الكنوز البيوكيميائية في الخليج العربي
د. سجى’ عادل فخرالدين
باحث مساعد – مركز أبحاث البيئة والعلوم الحياتية
معهد الكويت للأبحاث العلمية
قبل اكتشاف النفط في أراضيها، كانت دولة الكويت تعتمد على التجارة والغوص على اللؤلؤ وغيرها من الأنشطة البحرية كمصدر لدخلها وتوفير المستلزمات المعيشية الضرورية لشعبها. وفي الوقت الراهن تعتمد الكويت اعتمادا شبه كلي على النفط كمصدر أساسي لدخل الدولة.
ولكون النفط مورداً غير متجدد، تخطو الكويت بجدية إلى إمكانيات توفير مصادر دخل جديدة ومستدامة لدعم اقتصادها. ومن أهم هذه الخيارات هو إنشاء اقتصاد مبني على العلم والمعرفة والاستفادة من مصادر طبيعية أخرى مثل الموارد البحرية الحية والتي تعتبر مصادر دخل جديدة ومتجددة. ولقد بدأت الكويت هذه المبادرة بدعم باحثيها العلميين مرتكزة على شبابها المبدع والمتطلعين لضمان مستقبلهم ومستقبل الأجيال القادمة.
إن مجال التنقيب البيولوجي في مياه البحار والمحيطات مجال سريع التطور، وهو مجال يشد انتباه مهنيين في مجالات شتى منها مجالات علمية وعملية من جهات خاصة وحكومية، ذلك لأنه قد أثبت المجال أن بإمكانه أن يؤدي إلى اكتشاف مواد نشطة بمقادير كبيرة على المستوى التجاري وذات مردود مادي هائل، فمجال التنقيب البيولوجي يولّد ملايين الدولارات في الغرب إلا أنه لا يزال في بدايته في منطقة الشرق الأوسط بشكل عام وبدول الخليج بشكل خاص. تتركز حالياً جهود أولية للتنقيب البيولوجي في مياه الخليج العربي ومياه البحر الأحمر في المملكة العربية السعودية وفي سلطنة عمان ومنذ عدة أعوام في مركز أبحاث البيئة والعلوم الحياتية في معهد الكويت للأبحاث العلمية.
ما هو التنقيب البيولوجي؟ التنقيب البيولوجي بشكل مبسط يتضمن السعي في بيئات طبيعية – أرضية كانت أم مائية – للتعرف على الكائنات الحية فيها ومن ثم يتم دراسة هذه الكائنات والمواد التي تنتجها وتفرزها مثل المركبات النشطة بيولوجياً. وحيث أن كل بيئة تختلف عن غيرها فإن الكائنات التي تعيش في كل بيئة تلجأ لإنتاج مواد خاصة بها لكي تتمكن من البقاء والازدهار في تلك البيئة، ولتلك المواد التي تنتجها هذه الكائنات فوائد يمكن الاستفادة منها خارج نطاق البيئة التي أنتجت بها. ولذلك يجب التعرف أولاً على هذه المركبات للتعرف على خصائصها وفوائدها المحتملة، وتبدأ الخطوة الأولى في خط التنقيب البيولوجي باختيار الكائنات التي لديها إمكانات عالية في انتاج المركبات ذات العلاقة ومن ثم استخلاص هذه المواد النشطة بيولوجياً التي تنتجها هذه الكائنات والتعرف على تركيبها الكيميائي ومن ثم دراسة إمكانيات استخداماتها في تطبيقات مختلفة عن طريق إجراء تجارب في المختبرات على خلايا حيوانية وخلايا إنسانية (مع الالتزام بإتباع قانون الأخلاقيات البيولوجية). ومن بعض الأمثلة لخواص ممكن أن تتواجد في مثل هذه المركبات النشطة هي مضادات للأكسدة ومخفضات للضغط ومضادات لتكاثر الخلايا السرطانية وفيتامينات وأصباغ وغيرها.
على سبيل المثال، يتم استخراج مادة البيتا كاروتين المضادة للأكسدة من الطحلب دونالييلا سالينا المتواجد في مياه البحر في الكويت والذي يقوم معهد الكويت للأبحاث العلمية بالتعاون مع القطاع الخاص بإنتاجه على نطاق تجاري.
ومن الجدير بالذكر هنا أنه كلما كانت البيئة التي تعيش فيها الكائنات التي تستخلص منها المواد سالفة الذكر بيئات استثنائية، كلما زاد احتمال العثور على مواد ومركبات فريدة من نوعها. فهذه المواد لا يتم إنتاجها إلا كسبيل للبقاء في بيئات مختلفة وقاسية، لذا فمياه الخليج العربي تشكل بيئة قد تحتوي على منجم ثري بمركبات فريدة من نوعها بانتظار من يحصل عليها ويكتشف خصائصها المميزة، فبيئة الخليج العربي تشكل بيئة استثنائية من عدة نواحي مثل درجات الحرارة العالية ومستوى الملوحة العالي بالإضافة إلى كونه أحد أضحل الخلجان في العالم وذو طبيعة شبه مغلقة. وهذه البيئة الاستثنائية بإمكانها أن تؤدي إلى توليد مركبات بيوكيميائية فريدة من نوعها، وقد تتطور هذه المركبات كردة فعل من قبل الكائنات التي تعيش في هذه البيئة للظروف الاستثنائية في محيطها المائي، وهنا تكمن أهمية القيام باستغلال مثل هذه المصادر الطبيعية المحلية لاستكشاف ما قد يتوفر بها من كنوز قد تفيد شعوب المنطقة وشعوب العالم على السواء.
المشروع الذي نعمل عليه حالياً يتمحور حول التركيز على الموارد الطبيعية في مياه البحر، وتحديداً مياه الخليج العربي، لاستخلاص مركبات كيميائية حيوية ذات فوائد للبشرية من النواحي الصيدلانية أو الطبية أو حتى في مجالات التغذية والتجميل. ولقد وفقنا مؤخراً باستخلاص عدد كبير من المركبات من كائنات متواجدة في المياه الشمالية من الخليج العربي وسنبدأ بالخطوة الآتية وهي عمل التجارب للبحث عن خصائص النشاط الحيوي لهذه المركبات، فعلى سبيل المثال سنبدأ بعمل تجارب عن طريق زراعة الخلايا الإنسانية المسرطنة ومن ثم إضافة المركبات بشكل فردي لهذه الخلايا لدراسة فيما إذا كانت هذه المركبات لديها خصائص تمكّن من قتل هذه الخلايا السرطانية أو تقلّص من تكاثرها على أقل تقدير.
هذا البحث يتمركز حول الاستفادة من المصادر المحلية والطبيعية في منطقتنا، ويوجد توجه عالمي كبير نحو استخدام المواد الطبيعية والعضوية والابتعاد عن المواد المصنعة، كما يوجد توجه آخر نحو تشجيع المنتجات الوطنية والاعتماد على الذات (أي في المنطقة المحلية وهي الخليج العربي) بدلاً من استيراد مواد مماثلة من مناطق أخرى. وكما هو واضح، يهدف هذا المشروع إلى تشجيع كلا التوجهين عن طريق البحث في المياه المحلية (وهي مياه الخليج العربي) واستغلال أي مصادر بيوكيميائية مفيدة بها. بهذا التوجه وبعد استكمال كافة أوجه البحث ودراسة الجدوى العملية والاقتصادية بنجاح بإذن الله تعالى، سيكون بالإمكان توليد مصادر محلية وطبيعية لمواد مفيدة في مجالات متعددة لمجتمعنا ولمجتمعات أخرى حول العالم.
وضمن هذا الإطار تم بحمد الله وبتوفيق منه تعالى اختياري كفائزة لزمالة لوريال-يونسكو “من أجل المرأة في العلم” للعام ٢٠١٨، أثناء مشاركتي في فعاليات البرنامج بدورته الخامسة، والذي عقد بمدينة دبي بالإمارات العربية المتحدة. تهدى هذه الجائزة لخمس باحثات نشطات من منطقة الشرق الأوسط واللاتي يعملن على أبحاث ذات نتائج واعدة من ناحية الردود العلمية والعملية للمنطقة وللعالم. هذه الجائزة تعكس مدى التقدير والتشجيع المحلي والعالمي للعاملات في مجال الأبحاث العلمية في الوطن العربي٬ ونتمنى أن تؤدي مثل هذه البرامج إلى استقطاب المزيد من العاملات والباحثات لهذا المجال وبالتالي زيادة وتنوع إنتاجه.