حياة

كل ما تتخيله… ينبثق من ثلاث عمليات في دماغك

فهم الأنظمة العصبية التي تُنتج العالم داخل رأسك يمكن أن يساعدك على تسخير قواها وتغير طريقة التفكير بشكل جديد كليا.

بقلم كارولاين وليامز

على خلاف الأنواع الأكثر تخصُّصًا من عمليات المعالجة الذهنية، لا توجد في الدماغ منطقة مخصَّصة يمكن أن نسميها ’قشرة الخيال الدماغية’ تظهر بوضوح في صور المسح الدماغي. بل إن الخيال هو نتاج تفاعل المدخلات الآتية من مختلف مناطق الدماغ، ومن أنحاء الجسم كافة.
نعلم أن الخيال لا يقتصر على نوع واحد، وأن الجميع لا يختبرونه بالطريقة نفسها. غير أن السنوات الأخيرة شهدت بدء تشكُّل فهمٍ أوضح لدى علماء الأعصاب حول آلية عمل مكونات الخيال داخل الدماغ.
أسهم تطوير تقنيات تصوير الدماغ النشط، لا سيما التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي، (اختصارا: التصوير FMRI)، في الكشف عن أن الدماغ منظّم في شكل عدة شبكات رئيسية، يتبادل كل منها المعلومات داخل الشبكة نفسها، مع بقائها على تواصل مع الشبكات الأخرى. وهذا يتيح للدماغ أن ينتقل بين ’أنماط’ تفكير مختلفة، عبر تنشيط الشبكة الملائمة للمهمة القائمة.
هناك ثلاث شبكات رئيسية في الدماغ تشارك في عملية التخيل، وأكثرها ارتباطًا بهذا النمط من التفكير اكتُشفت بالمصادفة في أواخر تسعينيات القرن العشرين؛ حين لاحظ علماء الأعصاب نمطًا مميَّزًا من نشاط الدماغ لدى المشاركين في الأبحاث، في أثناء انتظارهم داخل أجهزة التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي بين مهمة وأخرى.
إذ أظهرت مناطق الدماغ المرتبطة بالذاكرة والمزاج والتأمل الذاتي نشاطًا متزايدًا، عندما لم يكن المشاركون منشغلين بمهمة محددة، في إشارة إلى حالة ذهنية ذات تركيز داخلي. وقد عُرفت هذه الشبكة لاحقًا باسم شبكة النمط الافتراضي Default Mode Network، (اختصارًا: الشبكة DMN)، وهي تنشط حين نسرح بأفكارنا، أو نستعيد ذكرياتنا، أو نتأمل المستقبل، أو نغرق في أحلام اليقظة.
غير أن الشبكة ‏DMN ليست وحدها المسؤولة عما نصنفه ضمن نطاق الخيال، بناء على ما نعرفه حاليًا؛ فإذا كانت تأملات هذه الشبكة ستصل إلى مستوى الوعي الإدراكي، فإن الدماغ يحتاج أيضًا إلى إشراك شبكة أخرى، هي شبكة البروز الإدراكي Salience Network. تربط هذه الشبكة بين المناطق المسؤولة عن المشاعر والانتباه والتحفيز، وتعمل كنوع من مدير المشاريع؛ إذ تتولى غربلة المحفزات الخارجية والضوضاء الداخلية، وتحديد ما هو بارز أو مهم منها لاستدعائه إلى دائرة الوعي. وفي سياق الخيال فإن مهمتها هي إبراز الأفكار والذكريات التي تعد بالغة الأهمية، أو مفاجئة، أو ملحة، إلى درجة تجعل من المستحيل تجاهلها.
في شبكة البروز الإدراكي هذه تتفاعل المخيلة مع الإشارات الواردة من الجسم. ترتكز هذه الشبكة في منطقة الجزيرة Insula في الدماغ، وهي المسؤولة عن معالجة الأحاسيس الجسدية المرتبطة بالحالات العاطفية. عندما تُستَحث هذه الإشارات عبر التخيُّل، أو استرجاع ذكرى معينة، مثل أن نستعيد تجربة مخيفة فنشعر بتسارع ضربات القلب، تكتسب الأفكار المتخيَّلة طابعًا حسيًّا أقوى، وتبدو أكثر واقعية.
وعلى الرغم من أن شبكة النمط الافتراضي، وشبكة البروز الإدراكي تتكاملان لتوليد تجربة التخيُّل، كأن نتصور الدار التي نشأنا فيها، أو المكونات الإضافية المثالية في البيتزا، فإن ذلك لا يكفي وحده لبلوغ الإبداع؛ إذ تقول إيفانجيليا كريسيكو Evangelia Chrysikou، الباحثة في علم الإبداع من جامعة دريكسلDrexel University في ولاية بنسلفانيا الأمريكية: «إن الخيال لا يعادل الإبداع»؛ فالإبداع يتطلب شبكة دماغية أخرى.
ولكي يولِّد الدماغ أفكارًا تخدم أهدافًا عملية في العالم الواقعي – بالمعنى العصبي الدقيق للإبداع – فلا بد من تفعيل الشبكة التنفيذية المركزية Central Executive Network. تربط هذه الشبكة الفصوص الأمامية من الدماغ بمناطق أكثر عمقًا في القشرة الجدارية؛ ما يتيح توجيه الانتباه وتركيزه، ويمنحنا القدرة على تثبيت هدف معين في الذهن في أثناء اختبار الحلول الممكنة.
وتُظهر دراسات تصوير الدماغ التي أجرتها كريسيكو وباحثون آخرون أن الأفراد الذين يحققون نتائج أعلى في اختبارات الإبداع يمتلكون ترابطًا أقوى بين الشبكات الدماغية الثلاث المسؤولة عن التخيُّل. ويُرجَّح أن هذا الترابط المتين يمنحهم قدرة أكبر على التنقل السريع بين توليد الأفكار والانتباه لها وتقييمها.

كلما زاد اهتمامك وقويت رغبتك في إيجاد حل، زادت احتمالات أن تعيش لحظة الإلهام بوضوح

 

 

 

 

 

لكن كيف يمكننا تحفيز هذه الشبكات العصبية لتعمل معًا، وتعزِّزَ قدراتنا على التخيُّل؟ بداية، يمكن تنشيط شبكة النمط الافتراضي بمنح العقل فسحة للتجوال الحر، وترك أفكارنا تنساب من دون قيود. بل إن التجوال الجسدي نفسه يعزز هذا التأثير؛ فقد أظهرت دراسة أجراها باحثون من جامعة ستانفورد Stanford University في كاليفورنيا أن المشي مسافةً قصيرة يرفع إنتاج الأفكار الإبداعية بنسبة تصل إلى %60 في أثناء السير، ويستمر هذا الأثر فترة وجيزة بعده.
بمجرد أن تبدأ في الحركة وتتدفق الأفكار، حاول توجيه خيالك نحو ما يعنيك حقًّا؛ هنا ستتدخل شبكة البروز الإدراكي فتُضخِّم الإشارات المرتبطة بشعور الإثارة الذي يصاحب لحظات الإدراك المفاجئ أو الاختراق الفكري.
بمعنى آخر، كلما زاد اهتمامك وقويت رغبتك في إيجاد حل، زادت احتمالات أن تختبر لحظة الإلهام بوضوح، وأن تمتلك الدافع القوي لتحويلها إلى فعل ملموس.

تطوُّر بصيرتنا العقلية
التخيُّل البشري هو قدرة مذهلة، بفضله وُلدت روايات جين أوستن Jane Austen ، وأغنيات فرقة آر إي إم R.E.M، وكذلك القنبلة الذرية؛ فنحن نستطيع أن نتخيَّل مسارات بديلة للتاريخ لم تقع فيها الحرب العالمية الثانية، أو نسرح في أحلام اليقظة، ونسترجع مشاعر عاطفية من مرحلة المراهقة. يقول أغوستين فوينتيس Agustín Fuentes، المختص في علم الأنثروبولوجيا البيولوجية من جامعة برينستون Princeton University، ومؤلف كتاب: الشرارة الإبداعية .. كيف جعل التخيُّل البشر كائنات استثنائية The Creative Spark: How Imagination Made Humans Exceptional: «كل هذه القدرات تنبع من مَلكَة بشرية فريدة تُمكِّننا من التفكير بما يتجاوز حدود العالم المادي أو المجال الحسي المباشر». ثم يتساءل: «من أين جاءت هذه القدرة؟ من المؤكد أنها ثمرة مسار تطوري طويل».
وعلى الرغم من أن الحيوانات تمتلك – بصورة عامة – شكلًا من أشكال التخيل؛ إذ تستطيع أن تخطط للمستقبل – مثل عناكب بورتيا القافزة Portia التي تبتكر خططًا معقدة لصيد فريستها – فإن مخيلتنا البشرية ليست سوى نسخة متقدمة تطورت إلى مستويات غير مسبوقة.
يمكن تتبُّع البدايات الأولى لنشوء الخيال ‏في السجل الأحفوري لأسلافنا من الهومينين Hominin أشباه البشر. ويتجلى ذلك بوضوح في الأدوات الحجرية التي صنعوها. يقول فوينتيس: «إن القدرة على تشكيل حجر، وتحويله إلى أداة جديدة صالحة للاستعمال، يتطلّبان نوعًا من التخيّل لا نجد له مثيلًا لدى أي كائن آخر».
وتعود أقدم الأدوات الحجرية المعروفة المُكتشفَة في موقع لوميكوي Lomekwi في كينيا إلى نحو 3.3 مليون عام، أي إلى زمن يسبق ظهور نوعنا البشري (الإنسان العاقل هومو سابينس Homo sapiens)، بل وحتى ظهور جنس الهومو Homo نفسه. وهذا يكشف عن أن أسلافنا الأوائل من الهومينين امتلكوا ما يكفي من القدرة على التخيُّل لصناعة الأدوات الحجرية واستخدامها. ومع مرور الزمن، تطور هذا الخيال ليكتسب بُعدًا دلاليًّا تجلى في ممارسات مثل: تزيين الأجساد وجدران الكهوف بالمغرة الحمراء، ونقش الرموز.
ويرى فوينتيس أن ظهور اللغة كان بمنزلة «تحوُّل نوعي» عزز من قدراتنا التخيّلية إلى حد بعيد. ويقول: «الطريقة التي نمكِّن بها أنفسنا من نقل المعلومات وتخزينها واسترجاعها، فتحت لنا آفاقًا واسعة». ومن أبرز مزايا اللغة أنها أتاحت لنا تبادل الأفكار بسهولة مع الآخرين، على نحو لا تقدر عليه حتى أقرب الكائنات إلينا، مثل الشمبانزي.
وتبرز أهمية اللغة في توسيع آفاق الخيال حقيقةً أعمق؛ إذ يوضح فوينتيس أن «الخيال في جوهره عملية اجتماعية عميقة». ويضيف أننا كثيرًا ما «نتحدّث عن مخيلة الآخرين، خاصة حين نصف الفنانين أو العباقرة… فالخيال الذي نمتلكه ليس ملكية فردية خالصة، بل هو خلاصة متشابكة لتجاربنا الحياتية بكاملها، متداخلة مع تجارب لا تحصى لمن حولنا ومن سبقونا، ومن تأثرنا بهم عبر الزمن»..‎


© 2025, New Scientist, Distributed by Tribune Content Agency LLC

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى