هل عثرنا على حلٍّ غير متوقَّع يُخفِّف من تأثير الطيران في المناخ؟
يُعدُّ قطاع الطيران من أكثر القطاعات تعقيدًا في مسألة خفض الانبعاثات الكربونية، بل ربما أصعبها؛ فالوقود المستدام، على الرغم مما يُقال عنه، لا يبدو أنه يحمل الجواب الشافي، ومع ذلك، يرى مايك بيرنرز-لي Mike Berners-Lee أن هناك حلًّا واعدًا، أقرب إلينا مما نظن.
بقلم مايك بيرنرز-لي
نطير أو لا نطير؟ ذلك هو السؤال الذي يؤرِّق المهتمين بمسألة الحفاظ على البيئة على نحو متزايد. في بعض الأحيان، يبدو السفر جوًّا هو الخيار الوحيد الممكن، خاصةً عندما يكون الوقت ضيقًا، أو حين نريد زيارة قريب أو صديق يعيش في مكان بعيد.
أعتقد أننا نستطيع أن نُبقي على قدر محدود من السفر الجوي ضمن مستقبل مستدام، ولكن بشرط أن نتخلى عن بعض الخرافات المُضلِّلة، ونُسلّط الضوء – بدلًا من ذلك – على فرص واقعية لتقليص تأثير الطيران في ظاهرة الاحتباس الحراري.
الخرافة الأولى تتمثل في الاعتقاد أن ما يُعرف بوقود الطيران المستدام Sustainable Aviation Fuel يمكن أن يحل المشكلة. في الواقع، هذه التسمية مُضلِّلة تمامًا؛ إذ اتضح أن هذا الوقود ليس مستدامًا بأي حال من الأحوال.
وإليكم الأسباب. هناك ثلاثة أنواع رئيسية من وقود الطيران المستدام؛ النوع الأول: يُستخرج من النفايات، لا سيما زيت الطهي المُستخدَم. لكن المشكلة أن الكمية الإجمالية من زيت الطهي المستهلك عالميًّا لا تكفي لتشغيل سوى ما بين 2 و%3 من الرحلات الجوية. النوع الثاني: هو الوقود الاصطناعي، ويُنتَج من مواد خام مثل ثاني أكسيد الكربون المُلتَقط باستخدام الطاقة من مصادر متجددة. غير أن هذه العملية تهدر كثيرًا من الطاقة؛ فهي تتطلب ما لا يقل عن اثنين كيلوواط ساعةKilowatt-Hour (اختصارا: kWh) من الكهرباء لإنتاج كل كيلوواط ساعة kWh من الوقود؛ ما يجعلها استخدامًا غير مُجدٍّ لمواردنا المتجددة المحدودة. أما النوع الثالث فيُستخرج من المحاصيل الزراعية، وهذا يتطلب تخصيص مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية، ومن ثم يُمثِّل ضغطًا كبيرًا على النظام الغذائي العالمي، وعلى البيئة الطبيعية، وهو أمر لا يمكن تجاهله. والحقيقة المُرَّة هي أن وقود الطيران المستدام ليس ذلك الحل الثوري الذي يُروَّج له.
ومن بين الأفكار الحالمة التي أسمعها كثيرًا، الاعتقاد أننا نستطيع إزالة الكربون من قطاع الطيران عبر الكهربة، أو باستخدام الهيدروجين كوقود. الكهربة قد تكون ممكنة فقط للرحلات القصيرة؛ لأن وزن البطاريات يجعل استخدامها في الرحلات الطويلة غير عملي. أما الهيدروجين، فمشكلته أنه يشغل حيزًا كبيرًا، حتى عند ضغطه إلى 700 ضعف الضغط الجوي. وهذا يتطلب تخزينه في أسطوانات ضخمة مضغوطة، ما يجعله غير عملي مقارنةً بالوقود السائل.
لكن ما يبشر بالخير هو أنني أرى فرصًا واعدة لا تحظى بالاهتمام الكافي.
أقرب ما توصلنا إليه من حل سحري لطالما بدا بعيد المنال لجعل الطيران أكثر استدامة، لم يحظَ بالاهتمام إلا أخيرًا. تمثل خطوط التكثيف Contrails، وهي تلك الخطوط البيضاء الشبيهة بالغيوم التي تخلفها عوادم محركات الطائرات، أكثر من %60 من تأثير الطيران في تغيُّر المناخ، بل أكثر من ذلك بكثير إذا نظرنا إلى التأثيرات قصيرة المدى خلال فترة عشرين عامًا مثلًا.
تعكس خطوط التكثيف الحرارة المنبعثة من سطح الأرض نحو الأسفل؛ فتعمل كغطاء حراري؛ لكن تأثيرها الكلي أكثر تعقيدًا مما يبدو، فهي لا تكتفي بحبس حرارة الأرض الإشعاعية، بل يمكن أن تُحدث تأثيرًا تبريديًّا في الأيام المشمسة، من خلال عكس الأشعة التي ترسلها الشمس. يحدث هذا التأثير فقط في النهار، ويكون أكثر وضوحًا عندما تتشكل خطوط التكثيف فوق سطح داكن، كالمحيط مثلًا. أما التأثير الاحتراري الأكثر شيوعًا، فيحدث غالبًا في الليل، عندما تتكوّن هذه الخطوط فوق أسطح دافئة ومظلمة.
يمكن الحدُّ من تشكّل خطوط التكثيف عبر تعديلات بسيطة على مسارات الرحلات الجوية، مثل تحليق الطائرة فوق أو تحت أو حول منطقة جوية معينة تُسهم في تكوّن هذه الخطوط. بل إنه في بعض الحالات، كالطيران فوق محيط مشمس، قد يكون من المفيد تشكيلها عمدًا. وتشير النماذج الحاسوبية إلى أن تعديل مسارات 1.7 في المائة فقط من مسارات جميع الرحلات الجوية يمكن أن يُقلل من التأثير الاحتراري لخطوط التكثيف بنسبة تقارب %60. وكل ما يتطلبه الأمر هو إدماج نمذجة آنية ضمن حسابات مسار الرحلة، ولا يتطلب مرونة إضافية تتجاوز ما يُطبَّق بالفعل لتفادي العواصف أو الطائرات الأخرى.
يُعد هذا الحل منخفض التكلفة نسبيًّا، وكل ما يحتاج إليه الأمر هو أن يتبناه قطاع الطيران. وبمجرد تطبيق إدارة خطوط التكثيف، قد يكون لوقود الطيران المستدام دور فعّال، نظرًا إلى أن احتراقه أنظف، ويمكن استخدامه للتقليل من تأثير الرحلات الجوية الأكثر ضررًا.
هل يعني هذا أننا نستطيع أن نطمئن بشأن تأثير الطيران في المناخ؟ للأسف لا. لكنه قد يمنحنا فرصة الاستمرار في السفر جوًّا عندما يكون لدينا سبب وجيه يستحق ذلك.
© 2025, New Scientist, Distributed by Tribune Content Agency LLC