العقل / الذاكرة

ما المقصود بالعقلية؟ وهل يمكننا اكتساب نمط تفكير يقودنا نحو النجاح ويحافظ على صحتنا؟

غالبًا ما يُساء فهم مفاهيم مثل «عقلية النمو»، لكن حين نتعلّم كيف نُنمّي نظرة إيجابية تجاه إمكاناتنا المستقبلية، تُظهر الأدلة العلمية أن ذلك قد يُعزّز فرصنا في النجاح، ويُسهم في صون صحتنا وعافيتنا.

بقلم ديفيد روبسون

عى الرغم من أن عبارة «العقلية» Mindset قد تُذكِّر ‏البعض بتلك العبارات السطحية المُكرَّرة التي تفتقر إلى الأساس ‏العلمي في بعض كتب التنمية الذاتية، فإن مجموعة متزايدة من الأبحاث ‏تُبيِّن أن للعقلية أثرًا بالغًا في تشكيل مسار حياتنا، لما لها من تأثير ‏مباشر في إدراكنا، ودوافعنا، وسلوكنا.‏
يقول ديفيد ييغرDavid Yeager‎ ‎‏، من جامعة تكساسUniversity of Texas ‎‏ في ‏أوستن: «نُعرِّف العقلية على أنها الاعتقاد بالكيفية التي يعمل وفقها العالم – سواء ‏تعلّق الأمر بنا، أو بالمحيط الذي نعيش فيه – وهو اعتقاد يُسهم في تشكيل تفسيرنا للعالم وردود فعلنا ‏على ما يحدث من حولنا، ويؤثر في ردود أفعالنا وأهدافنا».‏
كانت كارول دويك ‏Carol Dweck، من جامعة ستانفورد‏Stanford ‎University ‎‏ في كاليفورنيا، أول من روّج لهذا المفهوم؛ إذ بدأ اهتمامها بدراسة ‏معتقدات الناس عن الذكاء Intelligence، وكيف تؤثر هذه المعتقدات في إنجازهم الأكاديمي؛‏ ففي الاستبيانات النفسية، يُبدي بعض الأشخاص تأييدًا قويًّا لعبارات مثل: «ذكاؤك ‏صفة أساسية فيك لا يمكن تغييرها كثيرًا»؛ فيُقال إن هؤلاء يتبنون «عقلية ثابتة» Fixed mindset‎. ‏بينما يميل آخرون إلى تأييد عبارات مثل «بغضّ النظر عن مستوى ذكائك، يمكنك ‏دائمًا تطويره إلى حدٍّ كبير». هؤلاء يُقال إن لديهم «عقلية النمو» Growth mindset‎.
وقد بيَّنت أبحاث دويك أن أصحاب عقلية النمو يميلون إلى المثابرة بعد الإخفاق، ‏ويبدون استعدادًا أكبر لمواجهة التحديات خارج نطاق المألوف الذي يشعرهم ‏بالأمان، وهما سلوكان يُعزّزان التطور الفكري.‏
ولكن أهم ما في الأمر، هو أن دويك وزملاءها وجدوا أن العقليات قابلة للتغيير؛ إذ ‏يبدو أن تعليم الناس عن المرونة الطبيعية التي يتحلى بها الدماغ، مثلًا، يُعزز عقلية ‏النمو. وعلى الرغم من عدم الحصول على نتائج مماثلة لدى تكرار التجربة، يبدو ‏التأثير متينًا، وإنْ توقف ذلك على السياق.‏
يقول ييغر الذي قاد بعض هذه الدراسات: «يميل هذا التدخل إلى تحقيق نتائج ‏أفضل في المدارس ذات الثقافة الداعمة، وحين يُظهر المعلمون دعمًا أكبر لعقلية ‏النمو».‏
وبناءً على أبحاث دويك، اكتشف علماء النفس أخيرا العديد من العقليات الأخرى ‏التي قد تؤثر في صحتنا ورفاهنا.
آليا كروم ‎Alia Crum ، وهي من جامعة ستانفورد أيضًا، ورائدة في البحث في «عقليات التوتر» ‏Stress mindsets، وأظهرت أن ‏الأشخاص الذين يرون في التوتر عاملًا محفِّزًا ومنشِّطًا يميلون إلى التكيف مع ‏تحديات الحياة على نحو أفضل ممن يعتقدون أن التوتر مُنهِك بطبيعته‎.‎
وتقول كروم إن عقلياتنا تشبه «العدسات» التي تُرشّح إدراكنا للعالم، فتؤثر في تفسيرنا للأحداث وتوجّه استجابتنا لها. وتشير الأبحاث ‏الحديثة إلى أن هذا المنظور الذهني قد تكون له تأثيرات في صحتنا النفسية والجسدية على المدى الطويل؛ فقد وجدت ‏إحدى الدراسات، مثلًا، أن المستجيبين الأوائل (أعضاء فرق الإنقاذ) الذين يرون ‏التوتر عاملًا محفِّزًا كانوا أقل عرضة للإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية، ‏بغضّ النظر عن إجمالي التوتر الذي عايشوه في حياتهم‎.‎
وقد يُعزِّز الجمع بين عقلية النمو وعقلية ترى التوتر محفِّزًا الفوائد التي يمكن ‏الحصول عليها من كليهما؛ ففي سلسلة من الدراسات نُشرت في العام 2022، وجد ييغر ‏أن تدريس «العقلية التآزرية» ‏Synergistic mindset‎‏ التي تمزج بين العقليتين: ‏حسّن الصحة العقلية والتقدم الأكاديمي لدى الطلاب بدرجة تفوق كلًّا منهما على ‏حدة. يقول ييغر: «هاتان العقليتان تتكاملان… أنت تكوِّن سلسلة من المعتقدات ‏المتصلة، كل منها مبني على الآخر».‏
ومع ذلك، فقد أُسِيء فهم أبحاث العقلية أحيانًا. لم يدّع العلماء القائمون عليها يومًا ‏أن العقلية الإيجابية قادرة على صنع المعجزات، كما تؤكد دويك في كتابها ‏‏’العقلية: علم النفس الجديد للنجاح’ ‏Mindset: The new psychology of ‎success‏. تسأل دويك: «هل يعتقد أصحاب عقلية النمو أن أي شخص يمتلك الدافع والتعليم ‏المناسب يمكن أن يصبح آينشتاين أو بيتهوفن؟ لا، لكنهم يؤمنون بأن الإمكانات ‏الحقيقية لأي شخص غير معروفة (ولا يمكن معرفتها أو التنبؤ بها)».‏
كما يمكن أن يُساء استخدام مفهوم عقلية النمو لتبرير التشجيع غير النقدي، حين ‏يُشاد بكل جهد على نحو متساوٍ. كما أن تبنّي هذه العقلية كثيرًا ما ينطوي على وضع ‏معايير عالية. يقول ييغر: «يتطلب الأمر أحيانًا الحزم، إلى جانب الدعم اللازم كي ‏يتمكن الفرد من النمو والوصول إلى تلك المعايير. وقد يكون ذلك غير مريح».‏
لذا، وعلى عكس ما يروّجه خبراء التنمية الذاتية، لا يمكن لموقف إيجابي أن ينعم علينا بالثراء الفوري. لكنه قد يعيننا على بذل الجهود الضرورية لتحقيق أهدافنا، وعلى ‏تحمّل ما قد يصاحبها من ألم ودموع‎.‎

أصحاب عقلية النمو يميلون إلى المثابرة بعد الإخفاق، ‏ويبدون استعدادًا أكبر لمواجهة التحديات خارج نطاق المألوف

 

 

 

© 2025, New Scientist, Distributed by Tribune Content Agency LLC

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى