التكنولوجيا والعلوم التطبيقية

واقعية التصميم الهندسي والفشل . لنسامح التصميم تفهم الفشل

2014 لنسامح التصميم

هنري بيتروكسكي

مؤسسة الكويت للتقدم العلمي

التكنولوجيا والعلوم التطبيقية الهندسة

في العموم، بالرغم من أن الفشل في الهندسة شيء واجب تحاشيه، فالهدف من التصميم الهندسي هو التأكّد أن الفشل لن يحدث في المكان والزمان غير مرغوب فيهما. لذا فهيكل كجسر أو بناية، من المفروض أن يكون متيناً بما فيه الكفاية ليقاوم أي تحدٍّ، طبيعي أو بشري متوقّع، سواء كان [هذا التحدّي] ثلوجاً كثيفة، أو رياحاً عالية، أو هزّةً أرضية قوية، أو فيضاناً عاتياً، أو حشوداً أكثر من المتوقّع، أو هجمات إرهابية، وليس من المحتمل لكل هذه التحديات أن تقع في كلّ موقع بالطبع، لكن الهزات الأرضية لا يمكن إهمالها في كاليفورنيا، أو الرياح الإعصارية في خليج الساحل (Gulf Coast). إنها مسؤولية المهندس لفهم ما له علاقة وما هو محتمل من تحديات في كل حالة من الحالات ولتصميم الهياكل بموجبها.

بينما يمكن تصميم هياكل لمقاومة كل ما هو محتمل أو متخيّل من هجمات، لكن قرارات التصميم يجب أن تأخذ بالاعتبار مدى واقعية التصميم و[معقولية] كلفته. فالأخطار الطبيعية، بطبيعتها لا يمكن التكهّن بها بالكامل. من الواضح أن مدينة مثل نيو أورلينز مهدّدة بالأعاصير ومن المحتمل جداً أن إعصاراً كبيراً آخر سيحدث فيها خلال، لنقل، القرن القادم، وكذلك الحال بالنسبة لمدينة سان فرانسيسكو والزلزال. لكن متى بالضبط سيحصل الحدث الشديد المقبل ودرجة قوته أمر خاضع للصدفة أكثر مما هو تنبؤ علمي دقيق، وعلى المهندسين المكلّفين بتصميم السدود والمباني والجسور وهياكل أخرى التعامل بالاحتمالات بدلاً من الثوابت. عليهم احتساب المخاطر والفوائد والتبعات وتقديم النتائج لمؤسسات حكومية أو مجالس إدارة كي يوافقوا على إنفاق مبالغ كبيرة من المال لتصميم وبناء هياكل لا تسقط. ولكن بموجب أية افتراضات يمكن إجراء مثل هذه الحسابات واتخاذ الأحكام؟ عليهم الأخذ بعين الاعتبار، بشكل ضمني أو صريح، الكلفة وتقييم القدرة على تحملها، بما في ذلك قيمة تحسينات الفشل السليم مقابل قيمة حياة البشر.

تعتمد المخاطر التي تعتبر مقبولة كثيراً على عوامل سياسية وثقافية، ولهولندا تاريخ طويل في الدفاع عن أرضها ضد البحر، وتعتبر سدودها ودفاعاتها أسطورية. مع ذلك، بعد الفيضان الكاسح الذي أعقب العاصفة المندفعة عام 1953، اعتمد البلد خطة لفترة 32 سنة لمنع حدوث ذلك ثانية، أو على الأقل، تخفيف حدوثه إلى مستوى منخفض ومقبول المخاطر بالنسبة للعواصف التي قد تحصل مرة كل 10.000 سنة فقط. اعتمدت القرارات حول ما يجب حمايته وإلى أي درجة، على تحليل المخاطر الذي أخذ بالاعتبار، ليس فقط احتمال تجاوز الدفاعات، ولكن الكلفة المتوقّعة للضرر الذي يمكن أن ينتج من الفشل أيضاً، وتضمّن ذلك، ليس فقط إعادة البناء، بل التداعيات الإقتصادية على الأمة.

مع قضايا مستجدة تؤثر بقوة على ضمائرهم كالاحترار الكوكبي، وارتفاع منسوب البحر، اعترف الهولنديون مؤخراً أن المستوى الحالي للحماية ضد الفيضانات الكاسحة لن تكون كافية. في عام 2007 قام برلمان البلد بتكليف لجنة دلتا (Delta Committee) المليئة بالخبراء إعداد تقرير لما هو مطلوب عمله لضمان أن البلد سيكون آمنا من "تقلبات المناخ خلال الـ 200 سنة القادمة". فبينما كان مستوى المخاطرة 1 من 10.000 مقبولاً، أصبح مستوى الخطورة المرغوب الآن 1 من 100.000، على الأقل، في بعض المناطق الاقتصادية الحرجة المحيطة بروتردام، أكبر موانئ أوروبا ومصدر 65% من الناتج الإجمالي المحلي لهولندا، ولخفض مستوى الخطورة لجميع مناطق البلد ستكون الكلفة باهظة، الإ أنه وجد ضرورياً حماية الأجزاء الريفية إلى مستوى 1 من 1250 فقط، أو أقل. إن قرارات متأثرة بالقيمة كهذه قد لا يمكن تحقيقها سياسياً بسهولة في أميركا، حيث قام الكونغرس، بعد صحوة إعصار كاترينا فقط، بتوجيه فرق المهندسين لتحسين دفاعاتهم في نيو أورلينز ضد الفيضانات لتصل 1 من 100. وحسب الإحصائيين، فاحتمال وقوع فيضان ضمن 100 سنة خلال فترة رهن عقاري لبيت لمدة 30 سنة سيزيد على 25%. من الواضح أن مستويات الفشل المقبولة، والكلفة، وبالتالي المخاطرة يعتمد جداً على القيم الحضارية والإرادة السياسية، التي تتأثر بالأحداث بشكل كبير من دون شك.

لا يمكن فهم وتقدير المخاطر بالكامل وتبعاتها واحتسابها من دون فهم واضح لطبيعة وأسباب وتبعات الفشل. فبينما يمكن أن تكون المخاطر مرتبطة بنجاح، بمعنى أن الفائض من أي شيء قد يكون أمر سيئاً، فالمخاطر تكون عادة مرتبطة بالفشل. وبما أن الاهتمام يركز على الفشل في المستقبل، فالطريقة الوحيدة لاختبار فرضياتنا حول طبيعة وحجم الفشل هو أن ننظر إلى الوراء لحالات الفشل التي حصلت تاريخياً. والحقيقة، أننا نتكهن بأن احتمال حدوث حدث معيّن، كعاصفة كل 100 سنة، هو كذا نسبة مئوية، إذ لو تطابقت الأشياء الأخرى، يبقى الأهم الاعتماد على الخبرة الحقيقية المحتواة في الوثائق التاريخية للأنواء الجوية. بعبارة أخرى، السجل الموثّق للأحداث الماضية هو المرشد لتقدير احتمال حالات الفشل التي تكون من نفس النوع في المستقبل، وبنفس الأسلوب، تكون معرفة حالات الفشل السابقة شيء مهم لتقدير احتمال حالات الفشل المشابهة في نفس السياق، في المستقبل.

عندما لا توجد خبرة مباشرة سابقة للفشل، كما هو الحال في تكنولوجيا جديدة تماماً يمكن تقدير المخاطر بالاعتماد [في احتسابها] على التشابه (Analogy). في الخمسينات من القرن الماضي، عندما اعتبرت المحطات النووية التجارية امتداداً طبيعياً لتكنولوجيا الدفع النووي المطوّرة من قِبل البحرية، أُثيرت أسئلة حول المخاطر بالنسبة لعموم الناس. فالمحطّات الأرضية ستستخدم الحرارة من التفاعل النووي لتوليد البخار، الذي بدوره سيسيّر التوربينات المقترنة بمولدات كهربائية. وبالرغم من حداثة المصدر الأولي للطاقة، فإن معظم الأجزاء الأخرى في المحطة كانت مماثلة تماماً للأجزاء المستخدمة في محطات حرق الفحم. لذا فالخبرة التقليدية في أجزاء مثل أوعية الضغط، التي يمكن لبعض أنواعها احتواء المفاعل، يمكن أن تعتبر مؤشرات معتمدة لوثوقية الأجزاء المشابهة في المحطة النووية. بمعنى آخر، يمكن استخدام سجل الفشل للأجزاء التقليدية للتنبوء بمعدل فشل [بعض] أجزاء المحطة النووية، وتنبؤات كهذه، بالمقابل، قد توفّر فهماً للمخاطر – مضادها الوثوقية – تكنولوجيا مستقبلية، وعلى أساسها تبنى قرارات أعمال مصلحة الكهرباء لتنفيذ أو عدم تنفيذ مشروع ما.

بنفس الأسلوب، فإن سجل حالات الفشل للأجزاء الميكانيكية والكهربائية والمنظومات الداخلة في محطة كهرباء قد يوفر دليلاً لاحتساب المخاطر لحالات فشل مماثلة قد تقود إلى حوادث كارثية وقد تطلق إشعاعات نووية للبيئة، وكان من المهم لمثل هذه المرافق أن تُعلم عن هذه المخاطر لكي تتفهم المسؤولية المحتملة عند وقوع حادث، وعندما اكتشف أن التبعات المالية المتوقعة تكون باهظة، ولا توجد شركة تأمين تغطّي جميع التبعات غير المعروفة لحادث نووي، تقاعست المرافق [أي مؤسسات تجهيز الكهرباء] عن الاستمرار في تطوير محطات تجارية نووية للكهرباء. في هذه المرحلة تدخّلت الحكومة، التي كانت تروّج لتطوير محطات نووية مدنية، من خلال إقرار تشريع برايس- أندرسون (Price-Anderson Act) لعام 1957 الذي حدّد المسؤولية المالية لمشغّلي المحطات النووية في حالة الحادث الكارثي. بهذه الوسيلة وضع سقف واضح التعريف لمسؤولية للمرافق الكهربائية التي وافقت على المضيّ في تطوير سعات التوليد النووية، وتمّ بعد ذلك تعديل بنود تشريع برايس – أندرسون وتوسيعه مرات عديدة .

تعتبر المعرفة بالطرق المحتملة التي يمكن لنظام تكنولوجي أن يفشل فيها، والتبعات المتوقعة معرفة لا غنى عنها لاتخاذ قرارات فنية واقتصادية حكيمة، وتأتي هذه المعرفة من خبرات سابقة مع حالات فشل، حتى إن كانت بالإنابة أو التماثل، وهذه الحقيقة تؤكّد أهمية الحالات الدراسية لحالات الفشل والدروس المصاحبة المستنبطة منها، وقد ذهب أحد طلاب حالات الفشل ليدّعي أن "جودة المهندسين هي مجموع الخبرة المكتسبة من قبلهم زائداً الخبرة المكتسبة لمن سبقهم". ولكن إتقان تفاصيل، لا حصر لها، من الحالات الحديثة والتاريخية للفشل وأسبابها وتبعاتها سيربك أي مهندس أو مصمّم يعمل على تقدّم الوضع القائم [لأية تكنولوجيا] (The State of The Art). لذا فإن فهم الفشل بشكل أكثر عمومية ومبدئية يوفر ميزات ثمينة للتنبؤ بحدوثه في تكنولوجيات جديدة، وفهم كهذا، لكي لا يكون نظرياً إلى درجة لا ينطبق على الواقع العملي، يتم الوصول إليه بشكل من أشكال الاستدلال الرياضي (Induction) والتراكم في الوصول إلى الخبرة المعتمدة على الحالات الدراسية.

فالفهم الشخصي والعميق للفشل عند المصمّم والمهندس يأتي من خبرة الحياة التي تحتوي بالطبع على العنصر البشري بشكل حتمي. بعض هذه الخبرة مرتبطة بنمو الإنسان [عبر السنين]، التي عادة ما تثبّتها حوادث الطفولة الاعتيادية التي تؤدي إلى أنوف مدماة وعظام مكسورة. نتعلّم بشكل مباشر من هذه الخبرات تبعات عثرة مشؤومة أو مزحة غير محمودة. فليس من الصدفة أن تنخفض حماقة الأطفال كلما كبروا، ونتعلّم كذلك عن الفشل بشكل أقل مباشرة ولكن ليس أقل فاعلية مما نتعلمه من خبراتنا الناضجة، وهذه الحالات تعلّمنا من خلال الأمثلة والمقارنة، وقد تكون هذه الحالات شخصية وتشكّل محصولاً فريداً وخاصّاً لطبيعة وتبعات الفشل، وأهم ذكرى حصلت لي لخبرات من هذا النوع كانت بعد دراستي الهندسة لأربع سنوات، وخلال ذلك الوقت كانت كلمة "فشل" مرتبطة بمفهوم الدرجة [العلامة] لاختبار أو مساقٍ علمي، ولا تشير إلى فهم أو عدم فهم لطبيعة الكلمة في سياق العالم الحقيقي للمنظومات الهندسية واجزائها. وكما سأوضح في الفصل القادم، فالتعريف الشخصي للطبيعة الرمزية والحقيقية للفشل في السياق الهندسي جاء لي عندما كنت طالباً في الدراسات العليا؛ ففي خلال تلك الفترة وجدت نفسي ساكناً في بناية ومنغمساً في ثقافة ترتكز على الفشل الرمزي والحقيقي لأنواع مختلفة من الأشياء.

[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى