسفة، مثل أرسطو، أنكروا أن القوة وحدها يمكن أن تُحدث تفاعلات كيميائية بين المواد الصلبة، مؤكدين أن الحرارة، أو كميات ضئيلة من السائل، هي المسؤولة عن ذلك.

 

الكيمياء الآلية تتيح للكيميائيين تصنيع جزيئات يستحيل الحصول عليها بالطرق التقليدية

 

في أواخر القرن التاسع عشر، لاحظ الكيميائي والمصور الأمريكي ماثيو كاري ليا Matthew Carey Lea أن الضغط الشديد على مركبات الفضة التي كان يستخدمها في تحميض الصور يؤدي إلى تغيّر لونها، تمامًا كما يحدث عند تعريضها للضوء. وفي ورقة علمية نشرها في العام 1894، كتب: «إذا كنا نعرف، فإن ما نعرفه قليل جدًّا» عن العلاقة بين الطاقة الميكانيكية والطاقة الكيميائية. لكنه تبنّى مصطلح الكيمياء الآلية الذي صاغه العالم الألماني فيلهلم أوستفالدWilhelm Ostwald ‎ قبل ذلك بعامين. ومع ذلك، تراجع الاهتمام بهذا المجال بعد ذلك؛ فخلال معظم القرن العشرين، باستثناء بعض العلماء في الاتحاد السوفييتي، لم يلقَ هذا الفرع من الكيمياء اهتمامًا يُذكَر.

 

الكيمياء الرطبة وتفاعلاتها

في هذه الأثناء، واصل الباحثون تطوير وصفات وقواعد الكيمياء الرطبة Wet chemistry؛ فصناعة دواء أو مادة جديدة غالبًا ما تتطلب بناء روابط كيميائية جديدة بين مجموعات مختلفة من الذرات. وفي كل مرحلة، يذيب الكيميائيون المكوِّنات المطلوبة في مذيب، غالبًا عبر التسخين، ثم يجعلون المذيب يتبخر، أو يُرشِّحونه للحصول على الناتج. ويمكن أيضًا إضافة محفِّزات لتسريع التفاعلات. لهذا الأسلوب مزاياه؛ فالمذيبات تساعد الجزيئات على الحركة والاصطدام، ويمكن ضخها وتحريكها بسهولة، وهو ما يولِّد تفاعلًا أكثر تجانسًا. كما يمكن وضعها في زجاجيات شفافة، وهذا يتيح رؤية تغيّرات اللون، أو مؤشرات أخرى على تفاعل الذرات غير المرئية.
لكن للمذيبات، أيضًا، عيوبًا جسيمة؛ فكثير من المركّبات العضوية التي تحتوي على الكربون، لا تذوب في الماء؛ مما يضطر الكيميائيين إلى استخدام مذيبات أخرى، مثل الكلوروفورم Chloroform، والأسيتونتريل Acetonitrile، ورباعي هيدرو الفيوران Tetrahydrofuran، وهي مواد أكثرها سام. يتطلب تصنيع هذه المذيبات، والتخلص منها، كميات هائلة من الطاقة، ويسهم في تلوث الهواء وتغيّر المناخ. ومع الطلب المتزايد على منتجات الحياة الحديثة، مثل: الأدوية ومستحضرات التجميل ومواد التنظيف والبلاستيك، اشتدت الحاجة إلى المذيبات على نحو كبير. ومن المتوقع أن يصل الإنتاج العالمي من المذيبات إلى نحو 33 مليون طن سنويًّا حتى العام 2026.
من بين الحلول المطروحة، استخدام مذيبات أقل سميِّة، وأقل ضررًا للبيئة في طرق تصنيعها. وهناك حل أكثر جرأة: الاستغناء عن المذيبات تمامًا. وهذا ما أدركه جيل جديد من الكيميائيين عندما أعادوا اكتشاف الكيمياء الآلية؛ ففي العام 2012، تعاون توميسلاف فريشيتش مع ستيوارت جيمس Stuart James، من جامعة كوينز Queen’s University في بلفاست البريطانية، وآخرين، في إعداد مقالة علمية شهيرة قدّمت هذا المجال، وسلّطت الضوء على إمكاناته في تخليص الصناعة الكيميائية من تأثيراتها الضارة على النظم البيئية.
في حالة جيمس، بدأت القصة قبل عشرين عامًا، حين كان يعمل في مجال حديث يُعرَف بالأطر المعدنية العضوية Metal-organic frameworks (اختصارًا: الأطر MOFs)، وهي مواد بلورية تشبه قرص العسل، ذات مسام واسعة تحيط بها تجمعات من ذرات المعادن المرتبطة بجسور كربونية. تُستخدَم هذه المواد حاليًا ‏في تخزين الغازات. في ذلك الوقت، كان تصنيعها يستغرق ساعات أو أيامًا، باستخدام مذيبات يصفها جيمس بأنها «فظيعة». لكن، بعد أن سمع عن الكيمياء الآلية في مؤتمر علمي، قرر أن يجربها: «فكرت ببساطة: حسنًا، نشتري طاحونة كرات صغيرة، نضعها في المختبر، ونطلب من الفريق أن يتسلى بها قليلًا، ونرى ما يحدث».
في البداية، بقيت الطاحونة فترة من دون استخدام، ثم – ذات يوم – قررت آن بيشون Anne Pichon، الطالبة في مختبر جيمس آنذاك، والمحررة حاليًا في دورية نيتشر Nature، أن تجرب استخدامها لصنع إطار معدني عضوي MOF. كان من السهل متابعة التفاعل المطلوب من خلال تغيُّر اللون من الأخضر إلى الأزرق. وضعت بيشون مسحوقين في الطاحونة: ملحًا نحاسيًّا، ومركبًا عضويًّا، لصنع الجسور الكربونية، وخلطت كلًا منهما بلآخر من دون أي مذيب. وبعد عشر دقائق، فوجئت بأن الخليط قد تحوَّل إلى اللون الأزرق.
منذ ذلك الحين، جهّز الفريق مجموعة من أجهزة صنع الأطر MOFs، من بينها أجهزة بثق لولبية مزدوجة Twin screw extruders، وهي أكثر شيوعًا في صناعة البلاستيك. خلال مكالمة عبر الفيديو، حمل جيمس حاسوبه المحمول إلى المختبر بحثًا عن جهاز بثق، ووجد واحدًا مفكَّكًا على طاولة العمل، كاشفًا عن جزأيه الرئيسيين: لولبين معدنيين ضخمين، كل منهما أطول من ساعده. يدور اللولبان كل منهما بجانب الآخر، داخل الجهاز، لسحق المواد معًا. وفي العام 2012، أسّس جيمس شركة ناشئة تُعرَف اليوم باسم نُوادا Nuada تستخدم تقنيات بثق لولبي حاصلة على براءة اختراع لصنع الأطر المعدنية العضوية بمعدل عدة كيلوغرامات في الساعة، وتختبر استخدامها في ترشيح غاز ثاني أكسيد الكربون من نفايات المصانع الغازية.

 

تركيب الأدوية المستعصية

استخدم الكيميائيون أيضًا تقنيات الطحن لإنتاج البلورات المشتركة Co-crystals، وهي مركّبات تتكوّن من أدوية لديها روابط ضعيفة بجزيئات أخرى لتحسين امتصاصها في الجسم. لكن، في الواقع، لا تُعد الأطر MOFs، أو البلورات المشتركة من التحديات الكبرى؛ فالأصعب – بكثير – هو تركيب الجزيئات العضوية المعقدة، وهي التي تشكّل المواد الفعالة في الأدوية، وغالبًا ما تتطلب سلسلة من التفاعلات المصمّمة بعناية لضمان الحصول على المنتج الصحيح. ومع ذلك، فإن العاملين بأدوات الكيمياء الآلية باتوا يستهدفون هذه التركيبات الأصعب أيضًا. يقول فريشيتش: «اللافت حقًّا في الكيمياء الآلية هو أنها قد تقود، وهذا يبدو جنونيًّا، إلى ثورة صناعية كاملة. أعتقد أنها قد تفتح الباب أمام تصنيع مواد أكثر تعقيدًا، ويمكن إنتاجها بكميات كبيرة».
تتولى إيفيلينا كولاكينوEvelina Colacino ‎، من جامعة مونبلييه University of Montpellier الفرنسية، تنسيق مشروع كبير يُسمى إمباكتيف Impactive، ويهدف إلى استخدام الكيمياء الآلية لإحداث ثورة في طرق إنتاج الأدوية. وقد نجحت هي وزملاؤها في تصنيع الباراسيتامول Acetaminophen، ودواء الفينيتوين Phenytoinالمضاد لنوبات الصرع. وفي كلتا الحالتين، استخدم فريقها الطحن لتحفيز نوع من التفاعل الكيميائي يُعرَف بإعادة الترتيب Rearrangement، وفيه يعيد الجزيء تنظيم روابطه وذراته ليكوّن بنية كيميائية جديدة.
تتيح الكيمياء الآلية أيضًا تصنيع جزيئات كان يُعتقد أن تكوينها مستحيل بالوسائل التقليدية؛ ففي مراجعة علمية نُشرت في العام 2022 شاركت كولاكينو في تأليفها، ذُكرت أمثلة عديدة على إنتاج هذه الجزيئات «غير المتاحة»؛ ففي بعض الحالات أدّى الطحن الكروي إلى حدوث تفاعلات في مركّبات عجز الكيميائيون عن إذابتها، وعُدَّت غير قابلة للتفاعل Unreactive، ومنها مركّبات حلقية معقدة تُعرف باسم متعددات الأرومات Polyaromatics، وتُستخدم في المواد الإلكترونية المتقدمة وغيرها.

 

يقول فريشيتش: اللافت حقًّا في الكيمياء الآلية هو أنها قد تقود – وهذا يبدو جنونيًّا – إلى ثورة صناعية كاملة

 

وفي الوقت نفسه، يوسّع فريشيتش، وهو حاليًا من أبرز الشخصيات في هذا المجال، مجموعة أدواته للمساعدة على إجراء التفاعلات الكيميائية الآلية على نطاق أوسع. ولهذا الغرض، يفضِّل تقنية المزج الصوتي الرنيني Resonant acoustic mixing (اختصارا: التقنية RAM)، وهي ببساطة خلاط موضوع على صفيحة مهتزة يرجُّ الخليط بلطف بدلًا من سحقه بالكريات المعدنية. يقول فريشيتش إن التقنية RAM «طُوِّرت لأغراض الخلط، واتضح أنه يمكن استخدامها أيضًا لمزج المواد بهذه الطريقة لإحداث تحوُّل كيميائي». تعمل هذه التقنية على نحو أفضل عند استخدام كمية ضئيلة من السائل، أقل بكثير مما يُستخدم في الكيمياء التقليدية بالمحاليل. كما أن الاستغناء عن الكرات يجعل من السهل فصل المنتجات، ويقلّل من احتمال تلوثها، مثلًا بجزيئات معدنية قد تتساقط من الكرات في أثناء الطحن.
استخدم فريشيتش آلات المزج الاهتزازي المفضَّلة لديه؛ لتوسيع نطاق تصنيع دواء السكري تولبيوتاميد Tolbutamide بمقدار 200 ضعف. وأخيرًا، حين صنع هو وفريقه عشرة غرامات دفعة واحدة من الأطر العضوية التساهمية Covalent organic frameworks (اختصارا: الأطر COFs)، وهي النسخة الأكثر استقرارًا من الأطر المعدنية العضوية MOFs، أنجزوا ذلك بسرعة تفوق الطرق التقليدية بمائة مرة، وباستخدام كمية من المذيب أقل بعشرين مرة. ومع باحثين آخرين، في هذا المجال، أعادوا أيضًا ابتكار تفاعلات الكيمياء النقرية Click chemistry، وهي التفاعلات التجميعية التي تعد علامة فارقة، وأحدثت أثرًا بالغًا في الكيمياء التركيبية بفضل قدرتها على ربط الجزيئات بعضها ببعض، كما تُركَّب مكعبات الليغو. وقد استخدم فريق فريشيتش سلكًا نحاسيًّا بسيطًا ملفوفًا – وسهل الاستخراج – داخل جهاز المزج ليعمل محفّزًا، بينما يتّجه آخرون إلى تصميم أجهزة مزج مخصصة تحتوي على محفّزات مدمجة في جدرانها.
حسنًا، قد يسأل سائل: إذا كانت الكيمياء الآلية بهذه الروعة، فلماذا لا يعتمدها جميع الكيميائيين؟ أحد الأسباب، كما يوضح جيمس باتياس James Batteas مدير مركز التحكم الميكانيكي في الكيمياءCenter for the Mechanical Control of Chemistry ‎ بجامعة تكساس إي أند إم Texas A&M University‎ ، هو أن رؤية تفاعل كان يستغرق ساعاتٍ أو أيامًا في المحاليل، وقد اكتمل خلال 15 دقيقة داخل طاحونة كرات قد تكون مربكة للكيميائيين. فعند العمل بالمحاليل، يمكنهم مراقبة التغيرات الكيميائية، أو سحب عينات للتحليل. أما حين تكون التغيرات ناتجة عن احتكاك الجزيئات داخل صندوق معدني معتم، فالأمر أكثر تعقيدًا. يقول باتياس: «ليس واضحًا كيف يتقدّم التفاعل». وبينما اكتسب الكيميائيون فهمًا جيدًا لتكوّن الروابط وانفصالها في الكيمياء الرطبة، فإن التفاعلات الكيميائية الآلية قد تحدث عبر آليات مختلفة تمامًا، وربما مجهولة.

 

إتقان الكيمياء الآلية

لمواجهة هذا التحدي، ابتكر زميل باتياس، جوناثان فيلتس Jonathan Felts، طاحونة كرات حاصلة على براءة اختراع، مزوّدة بحساسات مدمجة لقياس القوى المطلوبة في التفاعلات التجريبية. ويُعد هذا النوع من العمل أساسيًّا لفهم تأثير القوة الفيزيائية، مقارنة بعوامل أخرى، مثل زيادة مساحة السطح في أثناء التفاعل. يقول باتياس: «هنا نشعر بأن الفهم الدقيق لهذه التأثيرات المختلفة أمر بالغ الأهمية لتحقيق قابلية التنبؤ».
ويحاول باحثون آخرون تحسين فهم علم حركة التفاعلات الكيميائية الآلية، أي معدل تحوّل المواد المتفاعلة إلى نواتج. ويوضح جيمس أنه في أكثر الأحيان تبدأ هذه التفاعلات بسرعة ثم تتباطأ، ربما بسبب التغيّرات في اللزوجة. يقول: «هذا ليس شيئًا نفكر فيه عادة في كيمياء المحاليل. لكن حين نتعامل مع مادتين صلبتين، قد نبدأ بمسحوق وننتهي بمسحوق، لكن في هذه الأثناء يمر الخليط بحالة غريبة تشبه المطاط».

 

معظم التفاعلات الكيميائية تُجرى في محاليل

 

في نهاية المطاف، يطمح الكيميائيون إلى فهم ما يحدث على المستوى الجزيئي. ولتحقيق ذلك، يحتاجون إلى تقنيات مثل التحليل الطيفي رامان Raman spectroscopy، وحيود الأشعة السينية X-ray diffraction ‎ (اختصارًا: الحيود XRD) التي تتيح لهم التغلغل داخل خليط التفاعل الكيميائي الآلي، وكشف هوية الجزيئات وتراكيبها. مثلًا، استخدم فريق فريشيتش أوعية طحن شفافة لالتقاط إشارات مركّبات يصعب تحديدها، تتكوّن كوسائط في أثناء تصنيع مركّب ثيويوريا Thiourea، وهو أحد مشتقات اليوريا التي تحتوي على الكبريت، كما استخدموا إعدادات معدّلة من حيود الأشعة السينية XRD لرصد تركيبات جديدة وغريبة ‏من الأطر MOFs، تتشكّل خلال التفاعلات الآلية. وعند دمج هذه التقنيات بالنمذجة، يمكن تتبّع المسارات التي تسلكها الذرات في طريقها إلى تكوين النواتج.
إضافة إلى قدرتها على تصنيع مركّبات جديدة، تمتلك الكيمياء الآلية قدرة تدميرية، ولكن بطريقة مفيدة؛ ففي جامعة أوتريخت Utrecht University ‎ الهولندية، يعمل مختبر إينا فولمر Ina Vollmer بدقة متناهية لفهم ما يحدث عند تفكيك النفايات البلاستيكية داخل طاحونة كرات. دخلت فولمر عالم الكيمياء الآلية بحثًا عن طريقة أكثر مراعاة للبيئة؛ لإعادة تدوير البلاستيك المُستخدَم، مثل البولي إيثيلين Polyethylene ، والبولي بروبيلين Polypropylene، وتحويله إلى لبناته الكيميائية الأساسية. تقول: «كنّا نفكّر في الأمر من زاوية الاستدامة وإعادة التدوير، بهدف إعادة تصنيع هذه البوليمرات من جديد».
مثل هذا النوع من إعادة التدوير الكيميائي ممكن، لكنه يتطلب درجات حرارة تقارب 300 °س، ما يعني إذابة البلاستيك وإعادة تشكيله. لكن فريق فولمر نجح أخيرًا في تحقيق ذلك في درجة حرارة الغرفة، باستخدام نظام طحن مبتكر تُثبَّت فيه المحفّزات على الكرات نفسها. يمكنهم إلقاء كريات بلاستيكية – من كراسي الحديقة القديمة أو الألعاب مثلًا – والحصول على غازات هيدروكربونية مثل البروبين Propene. وتقول فولمر إن الفريق يعمل حاليًا على بناء طاحونة كرات أكبر، وتأسيس شركة ناشئة لتسويق هذه التقنية. يقول فريشيتش إن هذا مثال رائع على ما يمكن للكيمياء الآلية أن تحققه.
ومع ذلك، لايزال بعض الكيميائيين مترددين في الاستغناء عن دوارقهم وأنابيبهم الزجاجية، والانتقال لاستخدام طواحين الكرات بسبب تكلفتها المرتفعة. فبعض النماذج قد يتجاوز سعرها 15,000 جنيه إسترليني، وهذا قد يؤثر على مخصصات ميزانية المختبر، مثل رواتب العاملين. وللتغلب على هذه العقبة، قرر فريشيتش أن يبقي مركز الكيمياء الآلية الجديد في جامعته مفتوحًا للجميع. ويخطط لتحويله إلى محطة عرض تجريبية يمكن للكيميائيين إحضار تفاعلاتهم واختبارها فيه، باستخدام الكيمياء الآلية قبل أن يستثمروا في شراء معداتهم الخاصة.
وأخيرًا، قد يكمن أحد مؤشرات دخول الكيمياء الآلية إلى التيار العلمي السائد في رمز بسيط؛ فعندما يصف الكيميائيون تفاعلاتهم يستخدمون نظامًا من الرسوم والمعادلات. وفي العام 2016، اقترح كيميائيان من جامعة فاندربيلت Vanderbilt University في ولاية تينيسي، رمزًا يُشير إلى الكيمياء الآلية بدأ يظهر على نحو متزايد في مخططات التفاعلات في الأوراق العلمية. يتكوّن الرمز من ثلاث دوائر صغيرة، في إشارة إلى طاحونة الكرات الموثوقة، ويعني ببساطة: ضع مساحيقك معًا، واخلطها جيدًا.

 

© 2025, New Scientist, Distributed by Tribune Content Agency LLC

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى