البيئة

أحد خزانات الكربون على سطح الأرض يوشك على أن ينهار .. فهل يمكننا إنقاذه؟

على مدى عقود، ظلت الغابات والمراعي... وغيرها من النظم البيئية البرية، تمتص ما يصل إلى ثلث ثاني أكسيد الكربون الذي يطلقه البشر سنويًّا. لكن هذا الحاجز المناخي الحيوي قد يكون في طريقه إلى الانهيار أسرع مما كان متوقعًا.

بقلم  جيمس دينين

يحلو لمن ينكرون ظاهرة التغير المناخي التذكير بأن النباتات تزدهر حين ترتفع مستويات ثاني أكسيد الكربون. ومنطقهم يقول إننا كلما أحرقنا مزيدًا من الوقود الأحفوري، ازدادت الأرض خضرةً، وصارت أكثر ملاءمة للحياة عليها، وامتصت كميات أكبر من الكربون: فما الذي يدعو إذن إلى القلق؟
كما هي الحال، عادة مع الحجج المضلِّلة، يتضمن مثل هذا الطرح جزءًا من الحقيقة؛ فعلى مدى عقود، كانت النظم البيئية البرية، كالغابات والمراعي، تنمو بوتيرة متسارعة، وتمتص كميات هائلة من ثاني أكسيد الكربون CO₂ من الغلاف الجوي للأرض.
لكن العلماء البيئيين فوجئوا عندما اكتُشف، في ستينيات القرن العشرين، أن اليابسة تشكل خزانًا صافيًا للكربون Carbon sink، في حين كان العلماء يتوقعون أن الكمية التي تُسحب من الغلاف الجوي سنويًّا هي معادِلة لما يتحلل أو يُحرَق. ومن بين هؤلاء العلماء، يقول سكوت دينينغ Scott Denning، عالم الغلاف الجوي من جامعة ولاية كولورادو Colorado State University‎: «لم نكن نتوقع وجود خزانات. فكل ما ينمو، لا بد من أن يموت».
أسهمت هذه النعمة غير المتوقعة التي أُغدقت على الأرض تاريخيًا في إزالة ما بين ربع وثلث انبعاثات ثاني أكسيد الكربون التي يطلقها البشر سنويًّا، ومن ثم أتاح ذلك إبطاء وتيرة تغير المناخ إلى حين أن نتمكن من أن ننتظم ونضبط سلوكنا. لكن الحلقة المفقودة في منطق منكري المناخ هي أن هذا الخزان الكربوني لا يمكن أن يستمر في ما يفعل إلى الأبد؛ فالصدمات البيئية الناتجة عن تغير المناخ، إلى جانب الحدود الفيزيائية لكوكب الأرض، ستؤدي إلى تشبّعه في وقت ما خلال القرن الحالي.
والمُقلق في الأمر أن ثمة مؤشرات على أننا نقترب بالفعل من تلك اللحظة؛ ففي العامين 2023 و2024، بدا أن الخزان الكربوني البري قد اختفى تقريبًا. ويعكف الباحثون حاليًا على دراسة كيف تسهم النظم البيئية المتنوعة في هذا التوازن الدقيق المتغيِّر؛ من التندرا القطبية، إلى الغابات المطيرة الاستوائية. وهم يأملون فهم ما إذا كانت هذه بالفعل نهاية الخزان الكربوني الأرضي، وما الذي يمكن فعله للحفاظ عليه؟

 

خزان الكربون البري

يمكن أن نتخيله على أنه حوض سباحة ضخم يمثل الماءُ فيه نحو أربعة تريليونات طن من الكربون المُخزَّن في جميع النباتات والحيوانات والميكروبات فوق الأرض وتحتها، إضافة إلى المواد العضوية المتحللة في التربة. يتسرب الكربون من الغلاف الجوي إلى هذا الحوض مع نمو النباتات وامتصاصها ثاني أكسيد الكربون عبر عملية التمثيل الضوئي. كما يتسرب الكربون خارج الحوض حين تتحلل الكائنات الحية أو تُحرَق. ومادامت كمية الكربون المتدفقة إلى الحوض تفوق تلك الخارجة منه، فإن هذه الدورة تعمل كخزان يسحب ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي.
صار هذا الأمر من البدهيات في أوساط المهتمين بالمناخ حاليًا، لكنه كان مفاجئًا ومثيرًا للجدل عند اكتشافه. ويرجع الفضل في ذلك جزئيًّا إلى العالم المناخي تشارلز ديفيد كيلينغ Charles David Keeling الذي أجرى قياسات دقيقة لتركيزات ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي، من محطة تقع على بركان ماونا لوا Mauna Loa في هاواي. وقد أفضت تلك القياسات إلى ما يُعرف اليوم بمنحنى كيلينغ Keeling Curve الذي مكّن الباحثين من إدراك أنه في حين ترتفع تركيزات ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي باطِّراد سنة بعد أخرى، فإنها لم ترتفع بالسرعة التي يُفترض أن ترتفع بها لو بقي كل ثاني أكسيد الكربون الناتج عن احتراق الوقود الأحفوري في الهواء. وهنا طُرح السؤال: إلى أين كان يذهب الكربون إذن؟
في ذلك الوقت، كان من المعروف أن ثاني أكسيد الكربون يذوب طبيعيًّا في المياه السطحية لمحيطات الأرض؛ لذا افترض الباحثون – في البداية – أن هذه المياه هي الخزان الذي يستوعب كل الكربون «المفقود». يقول ديفيد شيميل David Schimel ، من مختبر الدفع النفاث التابع لوكالة الفضاء الأميركية ناسا NASA’s Jet Propulsion Laboratory في كاليفورنيا: «أول علماء الكربون كانوا من علماء المحيطات». لكن النماذج البسيطة سرعان ما أظهرت أنه حتى المحيطات الشاسعة لا يمكنها أن تتحمل كل هذا العبء وحدها، مما أوحى بوجود خزان كربوني بري يسهم في المهمة.
غير أن علماء النظم البيئية البرية وجدوا صعوبة في تقبّل هذا الواقع، إذ إن ارتفاع معدلات إزالة الغابات والتمدد العمراني وتكثيف النشاط الزراعي، كان من المفترض أن تجعل من الصعب على هذه النظم البيئية أن تستمر في امتصاص الكربون. يقول دينينغ إن ذلك كان في سبعينيات القرن العشرين عندما كانت المغنية الكندية جوني ميتشل Joni Mitchell تنتقد في أغانيها التقدم العمراني على حساب الطبيعة، ‏وهو ما وصفته برصف الفردوس وإقامة مواقف للسيارات فيها. ويضيف: «كانوا على يقين بأن اليابسة مصدر ضخم لانبعاثات ثاني أكسيد الكربون».
كما أن القول بوجود خزان كربوني بري يتعارض مع الفكرة السائدة بأن النظم البيئية تميل إلى التوازن، أي أن كل نمو يقابله موت؛ فالتفكير السائد آنذاك كان، يقول دينينغ: «أن النباتات الخضراء تنمو، ثم تموت، ثم تتحلل، ولا يتغير تركيز ثاني أكسيد الكربون… ]كان[ من الصعب تخيّل كيف يمكن للنمو النباتي أن يتفوق على الموت والتحلل لعقود متواصلة».
ومع ذلك، هذا بالضبط ما أظهرته الأرقام، فقد استخدم الباحثون السفن والطائرات لتحسين قياسات تركيزات ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي، إلى جانب قياسات النظائر الكربونية والأكسجينية التي تتيح تتبّع تدفقات الكربون بين الخزانات والمصادر. وجمعوا هذه البيانات، مع تركيب فقاعات الهواء القديم المحبوسة في نوى الجليد بالقارة القطبية الجنوبية، وطوّروا نمذجيات حاسوبية محسِّنة لنظام الأرض. وبحلول ثمانينيات القرن العشرين، كانت جميع الأدلة تشير إلى وجود خزان كربوني بري دائم يمتص نحو ربع ثاني أكسيد الكربون الذي نضخه في الغلاف الجوي سنويًّا، وهي كمية مماثلة لما تمتصه المحيطات. ووفقا لدراسة نُشرت في العام 2013، فإنه لولا هذا الخزان البري لارتفعت حرارة كوكب الأرض بمقدار 0.3 °س إضافية.
لاتزال الأسباب الكامنة وراء هذا الخزان موضع جدل، لكن ثمة أربعة عوامل رئيسية تحظى بالقبول على نطاق واسع؛ أولها: ارتفاع مستويات ثاني أكسيد الكربون؛ مما يعزز عملية التمثيل الضوئي لدى النباتات. ويزداد هذا التأثير التسميدي بفعل التلوث الغذائي، مثل الجريان السطحي الغني بالأسمدة من المزارع. يقول دينينغ: «الناس يغرقون المحيط الحيوي بالأسمدة من دون أن يدروا». وهناك عامل آخر يتمثل في عودة نمو الغابات بعد أن قُطعت أو أُحرقت لأغراض زراعية في العقود الماضية. فمثلا، حافظت الغابات التي تنمو مجدَّدًا فوق أراضٍ زراعية سابقة على خزان قوي في منطقة أبالاتشيا Appalachia بالولايات المتحدة. وأخيرًا، فإن الارتفاع السريع في درجات الحرارة، في القطب الشمالي، أدى إلى تمديد موسم النمو، وجعل أجزاءً من المنطقة تكتسي بالخضرة أسرع مما كان متوقعًا.

 

حتى الأحداث المتطرفة قصيرة الأجل يمكن أن تُحدِث هذا التأثير الهائل في الخزان الكربوني البري

 

التلوث الزراعي

لكن قوانين علم البيئة الصارمة تفرض في نهاية المطاف حدودًا على مدى قدرة هذه العوامل على تعزيز سعة الخزان؛ فثاني أكسيد الكربون، مثلًا، لا يعزز النمو إلا إذا توافرت للنباتات جميع العناصر الأخرى التي تحتاج إليها؛ ففي حين تنمو النباتات بسرعة داخل البيوت الزجاجية عندما يُضخ فيها ثاني أكسيد الكربون، فإن التجارب الميدانية التي تعرّض الأشجارَ – في النظم البيئية الفعلية – لمستويات مرتفعة من ثاني أكسيد الكربون تُظهر استجابة أكثر تواضعًا. ويعود ذلك إلى أنها تواجه ضغوطًا أخرى، مثل نقص المياه، أو نفاد النتروجين والفوسفور في التربة. وقد يعوّض التلوث الغذائي بعضًا من هذا النقص، لكنه يتركّز حول مواقع الزراعة الصناعية، حيث تصل النظم البيئية، بسرعة، إلى مستويات تفوق حاجتها. أما الغابات التي تنمو مجدَّدًا فهي تشكّل خزانا قويًّا في البداية، لكنها تفقد هذه القدرة مع بلوغها مرحلة النضج، كما أنها تختفي تمامًا إذا قُطعت الأشجار أو احترقت.
والواقع أن الخزان الكربوني البري يتقلب لأسباب لا تكون دائمًا واضحة؛ ففي الفترة بين العامين 2007 و2016، ازداد هذا الخزان قوةً، إلى درجة أنه أزال نحو ثلث انبعاثاتنا من ثاني أكسيد الكربون سنويًّا. لكن ذلك النمو لم يكن مفهومًا جيدًا، كما يقول بيتر رايخ Peter Reich، عالم النظم البيئية من جامعة ميشيغان University of Michigan، مما ترك الخبراء منقسمين بشأن مستقبل هذا الخزان الحيوي.
لكن حين تُدرَج آثار تغير المناخ في الحسابات، يتضح أن هذا الخزان لا يمكن أن يستمر إلى الأبد؛ ففي جميع نمذجيات نظام الأرض تقريبًا، تتنافس الآثار المعزِّزة للخزان الناتجة عن ثاني أكسيد الكربون مع الضغوط المناخية المتفاقمة التي تضعف الخزان بمرور الوقت. ومع ذلك، يصعب التنبؤ بدقة بموعد اختفاء هذا الخزان.

 

دخان حرائق الغابات يحجب الشمس مما يُلحق ضررًا إضافيًّا بنظمها البيئية

 

تقول آنا باستوس Ana Bastos، عالمة المناخ من جامعة لايبزيغ University of Leipzig بألمانيا: «لن أجرؤ على تحديد تاريخ لذلك».
وتكمن الصعوبة في التعقيد الهائل للكيفية التي يستنزف وفقها تغيرُ المناخ قدرةَ الكوكب على امتصاص ثاني أكسيد الكربون؛ فمن جهة، يمكن للحرارة المفرطة المصحوبة بالجفاف أن تُجهِد النظم البيئية، وتُشعل حرائق الغابات؛ ومن جهة أخرى، حين تقترن الحرارة المفرطة بأمطار غزيرة، فإنها تُجهد أيضًا النظم البيئية وتُسرّع من معدلات التحلل، بسبب تكاثر الميكروبات. ويمكن لسلسلة من التأثيرات غير المباشرة أن تزيد حينها من إضعاف الخزان؛ فحرائق الغابات، مثلًا، لا تطلق كميات ضخمة من الكربون المخزَّن فقط، بل إن الدخان الناتج عنها يمكن أن يُعيق النمو عبر حجب ضوء الشمس، كما أن تفشي الحشرات المرتبط بالمناخ قد يزيد من احتمالية اندلاع الحرائق في المقام الأول. وفي الغابات المعتدلة، يؤدي فقدان الغطاء الثلجي إلى إبطاء النمو نتيجة تعرّض الجذور للعوامل الجوية. أما في القطب الشمالي، فإن اكتساء الأرض بالخضرة يقابله ذوبان التربة الصقيعية Permafrost الذي يُطلق مزيدًا من ثاني أكسيد الكربون والميثان، مع نشاط الميكروبات، بعد ذوبان الجليد عنها. بل إن هذا الذوبان قد يؤثر في تخزين الكربون، من خلال تفكيك التربة، وإضعاف قدرتها على تثبيت الأشجار؛ مما يؤدي إلى ميلان جذوعها في مشهد يُسمى «الغابات السكرى» Drunken forests.
ثمة عدد لا يُحصى من التأثيرات التي تُرجِّح كفة التحول من خزان كربوني إلى مصدر كربوني. خذ مثلًا كيف تُسمَّم الأشجار بالملح‏ من جراء غمر الغابات الساحلية بالسيول التي تفاقمت بفعل ارتفاع مستوى سطح البحر؛ أو كيف أن فقدان الحيوانات التي تنشر البذور، مثل الرئيسيات، يُعيق إعادة نمو النظم البيئية.
ومع ذلك، فقد أظهرت الخزانات الكربونية، حتى وقت قريب، قدرة ملحوظة على الصمود في وجه تغير المناخ؛ ففي بحث غير منشور، أجرى بيير فريدلينغشتاين Pierre Friedlingstein، من جامعة إكستر University of Exeter في المملكة المتحدة، حسابات بيَّنت أن تأثيرات المناخ قلّصت من نمو القوة المجمّعة لخزانَي الكربون في اليابسة والمحيطات بنسبة %15 تقريبًا منذ العام 1960، مقارنة بسيناريو خالٍ من تغير المناخ. وبالمثل، وجد شيميل وزملاؤه، في دراسة نُشرت في أغسطس 2025، أن العوامل المعزِّزة لامتصاص الخزان زادت من تخزين الكربون في اليابسة بنحو 38 بليون طن بين العامين 2001 و2021، في حين أن الضغوط المناخية قلّصته بأكثر من 8 بلايين طن بقليل. ويقول شيميل: «لكن التحليل ينتهي تمامًا عند بداية هذه المرحلة التي تصير فيها الأمور أكثر تعقيدًا».

 

ظواهر الطقس المتطرفة

في العامين 2023 و2024، وهما الأشد حرارة على الإطلاق، تقترح نتائج التحليلات الأولية أن الظواهر المناخية المتطرفة كادت تقضي على الخزان الكربوني البري؛ ففي العام 2023، كان حجم الخزان أقل بنسبة %50 على الأقل من المتوسط خلال العقد الماضي. وقد نتج ذلك عن حرائق الغابات الضخمة، وبطء نمو الغطاء النباتي في نصف الكرة الشمالي، خلال النصف الأول من العام، تلا ذلك موجات حرّ، وجفاف، وحرائق في منطقة الأمازون خلال النصف الثاني منه.
ويبدو أن الخزان ضَعُف، حتى في العام 2024، حين انخفض إلى أدنى مستوى له منذ أكثر من عقد، لكن هذه الأرقام مازالت أولية. ويقترح أحد التحليلات أن السبب، خلافًا للعام 2023، لم يكن الحرارة والجفاف، بل الحرارة المصحوبة بالرطوبة، واللتان سرّعتا من عملية التحلل. وفي جميع الأحوال، كانت النتيجة أكبر زيادة سنوية مسجلة في مستويات ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي، مع أن انبعاثات الوقود الأحفوري بقيت ثابتة. تقول باستوس: «الأحداث المتطرفة قصيرة الأجل يمكن أن تُحدِث هذا التأثير الهائل في الخزان البري».
ومع ذلك، يتوخى الباحثون الحذر في تفسير هذا الانخفاض الحاد في الخزان البري خلال عامين فقط على أنه اتجاه دائم، لا سيما أن العامين 2023 و2024 كانا شديدي الحرارة جزئيًّا، بسبب نمط مناخي قوي يُعرف بظاهرة إل نينيو El Niño. ويشير ريتشارد بيردسي Richard Birdsey من مركز وودويل لأبحاث المناخ Woodwell Climate Research Center ، في ولاية ماساتشوستس الأمريكية، إلى أن الخزان انهار أيضًا قبل عقد من الزمن، خلال ظاهرة إل نينيو آنذاك، قبل أن يستعيد قوته لاحقًا. يقول رايخ: «هذه الأرقام تنطوي على قدر كبير من عدم اليقين، وأُفضِّل أن أرى بضع سنوات إضافية من البيانات». لكنه يضيف أن هذه التغيرات مقلقة، وقد تكون بمنزلة ناقوس يعلن تلاشي الخزان البري: «هذا احتمال وارد بالتأكيد… وأخشى أن يكون كذلك».
حين نلقي نظرة قريبة على مكونات الخزان الكربوني البري، نجد دلائل على تراجع طويل الأمد؛ فمثلًا وجدت ميليسا روز Melissa Rose، من معهد الموارد العالمية World Resources Institute، وزملاؤها أن خزان الكربون في الغابات العالمية قد تراجع تدريجيًّا منذ العام 2001، ويرجع ذلك أساسًا إلى إزالة الغابات. وفي العامين 2023 و2024، أدّت حرائق الغابات إلى تقليص هذا الخزان إلى أدنى مستوى له منذ عقدين على الأقل، ما أدى إلى تأجيج دوائر التغذية الراجعة Feedback cycles التي تُسرّع من وتيرة تغير المناخ. تقول روز: «نحن نشهد هذا يحدث أمام أعيننا، وبوتيرة أسرع مما كنا نتوقع».

 

 

بالمثل، أعلن الباحثون، في ديسمبر 2024، أن التندرا القطبية الشاسعة تحوّلت، لأول مرة منذ آلاف السنين، من خزان كربوني طويل الأمد إلى مصدر كربوني طويل الأمد، بسبب الحرائق وذوبان التربة الصقيعية. أما غابة الأمازون المطيرة، فهي تتأرجح منذ أكثر من عقد على حافة التحول إلى مصدر كربوني دائم. وقد شهد خزان الكربون في المحيطات أيضًا انخفاضًا ملحوظًا منذ العام 2021 نتيجة موجات حر بحرية غير مسبوقة، وإن كانت التغيرات أقل حدَّة مما يحدث على اليابسة.
إذا اختفى الخزان الكربوني البري في المستقبل القريب، فستكون تداعيات ذلك على جهود المناخ عميقة؛ فمعظم الدول تعتمد على بقاء خزاناتها قوية لتحقيق تعهداتها بخفض الانبعاثات بموجب اتفاق باريس Paris Agreement الذي يهدف إلى إبقاء الاحترار العالمي طويل الأمد ضمن عتبة 1.5 درجة سيليزية؛ لذا فإن فقدان هذه الخزانات قبل الموعد المتوقع يعني أن على الدول أن تقلّص انبعاثاتها بوتيرة أسرع في مجالات أخرى؛ ففي أوروبا، مثلًا، أدى الانخفاض المفاجئ في خزان الغابات الكربوني، خلال السنوات القليلة الماضية، نتيجة تضافر عوامل الإفراط في الحصاد بعد غزو روسيا أوكرانيا، والجفاف والحرارة وتفشي الحشرات، إلى انحراف الكتلة الأوروبية عن مسار تحقيق أهدافها المناخية للعام 2030.
لكن ما يدعو إلى التفاؤل هو أن ثمة مجموعة من الوسائل الفعالة لإنقاذ هذا الخزان أو إبطاء انهياره، حتى في ظل تسارع تغير المناخ. يقول كونستانتين تسونر Constantin Zohner، عالم بيئة المناخ من المعهد الفدرالي السويسري للتكنولوجيا في زيورخ ETH Zurich، إن أهم الخطوات هي حماية النظم البيئية وترميمها ثم إدارتها، بهذا الترتيب تحديدًا. وتقترح النمذجات أن الغابات القائمة لو تُركت ‏لتنمو من دون تدخل، فإنها قد تمتص ما يصل إلى 228 بليون طن من الكربون عند بلوغها مرحلة النضج الكامل على مدى بضعة عقود، وهو ما يعادل نحو ثلث إجمالي انبعاثاتنا الكربونية حتى وقتنا الحالي. ويمكن التقاط 87 بليون طن أخرى من خلال ترميم الغابات في الأماكن التي كانت تنمو فيها سابقًا، باستثناء المناطق الحضرية والأراضي المستخدمة حاليًا للزراعة.
علاوة على ذلك، يمكن من خلال تحسين إدارة النظم البيئية تعزيز الخزان الكربوني البري بعدة بليونات من الأطنان سنويًّا، وفقًا لتقديرات ييتشون شيه Yichun Xie، من جامعة إيسترن ميشيغان Eastern Michigan University وزملائه. ويتضمن ذلك تفادي حرائق الغابات الهائلة، عبر تنفيذ عمليات حرق منظّمة، وتطبيق ممارسات زراعية صديقة للمناخ، مثل الزراعة المغطاة والرعي التناوبي، واعتماد أساليب أكثر استدامة في حصاد الأشجار. يقول رايخ: «الطرق المتاحة كثيرة، لكن لا بد من أن تصير جزءًا من نظامنا الاقتصادي والسياسي بطريقة ما».
وقد تكون السنوات المقبلة حاسمة في تحديد مصير هذه التدفقات الهائلة من الكربون في مختلف أنحاء كوكب الأرض. وإذا أردنا الحفاظ على هذه النعمة غير المتوقعة، والمتمثلة في الخزان الكربوني البري، يقول تسونر، فإن علينا أن نتوقف عن «إزالة الحلفاء الطبيعيين» الذين يعتمد عليهم الخزان، وأن نسعى جاهدين لإبقاء نمو الحياة النباتية متقدمًا على موتها وتحللها… ولو لفترة أطول قليلًا.

 

© 2025, New Scientist, Distributed by Tribune Content Agency LLC

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى