تكنولوجيا

هل مازال تعلُّم لغةٍ ثانيةٍ ضروريًّا في عصر الذكاء الاصطناعي؟

مع أن الذكاء الاصطناعي أزال كثيرًا من الحواجز التي كانت تعوق فهم اللغات الجديدة، مازالت الأسباب وجيهة لاتباع الطريقة التقليدية لتعلُّم اللغات.

بقلم ماثيو سباركس

مازالت عالقةً في ذهني محادثةٌ أجريتها قبل عشرين عامًا مع أحد أساتذتي، وهو خبير فيما كنا نسميه آنذاك «الذكاء الاصطناعي»، وهو مجال يختلف – بكل المقاييس – عمّا يعنيه هذا المصطلح حاليًا. يومها، قال لي بكل ثقة: «إن لا فائدة من تعلُّم لغة ثانية».
كان على يقين بأن أجهزة الكمبيوتر ستزيل قريبًا الحواجز اللغوية، ليس بترجمة النصوص فقط، بل أيضًا من خلال الترجمة الفورية بالصوت، وستجعل المحادثات تنساب بسلاسة؛ حتى لو تحدّث كل طرف بلغة مختلفة.
وعلى الرغم من أن ما توقعه سبق أوانه بعقدين من الزمن؛ فقد كان محقًّا. في جوهره، الذكاء الاصطناعي قادر حاليًا على الترجمة الفورية بين معظم لغات العالم. ومع أن تعلُّم لغة جديدة يتطلّب جهدًا ومثابرة، وأن استخدام الذكاء الاصطناعي لا يتطلب سوى تنزيل تطبيق، مازالت هناك أسباب وجيهة تدعونا إلى اتباع الأسلوب التقليدي.
بيير أليكسيس ميفيل Pierre-Alexis Mével، أستاذ الترجمة في جامعة نوتنغهام University of Nottingham‎ بالمملكة المتحدة، لا يدّعي الحياد في هذا الشأن، لكنه يرى أن في تعلُّم اللغة متعةً ورضا شخصيين يبرران وحدهما كل ما يُبذَل فيه من جهد، حتى إن كان الذكاء الاصطناعي قادرًا على أداء المهمة بإتقان. يقول ميفيل: «تخيّلوا لعبة الشطرنج؛ تستطيع الحواسيب أن تلعبها ببراعة تامة، ومع ذلك مازال الناس يستمتعون بلعبها بأنفسهم».
لكن الواقع أن ترجمة الذكاء الاصطناعي مازالت بعيدة عن بلوغ الكمال؛ فنماذج الترجمة هذه، يقول ميفيل، تكاد لا تدرك السياق العام، أو تستوعب التعابير الاصطلاحية، أو تميّز العبارات العامية وتلتقط روح الفكاهة. صحيح أن تعليمات استخدام جهاز بسيط، مثل موجّه الإنترنت، يمكن ترجمتها بسرعة، وبأقل تكلفة، ومن دون التسبب في أي ضرر عبر الاستعانة بالذكاء الاصطناعي، غير أن ميفيل يعتقد أننا مازلنا في حاجة إلى المترجم البشري، حين يتعلق الأمر بترجمة الروايات الجميلة، أو الأفلام
التي تتطلب حسًّا لغويًّا وثقافيًّا راقيًا لنقلها من
لغة إلى أخرى.
ويقول: «الترجمات المتقنة كلها أنتجها بشر… فالذكاء الاصطناعي لا يُحسن التقاط الجمال الكامن في النصوص. هو لا يفهم المعنى، بل يكتفي بتخمين الكلمة التالية التي تبدو له الأكثر ترجيحًا وفق السياق».
في الجوهر، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يحوّل رواية فرنسية نابضة بالحياة، وعميقة التأثير، إلى نسخة إنجليزية باهتة وعادية. أما المترجم الموهوب، فيحافظ على الأثر العاطفي للنص ويصونه في الترجمة. يقول ميفيل إن هذه الموهبة تجمع بين الفن والبراعة.
يقول عالم الحاسوب شون هولدن Sean Holden، من جامعة كيْمبريدج University of Cambridge‎، إن من المفارقة أن رواية موبي ديك Moby-Dick قد تكون التحدي الأعظم للذكاء الاصطناعي في مجال الترجمة، أو ’‏الحوت الأبيض، الأسطوري الذي تمحورت تلك الرواية حوله؛ فبينما قد تكون نماذج الذكاء الاصطناعي قادرة على التعامل مع أساسيات المهمة، إلا أنها ببساطة غير مُجهَّزة للتعامل مع الموضوعات أو التلميحات أو الاستعارات المتأصلة في رواية مثل رواية هيرمان ملفيل Herman Melville‎ الكلاسيكية المعقدة، ذات الأسلوب الأدبي العميق والرمزي.
ويضيف هولدن: «ما معنى أن يكون الحوت أبيض؟ في التقاليد المسيحية الغربية، يرتبط اللون الأبيض بالطهارة والنقاء… حسنًا، إذا أردت نقل الدلالات الدقيقة والرمزية العميقة في رواية موبي ديك إلى لغة تنتمي إلى ثقافة مختلفة تمامًا، فأنت في حاجة إلى شخص يُتقن اللغتين، ويُدرك سياقاتهما الثقافية، لا إلى مجرد آلة تتنبأ بالكلمات وفق ما ترجّحه الاحتمالات».
يقول هولدن إن ما تفعله نماذج الذكاء الاصطناعي الحالية مثير للإعجاب؛ لكنها لم تلغِ بعد الحاجة إلى تعلّم اللغات. وهو متفائل بأن هذا الإنجاز سيأتي في وقته، لكنه يرفض تمامًا الالتزام بتحديد موعد لذلك؛ فعلى الرغم من اقتناعه بأنه لا يوجد ما هو متجذّر في الدماغ البشري، أو أن قدراته لا تمكن محاكاتها، فإنه يعتقد أننا قد ننتظر طويلًا، وربما طويلًا جدًّا، قبل أن يتحقق ذلك.
بعبارات أبسط، تقول ساندرا واتشر Sandra Wachter، من جامعة أكسفورد University of Oxford‎، إن الترجمة عبر الآلات تنطوي على تبعات جدّية تتعلق بالخصوصية؛ فكل ما يسمعه نموذج الذكاء الاصطناعي ويترجمه قد يكون خاضعًا لرقابة الشركة المصنِّعة التي قد تستخدم هذه البيانات لاستهدافك بالإعلانات، أو – ببساطة – لبيعها إلى جهات أخرى. وتضيف: «هذا لا يعني أننا ينبغي أن نتوقف عن استخدامها، لكن علينا أن ندرك أن في الأمر مقايضة، وأن نسأل أنفسنا: هل تسهيل المهمة، والراحة التي نحصل عليها، يستحقان ثمن التضحية بخصوصيتنا؟».
تقول كاريسا فيليز Carissa Véliz، وهي أيضًا من جامعة أكسفورد، إن هذا الجانب قد يكون مثيرًا للقلق بشكل خاص في بعض الدول: «من السهل – في أثناء الحديث – أن تفصح عما لم تكن تقصده تمامًا، وإن كنت تعيش في بلد غير ديموقراطي، وقد تفوهت بكلام حساس… فبإمكانك أن تتخيّل العواقب».
على الرغم من هذه السلبيات، فإن جاذبية السهولة، وتدني التكلفة، والسرعة التي توفرها الآلات تعني أننا نشهد تحولًا واضحًا من الترجمة اليدوية إلى الاستعانة بالذكاء الاصطناعي.
يقول سيرج شاروف Serge Sharoff، المحاضر في الذكاء الاصطناعي واللسانيات من جامعة ليدز University of Leeds‎ بالمملكة المتحدة، إنه يلاحظ انخفاضًا ملحوظًا كل عام في عدد الطلاب المتقدمين لدراسة اللغات والترجمة. ويُرجع ذلك إلى انخفاض الطلب على المترجمين البشريين، بسبب الاستعانة بالذكاء الاصطناعي، وإلى الأدوات المدعومة بالذكاء الاصطناعي، مثل: ديولينغو Duolingo‎، وهو ما يُسهِّل ويُقلّل تكلفة تعلُّم اللغة إذا برزت الحاجة إليها.
لكن اللافت أن هذا التراجع يقتصر على طلاب المرحلة الجامعية الأولى؛ إذ لايزال الإقبال على برامج الدراسات العليا المكثفة في هذا المجال مستقرًا؛ ففي هذه البرامج لا يكتفي الطلاب بالتعمّق في اللغة، وتوسيع حصيلة مفرداتهم وتعزيز دقتهم، بل يتعرفون أيضًا إلى الفوارق الثقافية الدقيقة التي تمكّنهم من التقاط التعابير الرمزية والإشارات الاجتماعية التي يعجز الذكاء الاصطناعي عن فهمها على نحو دقيق، ولهذا يرى شاروف أن الطلب على هذه المهارات سيبقى قويًّا ومتينًا لفترة طويلة.
ويضيف: «ما لم تنشأ ثقافة متجانسة بالكامل، لا فرق فيها بين من يعيشون في يوركشير وباتاغونيا، فلا أعتقد أن الحاجة إلى نوع من التواصل بين الثقافات ستختفي فعليًّا».
لكن حين يكون الذكاء الاصطناعي بهذه السرعة والسهولة، فإنه تصعب مقاومة إغرائه، حتى لشخص مثل شاروف الذي يحب اللغات، ويستمتع بتعلُّمها، وكرَّس حياته المهنية لعلم اللسانيات؛ فقد اعتمد على تطبيقات الترجمة المدعومة بالذكاء الاصطناعي خلال رحلة إلى الصين أخيرًا. وعن ذلك يقول: «لو كان لدي وقت غير محدود، لتعلّمت مزيدًا من اللغة الصينية، أليس كذلك؟ ولكن في ظل عدم توافر هذا الوقت، أدّى التطبيق مهمته على نحو مقبول».


© 2025, New Scientist, Distributed by Tribune Content Agency LLC

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى