العلوم الإنسانية والإجتماعية

الاستهلاك وما وراءه في مجتمع السوق النابض بالحياة

2014 مجتمع السوق

سبايز بوتشر

مؤسسة الكويت للتقدم العلمي

العلوم الإنسانية والإجتماعية التكنولوجيا والعلوم التطبيقية

إنّ الطريقة الأخرى الأساسية التي يستعملها معظمنا للتعامل مع الأسواق هي الاستهلاك. تملك مجتمعات الأسواق سمة مميزة، وهي أن الأسواق تصبح "إلزامية"، فالطريقة الوحيدة للوصول إلى البضاعة والخدمات التي نحتاجها هي عبر الأسواق. مع مرور الوقت، تمت المتاجرة بالمزيد المزيد من ما نحتاجه، وتم استبدال الإنتاج المنزلي بالإنتاج الرأسمالي، وبدأت بنية المجتمعات المعاصرة تتطلب أنواعاً جديدة من البضاعة والخدمات مثل السيارات والهواتف المحمولة والحسابات المصرفية، التي كانت في السابق غير ضرورية.

وكما ينطوي ظهور مجتمع الأسواق على أهمية متزايدة بالنسبة للعمل المدفوع الأجر، فهو يتطلب أيضاً زيادة في استهلاك الأسواق. ويدّعي بعض المنظّرين أنّ الوفرة أنتجت نزعة "الاستهلاكية"، حيث يتعدّى استهلاكنا حاجاتنا وبدلاً من ذلك فهي تبدأ في تشكيل هوياتنا وأهدافنا في الحياة ((Stearns 2001, p. 9. في هذا القسم نتناول مثل هذه القضايا من خلال دراسة الاستهلاك والاستهلاكية في مجتمعات الأسواق.

نهج الاستهلاك

بالنسبة إلى الاقتصاديين الكلاسيكيين الجدد، يقع الاستهلاك في قلب أرباح مجتمع الأسواق. وتنتج الأسواق النمو الاقتصادي الذي يزيد من توفر السلع للمستهلكين، ويزيد بالتالي المستوى المعيشي. كما توفر الأسواق أيضاً اختيار المستهلكين، مما يسمح لنا بتقرير ما يناسب احتياجاتنا ورغباتنا أكثر، بدلا من تقريرها مسبقاً بالنيابة عنا لا سيما من قبل الحكومات. وفي هذا السياق، تنحاز وجهة نظر الكلاسيكيين الجدد إلى جانب المستهلك، كما يعبر عنها في نظرية سيادة المستهلك (انظر الفصل 2). قد تجعلنا الأسواق نعمل أكثر، وقد تدفع بدخل المنتجين نحو الأسفل من خلال المنافسة، ولكن كل هذا للتأكد من أننا، كمستهلكين، نحصل على ما نريد.

فبحسب وجهة نظر الكلاسيكيين الجدد هذه، تتساوى منفعة الشخص واستهلاكه بشكل كبير. وبما أننا نختار أن نستهلك، يعتقد الاقتصاديون أن الاستهلاك يجلب لنا الرضا والاكتفاء. ولكن هذا الرأي ليس عالمياً. وقد شهدنا مسبقاً بعض الانتقادات الموجهة ضده. بحسب الماركسيين، إنّ الرأسمالية هي نظام من العلاقات الاجتماعية، وليست مجرد وسيلة لإرضاء الرغبات المادية. ويشير هؤلاء إلى مشاكل الاغتراب و"التقديس السلعي الأعمى"، معتبرين أنه بينما تزيد الرأسمالية من إنتاج السلع، فهي تقوم بذلك بطرق تضر بعلاقاتنا وتتنكّر لإنسانيتنا.

يدّعي أيضاً الكثير من علماء الاجتماع وأصحاب النظريات أن العديد من الدوافع تحرك استهلاكنا، ولا تنتج كلها منافع كبرى. كما يخدم الاستهلاكُ الحاجاتِ الاجتماعيةَ، مثل الدلالة على مركزنا أو انتمائنا إلى مجموعة. في الواقع، يرى العديد من علماء الاجتماع أنه في المجتمعات المعاصرة، تتميز هويتنا بحسب استهلاكنا أكثر من دورنا كعمال. ويزعم هؤلاء أننا نعيش الآن في "مجتمع استهلاكي"  (Consumer Society) بدلاً من مجتمع الأعمال.

ويلفت الاقتصاديون السياسيون وعلماء الاجتماع الانتباه إلى دور الإعلان والتسويق في تشكيل رغباتنا. وهذا يشكّك في مسألة المطالبة بسيادة المستهلك. فإن لم يملك المستهلك السيادة حقاً، ويشكّل المنتجون والمعايير والتوقعات الاجتماعية رغباتنا، قد لا يجعلنا الاستهلاك أكثر سعادة، خاصة في القسم الشمالي الثري في الأصل.

وفي الآونة الأخيرة، كان الاستخدام المتزايد للمعلومات من أجل مراقبة سلوكنا مصدر قلق آخر. ويدعو نايجل ثريفت (Nigel Thrift) (2005) ذلك "المعرفة الرأسمالية"(Knowing Capitalism) . ويمكن دمج المراقبة الإلكترونية لعادات الإنفاق مع الزيارات المتكررة للمواقع الإلكترونية بهدف السماح للمسوّقين المختصين باستهداف المستهلكين بالمنتجات الجديدة.

استهلاك أم ترفيه؟

وجد بعض من استهلاكات السلع الفاخرة قبل هيمنة الرأسمالية، وحدد فيرنر زومبارت (Werner Sombart) أنّ جذورها تعود إلى القرن 14 في أوروبا (Sassatelli 2007, p.20). ومع انتشار التجارة إلى خارج أوروبا وبدء القوى الأوروبية باستغلال الموارد الطبيعية في مستعمراتها المتزايدة في الخارج، بدأت معادن ثمينة أخرى بالانتشار على نحو سلع، ودخلت الأسواق الأوروبية بضائع فاخرة جديدة. فتحولت الموضة من مجرّد ضرورة إلى دافع لاستهلاك البضاعة الفاخرة كالملابس والمجوهرات(Slater 1997, p. 17).

وتركّز الكثير من الاستهلاك هذا على الفئات الأكثر ثراء في المجتمع الأوروبي. لم تصبح الاستهلاكية سمة أساسية من حياة الأقل حظاً إلا بعد توسع الرأسمالية. فظهر ذلك، بعض الشيء، بسبب حاجات البقاء الأساسية للعمال المدفوعي الأجر. وكما بدأ الناس يعتمدون أكثر على العمل مدفوع الأجر، ويخف اعتمادهم على إنتاجهم من أجل أنفسهم، توجّب عليهم الاعتماد بشكل متزايد على الأسواق من أجل وسائل البقاء على قيد الحياة، مما أدى إلى تطوير مجموعة من الأسواق الاستهلاكية: من الغذاء والكساء والأدوات المنزلية.

إن المستويات المعيشية العليا التي ينتجها النمو الاقتصادي زادت من حدة التوترات مع معايير المجتمع ما قبل الرأسمالية. وهنا يطرح سؤال اجتماعي هام: ما الذي ينبغي عمله بمكاسب الإنتاجية؟ يمكن دفع أجور أعلى للعمال، أو يمكنهم العمل وقتاً أقل والاستمتاع بأوقات فراغ أطول. لقد أصبح الخلاف على زيادة الإنتاجية للإنتاج الآلي عاملاً رئيسياً في تطور الرأسمالية.

يعتقد البعض أنّ الرأسمالية ستصل إلى "حالة ثابتة" من إرضاء الاحتياجات، مما يؤمّن وقت الفراغ والسعي لتحقيق التنمية الذاتية. يعتقد كل من جون ستيوارت ميل في القرن 19 وجون مينارد كينز في القرن 20، على سبيل المثال، أنّ التركيز على النمو الاقتصادي لتلبية الاحتياجات المادية قصير الأجل. وفيما تمت تلبية الاحتياجات الأساسية، اعتقدا أنه يمكن توجيه موارد المجتمعات نحو السعي لتحقيق "الأهداف العليا".

قامت النقابات أيضاً بحملة من أجل تقليص ساعات العمل، مع الحفاظ على أجور طبيعية. ويعكس التحفيز نحو نهار مؤلّف من ثماني ساعات، هدف "الحياة المتوازنة"  (Balanced Life) هذا. ومع ذلك، خشي العديد من المحافظين وأصحاب العمل أن تؤدي الحياة من دون قيم العمل الإيجابية إلى الفوضى الاجتماعية (Cross 1993). ومن دون العمل الكافي، يظن البعض أن العمال سيطوّرون سلوكاً معادياً للمجتمع، أو آراء سياسية متطرفة، مما يجعل حملة تقليص ساعات العمل "أزمة أخلاقية"(Moral Crisis) .

ومع ذلك، فقد جنت النقابات بعض الأرباح في أوائل القرن العشرين مع ظهور "التعويضات" في شكل معدلات أجور بطيئة التزايد وإجازات مدفوعة. أما الراحة، في شكل العطلة السنوية، فكانت تعتبر مكافأة مقابل العمل الشاق. ولكن استمرّ الخلاف على العمال المنظمين، في العمل أو خارجه ، خاصة في الفترة ما بين الحربين العالميتين (Cross 1993).

فتح النمو الاقتصادي أيضاً البوابة إلى المجتمع الاستهلاكي الحديث. وتوقع هنري فورد أن خط الإنتاج والسيارة سيحدثان ثورة في المجتمع الأميركي. غير أن الكساد الكبير ومستوياته العالية من البطالة قد همّشت التحفيز على أوقات الفراغ والحياة المتوازنة، بما أن الناس أصبحوا يهتمون بالحصول على الوظيفة في حد ذاتها. لم يتحقق تنبؤ فورد إلا حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، مع حقبة ما بعد الحرب من العمالة الكاملة والنمو المستقر.

نتج الجانب الآخر من الإنتاج الضخم عن الحاجة إلى الاستهلاك الضخم. فقد تم اختراع آلات لتسهيل زيادة الإنتاج، ولكن في الوقت نفسه تم تشجيع المستهلكين على زيادة الاستهلاك. وفي خلال فترة الازدهار الطويلة، ازدادت نزعة الاستهلاكية وانخفضت ساعات العمل. ولكن، في الآونة الأخيرة، استقرت ساعات العمل بينما استمر الاستهلاك بالتوسع.

ازدياد نزعة الاستهلاكية

جعل التطور التكنولوجي من الإنتاج الضخم أمراً ممكناً. ولكن، مع عدم إجراء تغييرات في أنماط الاستهلاك، قد تؤدي السعة المتزايدة الناتجة من ذلك إلى خلق مشاكل عديدة. بدأ الاقتصاديون المتأثرون بكينز باعتبار أنّ الكساد الكبير وغيره من حالات اللااستقرار الاقتصادي جاء نتيجة عدم المطابقة بين القدرات الإنتاجية للشركات والأنماط الاستهلاكية للناس. لقد قام كينز بتحديد أهمية الطلب، معتبراً أنه في ظل عدم ازدياد الطلب، فإن النمو الاقتصادي والعمالة قد يتعرضان للخطر.

وقام المنظّرون لاحقاً بتطوير أفكار كينز معتبرين أنه مع ازدياد وفرة الاقتصادات الراسمالية، أصبح تحفيز الطلب أمراً أكثر أساسية لإدارة الاقتصاد. واعتبر مؤسساتيون مثل غالبرايث (1967) وماركسيون مثل باران وسويزي (1966) أنّ "جهود البيع" قد أصبحت أكثر أساسية لعمليات الشركات التي تحتاج إلى بيع الإنتاجات المتنامية (انظر الفصل السابع).

يعتبر سمارت (2010 p. 62) أنّ الإعلان يستند إلى "المفهوم القائل إنه يمكن إقناع أو تشجيع العملاء أو المستهلكين بوسائل مختلفة لشراء بضائع أو خدمات معينة". لقد رأينا في الفصل الثالث أنّ العلماء منقسمون حول آثار الإعلان. فبعضهم يعتبر أنه يتم التلاعب بالمستهلكين بواسطة الإعلان، ويعتبر آخرون أن المستهلكين يتمتعون بقدر كبير من الاستقلالية. ويقول آخرون إنّ الطريقتين الآنفتين متعلقتان بجوانب سلوك المستهلك – "المستهلكون ناشطون ويقومون بخيارات ويأخذون قرارات، لكنّ ذلك كله يتم في ظل سلسلة من التأثيرات وليس بشروط من صنعهم" (Smart 2010, p. 63).

يمكن ملاحظة مدى انتشار جهود البيع في توسيع التسويق الذي يستهدف الأطفال. فقد قامت جولييت شور (Juliet Schor) (2004, p. 15) باختبار هذه الظاهرة في الولايات المتحدة، معتبرةً أن "المدى الهائل لانغماس الأطفال في ثقافة الاستهلاك في هذه الأيام غير مسبوق… لقد حلّ الترفيه المسوّق اليوم محلّ التنشئة الاجتماعية غير المنظمة، ومعظم ما يفعله الأولاد يتمحور حول السلع". تظهر شور (2004, p. 13) كيف أنّ نزعة الاستهلاكية قد أعادت تشكيل هويات الأطفال في الولايات المتحدة الذين أصبح العديد منهم الآن "ملتزم بالماركات".

يشير العديد من العلماء إلى أهمية "التهالك المخطط له"  (Planned Obsolescence)في تخليد ثقافة المستهلك (Packard 1978). يعود هذا إلى بنية السلع التي تتكسر قطعها بسرعة وإلى عملية أوسع يتم من خلالها إيجاد رغبات جديدة لمنتجات جديدة في شكل مستمر، ما يُكسب السلع القديمة صفة اللاعصرية. بعض الأمثلة على ذلك تتضمن إطلاق نسخات جديدة من الأيبود (iPod) والأيفون (iPhone) مع تعديلات طفيفة ولكن في هيئة مختلفة في شكل يتم التعرف عليها على أنها من أحدث الأجهزة ما يشجع المستهلكين على شرائها في وقت أسرع.

ركّز علماء الاجتماع انتباههم على الرابط بين الهويات الفردية ونزعة الاستهلاك. جاء التعبير المبكر عن ذلك في أعمال هيربرت ماركيوز (Herbert Marcuse)(1991 [1964]) الذي اعتبر أن نزعة الاستهلاكية أصبحت شكلاً من أشكال السيطرة الاجتماعية. فبدلاً من السعي خلف الحرية الحقيقية، اقتصر الاختيار على قرارات الشراء، ما أدى إلى إنتاج "إنسان أحادي البعد" (One-Dimensional Man). لكنه قام في الوقت نفسه بانتقاد بيروقراطية الاقتصادات السوفياتية، معتبراً إياها ذات حرية محدودة.

وقد حملت الطبيعة القصيرة الأمد لحالة الاكتفاء التي تخلقها بعض أشكال الاستهلاك بعض علماء الاجتماع وأصحاب النظريات الثقافية على تحديد مفارقة يقوم من خلالها "فراغ" الاستهلاك بخلق دورة من الرغبة تولّد أساليب جديدة في تحفيز عادات المستهلك وإشباعها مهما قصر أمدها. أما بعد عملية استهلاك السلع الملموسة، تم تحويل "التجربة" أيضاً إلى سلعة، مثل عطلة المغامرات التي يتم الإعلان عنها إلى أماكن مثل نيوزيلاندا. هذا وقد تم اعتبار الاستهلاك، لا الإنتاج، العنصر الرئيس الذي يحدد شخصية المجتمعات المعاصرة. كما يلاحَظ أنّ "جمالية الاستهلاك" قد حلّت محل "أخلاقيات العمل" مع تحويل الناس أكثر إلى مستهلكين (Baudrillard 1998, p.144).

تقدم أفعال الاستهلاك معلومات عن وضع الشخص وهويته. لذلك، يعتبر علماء الاجتماع أن "الناس يقومون في شكل متزايد بتحديد أنفسهم وثقافتهم وعالمهم بواسطة السلع" (Carrier & Heyman 1997, p. 365) . يذهب بومان (2007, p. 6) إلى أبعد من هذا معتبراً أنَ هويتنا نفسها تتحول إلى سلعة لـ "التسويق والإعلان والبيع". من هذا المنطلق تحديداً أعطى بودريارد (Baudrillard) السلع صفة "المؤشرات". فبدلاً من استهلاك "مادة" السلعة، ما يهم فعلاً أصبح الصورة أو الرمز أو الإشارة التي تنقلها". بحسب بودريارد (1973,p.121)، فإن استهلاك الإشارات هو الخاصية التي تحدد ثقافة المستهلك "ما بعد الحداثة".

لقد نشأ العديد من الحركات الاجتماعية لمنافسة نزعة الاستهلاكية. في الستينات، ازداد عدد الحركات التي تدافع عن حقوق المستهلك في العديد من الدول الرأسمالية المتطورة، وأعدت حملات لعمليات حماية المستهلك التشريعية، بما في ذلك حقيقة الإعلانات والإفصاح عن المعلومات الخاصة بسلامة المنتجات. أحد أشهر الشخصيات في هذه الحركات هو رالف نادر (Ralph Nader) (1965) الذي كان كتابه الأكثر مبيعاً آنذاك "سيارة غير آمنة على أية سرعة" بمثابة نقد لسجلات السلامة الخاصة بصناعة السيارات. لقد أسّس نادر العديد من المنظمات المعنية بحقوق المستهلك وأُطلق على موظفي هذه الجمعيات لقب "غزاة نادر"(Naders’s Raiders) .

أصبحت الحركات الراديكالية والمضادة للاستهلاك جزءاً من ثقافة المستهلك. أحد الأمثلة على ذلك هو مسيرة ثلثاء المرفع في سيدني للمثليين جنسياً (Sydney Gay and Lesbian Mardi Gras).. مع نشوء هذه الحركة في العام 1978 عندما قامت الشرطة مستخدمةً العنف بتفريق مسيرة تنادي بحقوق المثليين جنسياً، تحوّلت هذه المسيرة إلى أحد أكبر الأحداث التي تحتفل بثقافة المثليين جنسياً. ومع ذلك، يعتبر بعض النقاد من قلب مجتمع المثليين جنسياً أنّ أفكار التحرّر الإنساني الراديكالية الأصلية قد تعرضت للانكشاف بسبب الرغبة في جعل هذا الحدث جذاباً اقتصادياً (انظر (Kates 2003)).

[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى