العلوم الإنسانية والإجتماعية

المسؤولية الاجتماعية للشركات في تنظيم مجتمع السوق

2014 مجتمع السوق

سبايز بوتشر

مؤسسة الكويت للتقدم العلمي

العلوم الإنسانية والإجتماعية التكنولوجيا والعلوم التطبيقية

كان الناشط النيجيري في مجال حقوق الإنسان كين سارو-ويوا (Ken Saro- Wiwa) مناهضاً بارزاً لشركة النفط الكبرى (Shell) "شيل" التي أشعلت أنشطتها المُضرَّة بالبيئة في نيجيريا حركةً احتجاجية من شعب الأوغوني المحلِّي. وفي العام 1995، أُعدِم سارو-ويوا شنقاً على يد الحكومة النيجيرية بعد أن دين بتهمة القتل في محاكمةٍ شكَّك كثرٌ حول العالم بمصداقيتها. وزُعِم أنَّ شركة ""شيل" رَشَت الشهود في المحاكمة ليشهدوا ضدَّ سارو-ويوا، في محاولةٍ لإسكات أحد أبرز ناقديها (Wiwa v Shell n.d.).

وزُعِم أيضاً أنَّ شركة "شيل" قد دفعت مبالغ مالية للشرطة النيجيرية التي لجأت إلى العنف لقمع المحتجِّين المحلِّيين ضدَّ أعمال الشركة (Wiwa v Shell n.d.). ويرى البعض أنَّ هذا يشكِّل دليلاً على السلطة المتزايدة للشركات المتعدِّدة الجنسيات النابعة من ظاهرة العولمة، وبرزت حركة تضامنية دولية لـ "مقاطعة شركة "شيل" ودعم شعب الأوغوني. وكانت الدعوات إلى "المسؤولية الاجتماعية للشركات" (Corporate Social Responsibility) إحدى ردّات الفعل على أعمال شركة "شيل" وسواها.

ويعبِّر مصطلح "المسؤولية الاجتماعية للشركات" عن إدراكها لمسؤوليتها في ضمان استدامة وتجدُّد المجتمع والبيئة الحاضنَين لها. وبحسب هذا المفهوم، فإنَّ الشركات تستفيد من موارد كثيرة غير مُثمَّنة (كالهواء النظيف، والعمَّال المثقَّفين، والنقل العام)، غير أنَّها في الوقت نفسه قد تولِّد العديد من الآثار الضارة غير المثمَّنة (كالتلوُّث مثلاً). وتشكِّل المسؤولية الاجتماعية للشركات جزءاً من فكرةٍ أوسع تُعرَف بـ "أصحاب المصلحة الرأسماليين" (Stakeholder Capitalism)، بما معناه أنَّ الشركات ليست مسؤولة إزاء مساهميها فحسب، بل إزاء سواهم من المعنيين أيضاً، كالمجتمع بشكلٍ عام (Banerjee 2007).

وعلى الرغم من المعارضة الأوَّلية لهذا المفهوم، شرعت شركات كثيرة في ممارسة التزامها بمبادئ المسؤولية الاجتماعية في السنوات الأخيرة. فبدأت الشركات الكبرى بتخصيصِ أقسام ٍ تُعنى بهذا الموضوع، كما أنَّها تقدِّم تقارير سنوية تشير إلى التقدُّم المُحرَز في تحقيق أهداف المسؤولية الاجتماعية. على سبيل المثال، تمَّ تطوير مبدأ المحاسبة القائم على "ثلاثية خط القاع المحاسبية" (Triple Line Accounting)، كمحاولةٍ لأخذ التكاليف الاقتصادية والاجتماعية والبيئية لأنشطة الشركة بعين الاعتبار، من خلال إدراجها في الميزانية.

وتجدر الإشارة إلى أنَّ مفهوم "المسؤولية الاجتماعية" ما زال يشكِّل محطَّ جدلٍ قائم. فالاختصاصي في اقتصاد السوق الحرَّة ميلتون فريدمان (1970) يرفضه معتبراً أنَّ القوى التنافسية تبلغ فعاليتها القصوى عندما تحصر الشركات تركيزها في زيادة الأرباح. ولكن، إذا حاولت الشركات بلوغ غاياتٍ اجتماعية أخرى، فقد يؤثِّر ذلك سلباً في آلية الأسعار. ويرى اختصاصيون آخرون في مجال الاقتصاد التأسيسي أنَّ أيَّ موجباتٍ اجتماعية يجب أن تكون منظَّمة من خلال القانون، وليس من خلال الاحتجاجات أو الإعلام (Vanberg 2007) .

وفي المقابل، غالباً ما ينتقد ناشطو المجتمع المدني مفهوم المسؤولية الاجتماعية للشركات، إذ يعتبرونها شكليةً، فتسمح للشركات بممارسة "أعمالها كالمعتاد"، وتظهر في الوقت نفسه كأنَّها مسؤولة. في إطار مناقشة "حملة ما بعد النفط" التي أقامتها شركة "بي بي" (BP)، كتبت شارون بيدر(Sharon Beder):

في النهاية، على الرغم ممَّا تزعمه شركة "بي بي" عن مسؤوليتها الاجتماعية، والمحصِّلة الثلاثية، والمصلحة الذاتية الواعية، يبدو أنَّ الأرباح هي أكثر ما يهمُّ الشركة. فقد تستثمر شركة النفط في الطاقة الشمسية وتقرُّ بضرورة الوقاية من الاحتباس الحراري العالمي، غير أنَّها ستقوم بكلِّ ما بوسعها لتضمن إمكانية استمرارها في التنقيب عن الوقود الأحفوري وتوسيع أسواقها (Beder 2002).

تحدّي الديمقراطية

تمتدُّ المخاوف بشأن العلاقة بين الأنشطة التجارية والآثار الاجتماعية إلى المجال السياسي أيضاً، لا سيَّما على صعيد الجدالات حول معنى وممارسة الديمقراطية التمثيلية الحديثة. فالديمقراطية البرلمانية قد أتاحت بعض الفرص الهامة لمختلف المجموعات والأفراد لتعزيز مصالحهم في العملية السياسية. ولكنَّ أهمية الأنشطة التجارية بالنسبة إلى الاقتصاد وأثر الأعمال في العملية السياسية قد طرحا عدداً من الأسئلة حول مدى نزاهة القرارات السياسية وطابعها الديمقراطي.

تحدِّد الدولة الشروط المتعلِّقة بمجتمع السوق والنشاط الاقتصادي من خلال قانون الملكية الخاصة، والعقود، وبناء الأسواق. كذلك، تستجيب الحكومات للمصالح التنافسية من خلال تنظيم الاقتصاد وفرض القيود الاجتماعية على عمليات الأسواق لتعزيز الإنصاف وغيره من الغايات الاجتماعية. ومع ذلك، فإنَّ بعض المنظِّرين يسلِّطون الضوء على تأثير قطاع الأعمال على صنع القرارات الديمقراطية بصورةٍ غير متكافئة؛ ما يُطيح بمبدأ "الصوت الواحد، والقيمة الواحدة". ولعلَّ التبرُّعات السياسية تشكِّل أحد أكثر الأمثلة وضوحاً على ذلك، بسبب سيطرة الشركات على الأموال والموارد الاقتصادية الأخرى.

ولقد حدثت مؤخَّراً فضيحةٌ في الهند بيَّنت الأثر المدمِّر لذلك. فزُعِم أنَّ وزير الاتِّصالات الهندي قد قدَّم حقوق توفير الخدمات الهاتفية الخلوية لمانحيه بأسعارٍ متدنِّية. فقام كثيرون ببيع هذه الحقوق، فحصدوا بالتالي مكاسب غير متوقَّعة. وقُدِّر أنَّ هذه الفضيحة، المعروفة بفضيحة  لجيل الثاني" "2G"، قد كلَّفت الحكومة الهندية 38 مليار دولار أميركي (Bushell-Embling 2010). وهذا المثال الواضح والصريح لتأثير المال على السياسة ليس سوى نوعٍ من أنواع الفساد.

ولكن، قد يكون للتبرُّعات أثر أقلّ وضوحاً أيضاً. فقد ناقش هاكر وبيرسون (Hacker and Pierson) (2010, pp. 177-179) كيف قامت مجموعات الشركات في الولايات المتَّحدة بالتبرُّع لمرشَّحين من كلا الحزبَين السياسيين الرئيسيين، ولكن للبعض منهم فقط ممَّن وافقوا على جدول أعمالٍ مؤاتٍ لقطاع الأعمال يقوم على خفض الضرائب. فهذا يؤثِّر إلى حدٍّ كبير في هوية الفائز، لأنَّ المُرشَّحين المدعومين مالياً لديهم حظوظ أكبر في الفوز. وبذلك، تكون التبرُّعات قد ساعدت على حشد الدعم للسياسات التجارية في الكونغرس. ومؤخَّراً، قامت مجموعات الشركات بتمويل حملات إعلانية "طرف ثالث" لمعارضة السياسات التي تؤثِّر في أرباحها، مثل الحملة التي أقامتها شركات التعدين الأسترالية ضدَّ سياسة فرض ضريبة على التعدين، وذلك في انتخابات العام 2010.

وقد أدَّت مثل هذه الحالات إلى دعوة الكثيرين لفرض حظرٍ على تبرُّعات الشركات في الانتخابات، من أجل الحدِّ من تأثير المال على نتائج الانتخابات السياسية. ولكنَّ ذلك لا يُلغي حاجة الأحزاب والمرشَّحين إلى تمويل حملاتهم. في هذا الإطار، يشكِّل التمويل العام للانتخابات أحد الحلول لهذه المسألة، مثل النظام المعمول به في كندا، حيث إنَّ الغالبية العظمى من التمويلات تأتي من الحكومة نفسها. ومع ذلك، يزعم الناقدون أنَّ التمويل العام يُزيل حافز الأحزاب لبناء قواعد شعبية مؤيِّدة واسعة من أجل جمع الأموال والتطوُّع. ومن الممكن أن تصبح الأحزاب نتيجة ذلك مهنية وتكنوقراطية بشكلٍ مبالغ فيه، بدلاً من أن تكون منخرطة مع الناس. في مثل هذه الحالات قد يحافظ قطاع الأعمال على امتيازه من خلال تشابه المصالح و"الثقافة" بين نخبة الشركات والأحزاب.

[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى