التاريخ

إصرار وعزيمة العالم “باستير” على مواصلة مشواره العلمي

1997 قطوف من سير العلماء الجزء الأول

صبري الدمرداش

KFAS

العالم باستير التاريخ البيولوجيا وعلوم الحياة

أما الحياة والموت… وجهاً لوجه!

– نجح شابوي في آخر الأمر أن ينتزع باستير من بين أنابيبه وأنابيقه وبواتقه وقواريره إلى عش الزوجية حيث تم عقد القران، وجمع شمل المحب على من يحب.

– ولكن هل أسفت زوجته فيما بعد على قبولها منه؟ ولكن لمَ هذا السؤال؟ لأن انهماكه الزائد في تجاربه ربما يولد لديها شرارة الغيرة. هنا يوضح باستير الأمر بقوله: (كنت أُسرِّي عنها بأن أخبرها بأنني سوف أقودها إلى الشهرة).

وقد قادها إلى الشهرة فعلاً وإلى الحزن أيضاً، ذلك أنه ليس من السهل عليها أن تكون زوجة عالم يثير امتيازه وتفوقه الحسد والكراهية لدى زملائه من العلماء الذين يقلون عنه كفاءةً وموهبة.

 

– وقد بدأ هذا الحسد وتلك الكراهية منذ بدء حياة باستير العملية، ولكنهما أخذا يظهران بشدة عندما اتجه من علم الكيمياء إلى علم الأحياء ليفضي بالسر المستغلق، سر الحياة والموت.

فقد أعلن أنه سيتصدَّى بالبحث والدراسة للمسألة التي استحوذت على عقول معاصريه من العلماء وهي مسألة (التولد الذاتي).

 

– (لا تتعمق يا باستير في دراسة مثل ذلك الموضوع المثير للمشاكل وللجدل العنيف). هكذا نصحه أستاذه دوما. ولكن رغبة باستير في أن يصل في هذه المسألة إلى حلٍّ كانت أكبر من أن يُذعن إلى مثل تلك النصيحة، ولكن ما الموقف آنذاك بالضبط؟.

– لقد كان منشأ الحياة موضوعاً حساساً وشائكاً جداً، بحيث يصعب بحثه علمياً، وكانت الآراء المتوارثة والتقاليد المرعية تقف بشكلٍ حازم وعدواني في صف أولئك الذين يعتقدون بأن الحياة يمكن أن تنشأ من تلقاء ذاتها من قلب المادة الميتة!

وكان أرسطو مثلاً قد أعلن (إن الحياة يمكن أن تتولد عن طريق تجفيف جسم رطبٍ أو ترطيب جسم جاف!) كما قرَّر فرجيل (إن النحل يمكنه أن يتخلق من جثة ثور ميِّت!)

وكان فان هلمونت قد أعلن عن فكرته الأكثر مدعاة للعجب والخاصة بـ (خلق) فئران في حالة مكتملة النمو، حيث قال: اضغط مقداراً من قماش الكتان المتسخ في إناءٍ يحتوي على كمية من حبوب القمح أو قطعة من الجبن لمدة أسابيع ثلاثة، وستجد في نهاية هذه الفترة أن الفئران الكاملة النمو قد تخلَّقت، ذُكراناً وإناثاً، من تلقاء ذاتها داخل الإناء!).

 

– وها هو باستير يتجرَّأ على الشروع في إجراء سلسلة من التجارب ضد ذلك النوع من الخرافات التقليدية والخزعبلات المتوارثة.

فبدأ العلماء الأكبر منه سناً يوجهون إليه سهامهم المسنونة والمسمومة، وكان أكثرهم غلاً بوجه خاص بوشيه مدير متحف التاريخ الطبيعي في روان، ونيكولا جولي أستاذ علم وظائف الأعضاء في جامعة تولوز، وشرع هذان الرجلان في إجراء سلسلة من (التجارب) التي لم يتوافر لها الإعداد الكافي ولا الدقة اللازمة، هادفين من ورائها إلى تأييد رأيهما المضاد لما يعتقده باستير.

وقد كتب باستير في ذلك إلى والده يقول: (فليقل مسير بوشيه ومسيو جولي ما يريدان. إن الحقيقة في جانبي، إنهما لا يعرفان كيف تجرى التجارب، ويحسبان أن فن إجرائها أمرٌ سهلٌ وما هو بالسهل، إنه يتطلب أن تكون لدى المرء خبرة طويلة إلى جانب صفات وخصائص أخرى معينة. وذلك شيءٌ لم يصل إليه علماء الأحياء بعد).

 

– ولكن هل يفتر خصوم باستير عن التشهير به؟ كيف ؟! لقد أعلنوا للعالم كله إنهم قد أثبتوا فكرة التولد الذاتي بطريقةٍ قاطعة، ثم انطلقوا يصفون باستير بأنه دجَّال ومحتال. ومع ذلك تحمَّل عالمنا كل هذه الإهانات، وأخذ يشرح الموقف لزوجته : (إن رجل العلم يجب أن يهتم بما سوف يقال عنه في القرون المقبلة لا أن يهتم بالإهانات أو حتى الثناء الذي يوجه إليه في الوقت الحاضر).

– الغلبة لمن يا ترى؟ لن يصح بالطبع غير الصحيح. فقد أحيلت قضية منشأ الحياة برمتها آخر الأمر إلى لجنة من العلماء البارزين من بين أعضائها الأستاذ دوما.

وبعد تدقيقٍ وتمحيصٍ جادين وكافيين للنتائج التي قدمها بوشيه وجولي من جانب وباستير من جانبٍ آخر، صدر قرار اللجنة وكان في صف باستير، وقد جاء فيه (إن الحياة لا تنبثق إلَّا من حياة). وكان ذلك عام 1865، أحد الأعوام المشهودة في تاريخ العلم.

[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى