العلوم الإنسانية والإجتماعية

أخلاقيات العلم والمبادئ العالمية لحقوق الإنسان

1998 تقرير1996 عن العلم في العالم

KFAS

أخلاقيات العلم المبادئ العالمية لحقوق الإنسان العلوم الإنسانية والإجتماعية المخطوطات والكتب النادرة

على الرغم من أن مبحث الأخلاقيات لا ينطوي ضمنا على سيرورة مستمرة من التحري، فإنه لا يقتصر على أسلوب منفرد.

فالهدف الذي حدده هذا المبحث لنفسه يتمثل في "إرشاد الأنشطة الإنسانية"، ومؤداه بالضرورة نشوء مبادئ قوامها المرتكزات الأساسية لحقوق الإنسان، على النحو التالي:

– المبدأ الأول هو الإبقاء -بغض النظر عن إمكانات العلم-على احترام كرامة الإنسان، حيث تشكل الحرية إحدى المقومات الأساسية لهذه الكرامة.

– المفهوم الأساسي الثاني، القائم على مبدأ المسؤولية، يتمثل في القناعة بضرورة حماية البشرية من تهديدات الجنس البشري نفسه. ومن ثم، فإن العمل على خفض الأخطار التقانية إلى أدنى حدودها يغدو ضرورة أخلاقية لازمة.

– أما المبدأ الأخلاقي الثالث فيتعلق بالروابط -السياسية والاقتصادية والدينية -التي تصل بين العلم والسلطات. وعلى الرغم من انه يتعين على العلماء، في معرض أدائهم لدورهم كخبراء، عدم محاولة حلولهم محل السلطات، فإنه يجب على هذه السلطات بالمقابل احترام الأبحاث وضمان استقلاليتها باعتبار ذلك من ضروب حرية الفكر.

 

وثمة ما يدعو تمامًا لإعادة التأكيد رسميا على هذا المطلب، نظرا إلى تعدد حالات إساءة استعمال قواعد السلوك هذه في الماضي. وقد تجد السلطات ما يغريها بالدفاع عن هيمنتها من خلال الإعلان بكل بساطة بأن بعض الاكتشافات ملغاة وباطلة، تماما كما تم حظر النظريات الكوبرنيكية في عام 1616.

أو قد ترغب السلطات -على النقيض من ذلك-في استغلال العلم لمساندة أيديولوجياتها الخاصة، كما يتضح على سبيل المثال من المسار الذي اتخذته "بيولوجيا البروليتاريا" السوڤييتية متأثرة بنظريات ليزنكو في الخمسينات.

هذه إذًا المبادئ الرئيسية الثلاثة التي يتعين أن تقوم عليها أخلاقيات العلم، ألا وهي احترام كرامة الإنسان وحريته، واحتواء الأخطار التقانية التي قد يتحدد في ضوئها مستقبل البشرية، والحفاظ على حرية الإبداع العلمي.

وأخيرا، فإنه لا يمكن الحديث عن أخلاقيات العلم من دون التطرق إلى مبدأ أساسي رابع، ألا وهو التضامن الفكري والأخلاقي للبشرية، الذي وردت الإشارة إليه في مقدمة دستور اليونسكو.

وبالفعل، فإنه من غير المقبول أن تستأثر الدول الغنية أو أغنى طبقات المجتمع بالمزايا الناتجة من التقدم.

فالمشاركة في المعرفة العلمية هي شرط أساسي كي تتحقق للدول التنمية الدائمة، وكي ينعم البشر جميعا بمستويات معيشية تحفظ كرامتهم.

 

وقد أشار <F. مايور> المدير العام لليونسكو، في الكلمة التي ألقاها في الشهر 9/1994 أمام اللجنة الدولية لأخلاقيات علم البيولوجيا، إلى أن "التقدم والمعرفة أمران عالميان ويتعين بالتالي اعتبارهما تراثا مشتركا، ومن ثم تقاسمهما على نحو متساو."

ويبدو أن العلوم الحياتية هي المجال الذي حققت فيه الاعتبارات الأخلاقية أبعد حد من التقدم. ففي حين يبعث علم الوراثة بآمال عريضة في القضاء على الأمراض الرئيسية لهذا القرن، إلا أنه في الوقت نفسه يثير المخاوف حول احتمال كون الجنس البشري والبيئة مهددَين. فالهندسة الوراثية تجعل من النوع البشري الحديث (الإنسان العاقل) مهندسا للإنسان، حسب التعبير البليغ للسيد بدجاوي وهو من أعضاء اللجنة (IBC).

وقد أدت هذه القضية ذات الوجهين إلى تبني العديد من التشريعات حول أخلاقيات الطب البيولوجي، في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية وأمريكا اللاتينية (البرازيل).

وقد نُشرت في بداية 1994 الصيغة التمهيدية لاتفاقية من إعداد المجلس الأوروبي تحدد إطار اهتمامات أخلاقيات علم البيولوجيا.

وتختص هذه التشريعات جميعها بالتطبيقات الطبية لعلوم البيولوجيا والوراثة، ويجري التوسع التدريجي فيها بسن قوانين أعمّ حول أبحاث علم الوراثة، تؤول الى وضع قواعد للسلامة (على شكل تشريعات وطنية وتوجيهات أوروبية) يقتدى بها في حالات الاستخدام المحدود أو النشر العمدي لكائنات حية معدّلة وراثيا.

 

وقد عمدت الأمم المتحدة من جانبها إلى الربط رسميًا بين الأخلاقيات وحقوق الإنسان. كما قامت الأمم المتحدة في مؤتمر فيينا المنعقد في الشهر 6/1993 بدعوة الدول إلى ضمان مراعاة حقوق الإنسان وكرامته ضمن إطار عمل العلوم الحياتية والطب البيولوجي.

وسبق للأمم المتحدة أن ركزت على الحفاظ على تنوع الكائنات الحية باعتماد اتفاقية التنوّع البيولوجي التي تم التوصّل إليها في 6/6/1992 في مدينة ريو دي جانيرو. وتُخطِّط منظمة الصحة العالمية لاستهلال برنامج "للأخلاقيات والصحة".

وأخيرا، فقد أدرَج اتحاد البرلمانات موضوع الربط بين أخلاقيات علم البيولوجيا وحقوق الإنسان ضمن جدول أعماله لجلسة الشهر 3/1995.

  هذا، وقد اضطلعت اللجنة (IBC)، وفقا للصلاحيات الموكلة إليها والتي حددتها لها اليونسكو في الشهر 11/1993، بوضع أول أداة دولية متسعة النطاق بخصوص "حماية المجين البشري".

وينطوي إطار الإعلان الذي حددته في الشهر 3/1993 اللجنة القانونية للجنة (IBC) برئاسة السفير <H.G. أسبيال> على سيرورة استشارية بعيدة المرامي، تتم على صعيد غير رسمي، وتضم منظمات دولية حكوية وغير حكومية وجامعات رئيسية وعدداً كبيراً من لجان الأخلاقيات. 

 

ويعكس هذا الإجراء، الذي استُهِلَ في عام 1995، الاهتمام بجعل النص المستقبلي للإعلان أساساً للحوار بين مختلف الثقافات في العالم.

غير أن الاسهام الكبير لإطار الإعلان يكمن في تكريس وضعية "المجين البشري" ضمن التراث المشترك للبشرية لجعله بذلك -حاله حال الحقوق الفردية للجنس البشري-خاضعا للقانون الدولي. ومن هذا المنطلق، فإن النص يعيد تأكيد أهمية حقوق الإنسان في الحفاظ على كرامته وحريته.

وهو يندد بصورة خاصة بأي تفرقة تقوم بناء على السمات الوراثية، وبالتالي فهو يعبٍّر ضمنيا عن رفض الأسلوب الاختزالي reductionist approach الذي يدَّعي إمكانية تقديم خلاصة عن شخصية أي إنسان استنادًا الى مكوناته الوراثية. فلسنا "مجرد جينات فحسب" كما كتب عالم الأحياء <F. كروس>.

لقد كانت أول وثيقة دولية تؤكد أن الكائن البشري ليس مجرد شيء خاضع لتصرف العلم، هي مدونَّة نورمبركـ، التي وضعتها في عام 1947 الجمعية الطبية العالمية، بعد كشف النقاب عن "التجارب" التي أجراها النازيون باستخدام البشر كحيوانات مختبرية.

وعلى ذات المنوال، فإن الإطار العام للوثيقة ينطوي على ضرورة الحصول على موافقة الفرد على إجراء التجارب عليه.

 

وأخيرا يحدد إطار الإعلان مبدأين أساسيين آخرين منبثقين عن الحقوق الثقافية والاجتماعية، هما:

– حرية الإبداع العلمي. ويُستبعد منها بالذات حالة عدم السماح إلا بالأبحاث التي ينبئ ظاهرها بتطبيقات نافعة محتملة للبشرية، لا سيما أن مثل هذه الحالة قد تكون مبعثًا للتضليل في زماننا هذا.

– أحقية أي فرد في الاستفادة مما تحقق من تقدم في علم الوراثة. وهذا الحق الذي لم يتأت قط بصورة ملموسة حتى تاريخه، يقوم على المساواة، وهي في حد ذاتها غاية غدت متزايدة الأهمية في ضوء التطورات العالمية.

ويمكن طبعا نقل هذه المبادئ المختلفة، وهي بمثابة المعالم الأولى القليلة على درب الأخلاقيات الدولية، إلى حقول أخرى غير العلوم الحياتية. وعلى الرغم من ذلك كله، نجد أن موضوع الأخلاقيات ليس في الواقع منصبا على العلم في حد ذاته، بل على الكائن البشري، ومن ثم الجنس البشري ككل تجاوزا لحدود الفرد الواحد.

 

ولا يزال على أخلاقيات العلم التغلب على بعض المتناقضات المتأصلة فيها، ومنها:

– المواءمة بين كل من احترام التعددية الثقافية والعالمية الحتمية لحقوق الإنسان.

– تزويد المجتمع المعاصر بالوسائل الكفيلة باحتواء الأخطار الناجمة عن المستجدات التقانية مع ضمان حرية الأبحاث.

– الاعتداد بالركائز الاجتماعية والاقتصادية للأبحاث المتزايدة التكلفة، مع الحفاظ على حرية تدفق المعلومات العلمية ونشر الثقافة العلمية حول العالم.

– الإقرار بالمسؤولية الاجتماعية الخاصة الملقاة على عاتق الباحثين، مع وضع مبدأ مسؤولية المجتمع ككل في قالب قانوني.

وعلى حد قول الشاعر الفرنسي <R. شار> فإن "إرثنا لا تسبقه وصية." وهو ما يوازي القول بأن تحقيق كرامة الإنسان مرتبط بمدى وعينا بالمسؤوليات الملقاة على عاتقنا، وبأن أخلاقيات العلم، وهي تعبيرٌ عن هذا الوعي، تمثِّل أولى مسؤوليات الجنس البشري.

[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى