
الصفر .. الرقم الأهم في الرياضيات كلها بدأ بداية متواضعة
استغرق الأمر وقتًا طويلًا حتى يُعترَف بالصفر كرقم مستقل، فضلًا على كونه من أقوى الأرقام على الإطلاق، لكن يتضح لنا حاليًا أن كل رقم يتكوّن من أصفار، يقول جيكوب آرون.
بقلم جيكوب آرون
ما الرقم الأهم في الرياضيات كلها؟ قد يبدو هذا سؤالًا ساذجًا؛ فكيف يمكن اختيار رقم واحد من بين عدد لا نهائي من الاحتمالات؟ ربما يكون للرقمين 2 أو 10 حظ أوفر في نيل هذا اللقب، مقارنة برقم عشوائي في تريليونات التريليونات، لكن حتى هذا يبقى اختيارًا اعتباطيًّا. ومع ذلك، سأزعم أن هناك رقمًا واحدًا هو الأهم: الصفر. دعوني أحاول إقناعكم.
بدأت رحلة الصفر نحو القمة، كما في قصص الأبطال، من أصول متواضعة؛ عندما بدأ استخدامه قبل نحو خمسة آلاف عام، لم يكن يُعد رقمًا على الإطلاق؛ في ذلك الزمن، استخدم البابليون القدماء نظام الكتابة المسمارية الذي يتكون من خطوط وأوتاد لتدوين الأعداد. كانت هذه الرموز تشبه علامات العد؛ إذ يمثل عدد معين من نوع واحد من العلامات الأرقام من 1 إلى 9، بينما تُستخدَم علامة أخرى لتمثيل 10 و20 و30 و40 و50.
الحل كان في الصفر، أو على الأقل في شيء يشبهه. استخدم البابليون وتدَيْن مائلَيْن للإشارة إلى غياب الرقم؛ مما أتاح لهم وضع الأرقام الأخرى في أماكنها الصحيحة، تمامًا كما نفعل اليوم.
الصفر المسماري
مثلًا، في نظام الأرقام الحديث، الرقم 3601 يعني ثلاثة آلاف، وست مئات، وصفر عشرات، وواحد آحاد. أما البابليون فكانوا يكتبونه على أنه ستون ستينات، وصفر عشرات، وواحد آحاد. لكن من دون الصفر الموضعي، كانت الرموز المُستخدَمة لتمثيل هذا الرقم مطابقةً تمامًا لتلك التي تمثل ستين واحدة، وآحادًا واحدة. ومع ذلك، لم يكن البابليون يعدّون المواضع التي تحتوي على صفر، بل كانوا يستخدمونه كعلامة ترقيم، أو تذكير بتجاوز الموضع إلى الرقم التالي.
هذا النوع من الصفر، كعنصر موضعي، استخدمته حضارات قديمة أخرى على مدى قرون، لكن ليس جميعها؛ فالرومان، مثلًا، لم يكن لديهم صفر؛ لأن الأرقام الرومانية ليست نظامًا موضعيًّا؛ إذ إن الرمز X يمثل دائمًا الرقم 10، بغض النظر عن مكانه. التطور التالي للصفر لم يحدث إلا في القرن الثالث الميلادي، على الأقل وفقًا لمخطوطة اكتُشفت في ما يُعرف اليوم بباكستان. تحتوي هذه المخطوطة على مئات من الرموز النقطية التي استُخدمت كأصفار موضعية، وكان هذا الرمز هو الذي تطوَّر لاحقًا؛ ليصبح الصفر المعروف لدينا حاليًا.
ومع ذلك فإن الصفر الذي بدأ كرمز موضعي، لم يُعترَف به كرقم مستقل إلا بعد قرون طويلة. كان أول ظهور له كعدد حقيقي في كتاب يحمل اسم براهمسفوتاسيدهانتا Brāhmasphuṭasiddhānta، ألّفه عالم الرياضيات الهندي براهماغوبتا Brahmagupta، نحو العام 628 ميلاديًّا. كان كثيرون قبله يدركون أن هناك شيئًا غريبًا يحدث حين نحاول مثلًا طرح 3 من 2، لكن مثل هذه العمليات كانت تُعد عبثًا لا يستحق النظر. أما براهماغوبتا فكان أول من تعامل مع الفكرة بجدية، فوصف العمليات الحسابية التي تشمل الأعداد السالبة والصفر. تعريفه لطريقة التعامل مع الصفر كان قريبا جدًّا من مفهومنا الحديث، باستثناء نقطة واحدة مهمة: ماذا يحدث عند قسمة عدد على صفر؟ براهماغوبتا قال إن قسمة صفر على صفر يساوي صفرًا: 0 ÷ 0 = 0، لكنه لم يعطِ جوابًا واضحًا عند قسمة أي عدد آخر على صفر.
لكن الجواب الحقيقي عن مسألة القسمة على صفر احتاج إلى ألف عام أخرى، وأدى إلى نشوء إحدى أقوى أدوات الرياضيات: علم التفاضل والتكامل Calculus. هذا العلم طوّره – على نحو مستقل – كل من إسحق نيوتن Isaac Newton وغوتفريد فيلهلم لايبنتس Gottfried Wilhelm Leibniz في القرن السابع عشر، ويقوم على التعامل مع الأعداد المتناهية في الصغر Infinitesimal numbers، أي تلك التي تقترب من الصفر إلى أقصى حد، من دون أن تكون صفرًا فعلًا. هذه الأعداد تتيح لنا الاقتراب من فكرة القسمة على صفر، من دون الوصول إليها، وهو أمر مفيد إلى حد كبير.
لنفهم ذلك، دعونا نركب السيارة. لنتخيّل أننا نقود بسرعة متزايدة، ونضغط تدريجيًّا على دواسة الوقود لزيادة التسارع. يمكننا وصف سرعة السيارة بالمعادلة v = t²، حيث v هي السرعة وt هي الزمن. بعد أربع ثوانٍ، مثلًا، تكون سرعة السيارة 16 مترًا في الثانية، بدءًا من الصفر. لكن كم المسافة التي قطعتها خلال هذه المدة؟
بما أن المسافة تساوي السرعة مضروبة في الزمن، يمكننا ضرب 16 في 4 لنحصل على 64 مترًا؛ لكن هذا غير دقيق، لأنك لم تصل إلى سرعة 16 إلا في نهاية الرحلة. ربما نقسم الرحلة إلى نصفين: الأول بسرعة 4 م/ ث لمدة ثانيتين، والثاني بسرعة 16 م/ ث لمدة ثانيتين. هذا يعطينا مسافة 4 × 2 + 16 × 2 = 40 مترًا. لكن هذا أيضًا مبالغ فيه؛ لأننا اعتمدنا على السرعات القصوى في كل نصف.
![]()
لزيادة دقة التقدير، نحتاج إلى تقليص الفترة الزمنية، بحيث نضرب السرعة في كل لحظة بالزمن الذي قضيناه فعلًا عند تلك السرعة – وهنا نحتاج إلى الصفر. إذا رسمنا المعادلة v = t² على مخطط بياني، وأضفنا تقديراتنا السابقة، سنلاحظ أن التقدير الأول لا يتطابق تمامًا، والثاني أقرب إلى الواقع. للحصول على قياس دقيق، نحتاج إلى تقسيم الرحلة إلى فترات زمنية طولها صفر ثانية، ثم جمعها. لكن هذا يتطلب القسمة على صفر، وهو أمر مستحيل، أو كان كذلك حتى استنباط علم التفاضل والتكامل.
ابتكر نيوتن ولايبنتس حِيلًا تتيح الاقتراب من القسمة على صفر من دون تنفيذها فعليًّا، ومع أن شرح علم التفاضل والتكامل تمامًا يتجاوز نطاق هذا المقال، فإن طريقتهما تكشف عن الجواب الحقيقي، وهو تكامل الدالة t² أي t³/3. هذا يعطينا مسافة قدرها 21 و1/3 متر. يُعرف هذا أيضًا باسم «المساحة تحت المنحنى»، ويتضح أكثر عند رسمه بيانيًّا.
إذا دققنا في أي رقم سنجد أنه مكوّّن من أصفار في جوهره
علم التفاضل والتكامل يُستخدَم فيما هو أكثر بكثير من حساب المسافة التي تقطعها سيارة – في الواقع، نستخدمه في كل ما يتعلق بفهم الكميات المتغيرة، من الفيزياء إلى الكيمياء إلى الاقتصاد. كل هذا لم يكن ليحدث لولا الصفر، وفهمنا كيف نستفيد من قوته الهائلة.
لكن، من وجهة نظري، فإن الشهرة الحقيقية للصفر ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، خلال فترة شهدت أزمة وجودية في الرياضيات، مع التشكيك في مفاهيمها الأساسية ومنطقها الداخلي، وما إلى ذلك؛ فقد بدأ علماء الرياضيات والمنطق في التنقيب عن أسس تخصصهم، واكتشفوا في مسارهم ثغرات خطرة. وفي إطار جهودهم لتقوية الأسس، شرعوا في تعريف الكائنات الرياضية التي كانت تُعتبر بدهية، ولا تحتاج إلى تعريف، بما في ذلك الأعداد في حد ذاتها.
ما الرقم بالضبط؟ لا يمكن أن يكون كلمة مثل «ثلاثة»، ولا رمزا مثل «3»؛ لأن هذه مجرد تسميات نطلقها على مفهوم «الثلاثية». يمكننا الإشارة إلى مجموعة من الأشياء: «تفاحة»، و«كمثرى»، و«موزة»، ونقول: «هناك ثلاث قطع فاكهة في هذا الطبق»، لكن هذا لا يكشف عن جوهر الرقم. ما نحتاج إليه هو شيء يمكننا عده بشكل مجرد، ووضعه في مجموعة نسميها «ثلاثة». الرياضيات الحديثة تفعل ذلك باستخدام الصفر.
بدلًا من الحديث عن مجموعة، يتحدث علماء الرياضيات عن مجموعات Sets- فمثال الفاكهة يُكتب {تفاحة، كمثرى، موزة}، حيث تشير الأقواس المعقوفة إلى مجموعة. نظرية المجموعات Set Theory هي الأساس الذي تقوم عليه الرياضيات الحديثة؛ يمكن اعتبارها بمنزلة «رمز حاسوبي» Computer code للرياضيات، يتطلب وصف كل الكائنات الرياضية في علاقتها بالمجموعات لضمان الاتساق المنطقي، وتجنب الثغرات التي اكتشفها علماء الرياضيات.
لتعريف الأعداد، يبدأ الرياضيون بـ «المجموعة الفارغة» Empty Set، وهي المجموعة التي لا تحتوي على أي عنصر. يمكن كتابتها على شكل {}، لكن من الأفضل استخدام الرمز Ø، لأسباب ستتضح لاحقًا. بعد أن نحصل على المجموعة الفارغة، يمكننا تعريف بقية الأعداد. مفهوم الواحد هو مجموعة تحتوي على عنصر واحد، فلنضع المجموعة الفارغة فيها: {{}} أو {Ø}، وهو أسهل بصريًّا. الرقم التالي: اثنان، يحتاج إلى عنصرين. الأول يمكن أن يكون المجموعة الفارغة، لكن ماذا عن الثاني؟ لقد أنشأنا عنصرًا آخر عند تعريف الواحد، وهو المجموعة التي تحتوي على المجموعة الفارغة، فلنستخدمه. هذا يجعل المجموعة التي تُعرّف الرقم اثنين على الشكل {Ø،{Ø}}. أما ثلاثة فهي {Ø, {Ø}, {Ø, {Ø}}} ويمكن الاستمرار في ذلك إلى ما لا نهاية.
بعبارة أخرى، الصفر ليس فقط الرقم الأهم، بل هو – على نحو ما – الرقم الوحيد. إذا دققنا في أي رقم سنجد أنه مكوّن من أصفار في جوهره، ليس سيئًا أبدًا لشيء كان يُعد مجرد فراغ موضعي.
© 2025, New Scientist, Distributed by Tribune Content Agency LLC