ملف خاص

شرح فيزياء الكم

ألْقِ نظرة متعمقة على النظريات المذهلة والتجارب المجنونة والتطبيقات العملية لما قد يكون أغرب الموضوعات العلمية على الإطلاق

اكتسبت نظرية الكم Quantum theory، التي طُرحت في أوائل القرن العشرين، سحرًا وجاذبية غريبة لا مثيل لها في أي فرع آخر من فروع الفيزياء. تستشهد بها الأفلام وألعاب الفيديو والقصص المصورة بانتظام لتفسير الأدوات المستحيلة والقوى العظمى، في حين استولى الصوفيون المتمرسون وخبراء الصحة على مصطلحاتها لغاياتهم الخاصة. لكن من الأهمية بمكان التمييز بين العلم والعلوم الزائفة وفصل الحقيقة عن الخيال. وعلى الرغم من أن هذا قد يبدو مفاجئًا، فإن فيزياء الكم الحقيقية عقلانية ومتزنة وواضحة المعالم مثل أي مجال علمي آخر. والفرق هو أنها تتعامل مع ظواهر لا تتجلى إلا على مقاييس دون ذرية ضئيلة تقع خارج نطاق حياتنا اليومية العادية، والتي كثيرًا ما تتحدى جميع أفكارنا عن «الحس السليم».
على مدى الصفحات القليلة التالية، سنكشف غموض بعض أكثر زوايا نظرية الكم غموضًا، من ثنائية الموجة والجسيم Wave-particle duality ومبدأ عدم اليقين إلى الحالة السيئة السمعة لقطة شرودنغر Schrödinger’s cat التي قد تكون ميتة وحية في الوقت نفسه. وسنرى أيضا كيف يستعين العلماء المعاصرون بميكانيكا الكم لإضفاء قدر ضئيل من المصداقية على مفاهيم الخيال العلمي الراسخة منذ فترة طويلة مثل النقل الآني والتخاطر والسفر عبْر الزمن.
لكن على الرغم من كون هذه الأفكار مشوقة، فإن أعظم قيمة لعلم الكم تكمن في تطبيقاته العملية على تكنولوجيا العالم الحقيقي. فالمصابيح التي تضيء منازلنا، والمُعالجات الدقيقة داخل هواتفنا النقالة، والساعات الذرية التي تجعل نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) دقيقًا جدًا، وحتى أشعة الليزر التي تشغِّل ألعاب قططنا المفضلة، لم تكن لتوجد لولا نظرية الكم. سنلقي نظرة فاحصة على هذه التطبيقات، إلى جانب تطبيقات أكثر تخصصًا مثل المغناطيسات الفائقة التوصيل، والمجاهر الإلكترونية، والمجالات الناشئة للحوسبة الكمّية والتشفير.
بحلول نهاية القرن التاسع عشر، حقق الفيزيائيون فهمًا واضحًا للطاقة- أي الكمية الفيزيائية التي تخزَّن في شكل كهربائي في بطارية مثلا، أو التي ينتجها الفرن على شكل حرارة. افترض الجميع أن الطاقة كمية متغيرة باستمرار، وأن قيمتها تتزايد أو تتناقص بسلاسة وليس في قفزات منفصلة. لكن بقدر ما يبدو هذا معقولا، فقد بات واضحًا في أوائل القرن العشرين أنه كان خطأ- على الأقل في بعض الأحيان. في الأنظمة المجهرية الضآلة، مثل الفوتونات التي تحمل طاقة الضوء، أو مستويات الطاقة التي تشغلها الإلكترونات داخل الذرة، بدا أن الطاقة «مُكممة» -Quantised- أي لا يمكنها سوى اتخاذ قيم منفصلة معينة. مثّل ذلك بدء الثورة الكمّية.
كان الفيزيائي الألماني ماكس بلانك Max Planck أول من استخدم كلمة «كم» في العام 1900 للإشارة إلى حزم الطاقة الصغيرة غير القابلة للتجزئة، والتي تحملها الفوتونات. في ذلك الوقت كان بلانك في الأربعينيات من عمره بالفعل، لكن سرعان ما أضاف إلى اكتشافاته مواطن له أصغر سنّا كان مقدَّرًا له أن يصبح أشهر الفيزيائيين على الإطلاق، وهو ألبرت آينشتاين Albert Einstein. على الرغم من أن فيزياء الكم لبلانك وآينشتاين كانت غريبة بما فيه الكفاية، إلا أنها كانت
مجرد البدء.
في منتصف عشرينيات القرن العشرين، شهد هذا المجال ثورة ثانية حولته إلى شيء غريب ومذهل حقًا. فعلى أيدي علماء مثل فيرنر هايزنبرغ Werner Heisenberg وإرفين شرودنغر Erwin Schrödinger، تعرض عالم غير مدرك فجأة لأسرار ازدواجية ثنائية الموجة والجسيم، ومبدأ عدم اليقين، والفكرة شبه الغامضة القائلة بأن الجسيمات الكمّية توجد في «تراكبات» Superpositions لعدة حالات مختلفة حتى يرصدها شخص ما.
وعلى الرغم من أن آينشتاين أدى دورًا رئيسيًا في التطوير الأصلي لنظرية الكم، إلا أنه كان مستاءً جدًا من تلك التطورات اللاحقة. ولم تكن مشكلته في الصياغة الرياضية للنظرية، التي لم يكن في وسعه أن يعيبها، بل في دلالاتها الفلسفية شبه الصوفية. وعلى وجه الخصوص، كان يكره ما يسمى «تفسير كوبنهاغن Copenhagen interpretation»، الذي ينص على أن الأنظمة الكمّية تظل في حالة غير محددة حتى ترصد. وقد قبلت الغالبية العظمى من جميع زملاء آينشتاين من الفيزياء هذه الفكرة تقريبًا، باستثناء شرودنغر، الذي ذهب إلى حد القول بأنه يكره ميكانيكا الكم ويتأسف لأنه كانت له أي علاقة بها.
بالنسبة إلى غير الفيزيائيين، يشتهر شرودنغر بين الناس بفضل تجربته الفكرية التي تتضمن قطة كمية Quantum cat، والتي صممها في الأصل لتسليط الضوء على عبثية تفسير كوبنهاغن، على الرغم من أنها كثيرًا ما تطرح في أيامنا هذه على أنها تطبيق مباشر لذلك التفسير.
في حين لا يزال معظم علماء الفيزياء يتقبلون تفسير كوبنهاغن، إلا إنه تعتريه عدة عيوب تزعج الفلاسفة وغيرهم ممن يتدبرونه بعناية. أدى هذا إلى ظهور طيف كامل من التفسيرات البديلة، لعل أكثرها إثارة للاهتمام هو فرضية العوالم المتعددة Many-worlds hypothesis. تتصور هذه الفرضية أن كل نظام كمي يوجد في جميع حالاته المحتملة، لكن كلا منها يقع في كون «مواز» مختلف. من المؤسف أنه على عكس العوالم الموازية في روايات الخيال العلمي، فإننا محصورون على الدوام في عالمنا الخاص من دون أي وسيلة للسفر إلى أي من تلك العوالم الأخرى.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى