إسلاميات

قصة هلاك قوميّ “عاد وثمود”

2001 موسوعة الكويت العلمية الجزء الثاني عشر

مؤسسة الكويت للتقدم العلمي

قوم عاد قوم ثمود إسلاميات المخطوطات والكتب النادرة

إنَّ عادًا وثَمودَ من قَبائِلِ العَرَبِ الّتي كانَتْ قبلَ إسماعيلَ، عليهِ السَّلامُ.

وقَدْ بعثَ اللهُ تعالَى إليهم الرُّسُلَ، ودعاهُمْ إلَى عِبادَةِ اللهِ وَحْدَهُ، وتَرْك عبادَةِ الأَصْنامِ. ولكنَّهم كفروا، فَحَقَّ عَلَيْهم العذابُ من عندِ اللهِ تعالَى.

وكثيرًا ما يَقْرِنُ اللهُ تعالَى في القرآنِ بينَ ذِكْرِ عادٍ وذِكْرِ ثمودَ، كما في سورة التَّوْبَةِ، وإبراهيمَ، والفُرقانِ، وسورةِ (ص)، وسورةِ (ق)، والنَّجمِ، والفَجْرِ.

 

وقبيلَةُ عادٍ تَنْقَسِمُ قِسْمَيْن، عادٍ الأولَى، وكانوا قبلَ إبراهيمَ عليه السَّلامُ، وعادٍ الثَّانِيَةِ، وهُمْ مَنْ كان يقيمُ بمَكَّةَ، ولم يُصِبْهُم ما أصابَ قَوْمَهُم من عذابِ اللهِ تعالَى.

لَقَدْ كانَتْ قبيلةُ عادٍ الأولَى، وهُمْ أولادُ عادِ بنِ إِرَمَ، يسكنون الأَحْقافَ، وهي جبالُ الرِّمالِ، وكانَتْ باليَمَنِ بين عُمانَ وحَضْرَمَوْت، بأرضٍ مُطِلَّةٍ علَى البحرِ يُقالُ لها: الشَّحْرُ، واسمُ واديهِم مُغيث.

وكانوا كثيرًا ما يَسْكُنونَ الخِيامَ ذواتِ الأَعْمِدَةِ الضِّخامِ، كما أَخْبَرَ تَعالَى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ) (الفجر 6 – 7).

 

وكانوا أَهْلَ بساتينَ وزَرْعٍ وعِمارَةٍ. وقد أرسلَ اللهُ تعالَى إليهِمْ هودًا، عليه السَّلامُ، رسولاً، وكانَ من أَشْرَفِ قَومِه نَسبًا.

وكانَتْ عادٌ الأَولَى أوَّلَ من عَبَدَ الأصنامَ بعد الطّوفانِ، الّذي عَمَّ الأَرْضَ، والّذي أَرْسَلَه اللهُ علَى قومِ نوحٍ، كما قال تعالَى:( أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ ۚ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً ۖ فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون) (الأعراف 69).

وكانَ أهلُ عادٍ يمتازون عن غَيْرِهم من النّاسِ بأنَّ لهم أجسامًا قويَّةً فارِعَةَ الطُّولِ، فَجَعَلَهم اللهُ أَشَدَّ أهلِ زمانِهِمْ في الخِلْقَة والشِّدَّةِ والبَطْشِ. وكانوا مُشْرِكينَ باللهِ تعالَى يَعْبُدونَ الأَصْنامَ، ومن أَشَدِّ الأُمَمِ تكذيبًا لِلْحَقِّ.

 

فَبَعَثَ اللهُ فيهم أَخاهُم هودًا، عليه السَّلامُ، فدعاهُمْ إلَى عبادَةِ اللهِ وَحْدَهُ لا شريكَ لهُ، ناهِيًا لهم عن عبادَةِ الأَوثانِ، وأنْ يَكُفُّوا عن ظُلْمِ النَّاسِ، وأَخْبَرَهُم أَنَّه لا يُريدُ مِنْهم أجرًا على هذا النُّصْحِ، إنَّما يَبْتَغِي ثوابَهُ من عِنْدَ اللهِ.

ولكنَّهُم لَمْ يَتَّبِعوهُ وأَصَرُّوا على كُفْرِهِم، وقاموا بالاستهزاءِ بهِ، وتكذيبِهِ، كما قالَ تعالَى بعدَ ذِكْرِ قومِ نوحٍ، وما كانَ من أحوالِهِمْ: (وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا ۗ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۚ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَٰكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ) (الأعراف 65 – 68).

 

ورَغْمَ أنَّ عادًا كانوا جُفاةً كافرينَ، عُتاةً يعبدونَ الأَصْنامَ، فقد استمرَّ هودٌ، عليه السّلامُ، يدعوهُم إلَى اللهِ وإلى إِفرادِهِ بالعبادَةِ، وعَدَمِ الإشْراكِ به، ورَغَّبَهُم في طاعَتِهِ واسْتِغْفارِهِ، ووَعَدَهُم – إذا أطاعوا اللهَ تعالَى – بتكفيرِ الذُّنوبِ السَّابِقَةِ، وبالأَمْنِ والرَّخاءِ، والحياةِ الكريمَةِ في الدُّنْيا، وبالجنَّةِ في الآَخرَةِ، وتَوَعَّدَهُم علَى مُخالَفَةِ ذلِكَ بأنَّ اللهَ سيبيدُهُم.

ويَسْتَخْلِفُ قومًا غَيْرَهُم، يعبدُونَه وَحْدَه، ولا يُشْرِكونَ بِهِ، وأنَّ كُفْرَهُم لا يَضُرُّ اللهَ تعالَى، بلْ يعودُ ضَرُهُ عليهِمْ.

فما كانَ من قومِ عادٍ إلاَّ أنَّهم كذَّبوا نَبِيَّهُم في دَعْواه أنَّ اللهَ أَرْسَلَهُ، وخَالفوه وتَنَقَّصوهُ، وادَّعوا أنَّ بعضَ آلِهَتِهم غَضِبَ عليه فأصابَهُ في عَقْلِهِ، فاعْتراهُ الجُنونُ، واعْتَبَرُوا ما يدعوهُم إليهِ من ترْكِ الأَصْنامِ سَفَهًا، وطلبوا من رسولِهِمْ أن يَأْتِيَ لَهُم بمُعْجِزَةٍ بصِدْقِ ما جاءَ بِهِ.

 

كما أخبر تعالَى عنهم: ( قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِن نَّقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ ۗ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ) (هود 53 – 54)، غَيْرَ مُعْتَرِفِينَ بما جاءَهُم به من حُجَجِ اللهِ وبراهينِهِ، عِنادًا وبُعْدًا عن الحَقِّ.

واستَمَرَّ قومُ هودٍ في اتِّهامِ نَبِيِّهِم بالجنونِ والسَّفَهِ، وهَدَّدوهُ بالاعْتِداءِ عَلَيْه، والإضْرارِ بِه. فأجابَهم بما يَدُلُّ علَى عَدَمِ مُبالاتِهِ بِهِم، وعلى وثوقِهِ بِرَبِّهِ، وتَوَكُّلِهِ عليه، وأنَّهم لا يَقْدرونَ علَى شَيءٍ، بلْ اللهُ سبحانَه هو الضَّارُّ النّافِعُ: (إِن نَّقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ ۗ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِن دُونِهِ ۖ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنظِرُونِ) (هود 54 – 55).

 

فتحدَّاهم وآلِهَتَهُم الّتي يزعمونَ أنَّهم يَقْدِرونَ إنِ اسْتطاعوا، ويَسْتَعْجِلوا بِذَلِكَ. وفي هذا إظهارٌ لعَجْزِ أَصْنامِهِم، وعَدَمِ قُدْرَتِها علَى شَيْءٍ، وعَدَمِ المُبالاةِ بها.

وبَيَّن لهم أنَّ الّذي يَعْصِمُهُ مِنْهم هو اللهُ تعالَى، حيثُ قالَ: ( إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم ۚ مَّا مِن دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا ۚ إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) (هود 56).

وقد رَفَضَ قومُ هودٍ دَعْوَةَ نبيِّهم ونصائِحَه، وأَصَرُّوا علَى ما هم عليه من عِبادَةِ الأَصْنامِ وعَدَمِ مُخالَفَةِ آبائِهِمْ وأَسْلافِهم، وقَدْ أَكَّدوا لَهُ أنَّه لا فائِدَةَ من دَعْوتِهِمْ، فَلَنْ يُؤمنوا به، وقالوا لِنَبِيِّهم (كما أَخْبرَ اللهُ تعالَى):(قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُن مِّنَ الْوَاعِظِينَ) (الشعراء 136)، فالنتيجةُ أنَّهم لنْ يَتْرُكوا عِبادَةَ الأَصْنامِ، وتَحَدّوه إنْ كان صادِقًا بأنْ يَأْتِيَهُم بما وَعَدَهُم من العذابِ.

 

فأجابَ اللهُ تعالَى دُعاءَهُ، وبيَّنَ أَنَّهُم سينْدَمون علَى كُفْرِهم باللهِ، وتكذيبِهِمْ لرسولِهِ، كما أَخْبَرَ في مُحْكَمِ التنزيلِ:(قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَّيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ) (المؤمنون 40) فعاقبهم الله بالصيحة على كفرهم به، وعبادتهم للأصنام، واستهزائهم بنبيّهم كما قال تعالى: (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً ۚ فَبُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (المؤمنون 41)

وكانَ عقابُهم بأنَّهم لمّا أَبَوْا إلاَّ الكُفْرَ باللهِ – عَزَّ وجَلَّ – مَنَع عَنْهم المَطَرَ ثلاثَ سنينَ، حتَّى أَجْهَدَهُم ذلكَ، فَطَلبوا السُّقْيا.

وكانوا يطلبونَهُ بِحَرَمِ بيتِ اللهِ تعالَى، بمَكَّةَ المُكَرَّمَةَ، وكانَ معروفًا عندَ أَهْلِ ذَلِكَ الزَّمانِ. فَبَعَثَتْ عادٌ وَفْدًا قريبًا من سبعينَ رَجُلاً إلَى الحَرَمِ المَكِّيِّ؛ لِيَسْتَسْقوا لَهُم عِنْدَه، فَجَلَسوا بِظاهِرِ مَكَّةَ مع معاويةَ بنِ بَكْر، يشربونَ الخَمْرَ، ويَسْتمِعون الغِناءَ، ونَسُوا ما جاؤوا لأَجْلِهِ.

 

وبعدَ مرورِ شَهْرٍ تَذَكَّروا سببَ مجيئِهِمْ، فَدَخلوا مَكَّةَ، ودعا داعِيهم، وهو: قَيْلُ بنُ عَنْز، بأَن يَرْزُقَهم اللهُ تعالَى المَطَر، فأَنْشأ اللهُ سحابًا ثلاثًا، بيضاءَ وسوداءَ وحمراءَ، ثم ناداهُ مُنادٍ من السَّماء، اخْتَرْ لِقَوْمِكَ من هذا السّحابِ.

فقالَ: اخْتَرْتُ هذهِ السحابَةَ السَّوداءَ، فإنَّها أكثرُ السّحابِ ماءً. فناداهُ مُنادٍ من السَّماءِ اخْتَرْتَ رَمادًا رَمْدَدًا، لا تُبْقِي من عادٍ أَحَدَا، ولا والِدًا تَتْرك ولا وَلَدًا، إلاَّ جَعَلَتْه هَمَدًا، إلاَّ بَني الوَذِيَّةِ المُهَنَّدا (وهم عادٌ الآخِرَة).

فلمَّا رَأَوْا سحابًا في السَّماءِ، يَخْرُجُ لَهُم من وادٍ يُقال له: المُغيث، اسْتَبْشـروا، وظَنُّوهُ سُقْيا رَحْمَةٍ، وقالوا: هذا عَارِضٌ مُمْطِرُنا، كما أخبرَ تعالَى: (فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَٰذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا ۚ بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ ۖ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ) (الأحقاف 24).

 

فإذا هو سُقْيا عَذابٍ. فَسَخَّر اللهُ تعالَى عليهم الرِّيحَ سَبْعَ ليال، وثمانيةَ أيامٍ حُسومًا، (والحُسوم أيْ: الدائِمَة)، فلَمْ تَدَعْ من عادٍ أَحَدًا إلاَّ هَلك، واعْتَزَل هودٌ، عليه السّلامُ، هو ومَنْ معه من المؤمنينَ.

وكانَتْ الرِّيحُ تجيءُ إلَى أَحَدِهِم فَتَحْمِلُه، وترْفَعُه في الهواءِ، ثمَّ تُنَكِّسُهُ، ويَسْقُطُ علَى رَأسِهِ، فَتَشْدَخُه، فيبقَى جُثَّةً بلاَ رأس.

فشبَّهَهُمْ اللهُ تعالَى بأَعْجازِ النَّخْلِ الّتي انْقَطَعَتْ رُؤوسُها، قالَ تعالَى: (سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَىٰ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ ) (الحاقة 7).

 

وعادٌ الآخِرَةُ هم بَنو الوَذِيَّةِ المُهَنَّدا من قبيلَةِ عادٍ، الّذينَ أقاموا بِمَكَّةَ ولَمْ يُصِبْهُم ما أصابَ قومَهم، ومن بَقِيَ من أعقابِهم، وهم بَعْدَ إبراهيمَ عليه السَّلامُ.

وأمَّا ثَمُودُ فَهُمْ قبيلةٌ مشهورةٌ باسْمِ جَدِّهم ثَمودَ بنِ عابِرٍ بنِ إِرَمَ بنِ سامٍ بنِ نوحٍ. وكانوا من العَرَبِ، قَبْل إبراهيمَ الخليلِ، عليه السَّلامُ، يسكنونَ الحِجْرَ الّذي بينَ الحِجازِ وتَبوكَ.

وكانوا يَنْحتونَ من الجبالِ بُيوتًا، ويَبْنونَ في السُّهولِ قُصورًا، وكانوا في نِعْمَةٍ وافِرَةٍ. وزَمَنُهم بعدَ قومِ عادٍ، وكانوا يعبدونَ الأصنامَ كأولئك، ولَمْ يعتبروا بما كانَ مِنْ أَمْر عادٍ.

 

فبعثَ اللهُ فيهِمْ رسولاً من قَبيلَتِهمْ، وهو صالِحُ بنُ عُبيد، فدعاهم إلى عبادةِ اللهِ وَحْدَهُ لا شريكَ لَهُ، وأنْ يَتْركوا عِبادَةَ الأَصنامِ ولا يُشْـرِكوا بهِ شيئًا، وأن يقابِلُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْهِم بأنواعِ الرِّزق وبالقُوَّةِ، بالشُّكْرِ والعَمَلِ الصَّالِحِ، والعِبادَةِ لَهُ وَحْدَه لا شريكَ لَهُ.

قال تعالى: (وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا ۚ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ۚ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ) (هود 61).

ولما قامَ صَالِحٌ بِدَعْوتِهِمْ آمنَتْ به طائفةٌ منهُم، وكَفَر أَكْثَرُهُم، كما قال تعالَى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ) (النمل 45).

 

وآذَوْهُ بالمَقال، والفِعالِ، وكذَّبوهُ، واتَّهموه أنَّه من المَسْحورينَ، كما أخبر الله تعالَى: (قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) (الشعراء 153)، وحَسَدوهُ علَى أنَّ اللهَ تعالَى اصْطفاهُ بالنُّبُوَّةِ من بَيْنِهم، فاتَّهموهُ بالكَذِبِ، وقالوا، كَمَا أَخْبَر تعالَى:(أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ) (القمر 25).

وشَنَّعوا عليه مُخالَفَةَ دِين الآباءِ والأجدادِ، ولهذا قالوا:(قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَٰذَا ۖ أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) (هود 62)، وطلبُوا منه أن يأتِيَهُم بآيةٍ تَدُلُّ علَى صِدْقِه، فقالوا له: أَخْرِجْ لنا من هَذِهِ الصَّخْرَةِ ناقَةً – وأشاروا إلَى صَخْرَةٍ مُنْفَرِدَةٍ في ناحيةِ الحِجْرِ، يقالُ لها: الكاتِبَة – وذَكروا أَوْصافَ النَّاقَة.

فقال لهم صالحٌ، عليه السَّلامُ: أَرَأَيتُم إنْ تَحَقَّقَ ما طَلَبْتُموهُ أَتُؤْمنون بِما جِئْتُكُم بِهِ، وتُصَدِّقونِي فيما أُرْسِلْتُ بِهِ؟ قالوا: نَعَمْ. فأخذ عُهودَهُم ومواثيقَهُم على ذلك، ثمَّ لجأَ إلَى اللهِ، وقامَ إلَى مُصَلاَّه، فصلَّى للهِ، عزَّ وجلَّ، ما قُدِّرَ له، ثم دعا ربَّهُ، عزَّ وجلَّ، أن يجيبَهم إلَى ما طَلَبوه.

 

فأمرَ اللهُ تعالَى تلكَ الصَّخرَةَ أن تَنْفَطِرَ (أيْ: تَنْشَقَّ) عن ناقَةٍ عظيمَةٍ عَشْـراءَ، أيْ في بَطْنِها جنينُها، علَى الصِّفَةِ التي طلبوها، اختبارًا من اللهِ تعالَى لَهم أَيُؤْمنون به، أم يَكْفُرون. قالَ تعالَى: (إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَّهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ) (القمر 27)

فَتَحَرَّكَتْ الصّخرةُ، ثم انْصَدَعَتْ عن ناقةٍ جَوْفاءَ، أيْ: عظيمةٍ، عليها وَبَرٌ يَتَحَرَّكُ جنينُها بَيْنَ جَنْبَيْها، كما وصفوها. وكانَتْ خَلْقًا هائِلاً، ومنظَرًا رائِعًا، إذا مَرَّتْ بأنعامِهِمْ نَفَرَتْ منها. فلما رَأَوْا ذَلِكَ، آمن كثيرٌ مِنْهُم، واسْتَمَرَّ أكثرُهم علَى كُفْرِهِم وضلالِهِم وعِنادِهِم.

وأقامَتْ النَّاقَةُ وفصيلُها – بَعدَ ما وَضَعَتْه – بَيْنَ أَظْهُرِهم مُدَّةً من الزَّمَنِ تَشْـرَبُ من ماءِ القَرْيَةِ يومًا، وتَدَعُه لَهُمْ يومًا. كانوا يَشْربونَ لَبَنَها يومَ شُرْبِها، ويَحْتَلبونَها، فيملؤونَ ما شاؤوا من أَوْعِيَتِهِمْ وآنِيَتِهم.

 

وأَمَرَهُم صالحٌ، عليه السَّلامُ، أن تَبْقَى هذه الناقَةُ بينَ أَظْهُرِهِمْ تَرْعَى حيثُ شاءَتْ وحَذَّرَهُم من التَّعَرُّضِ لها بوقوعِ العذابِ عَليْهم، فقالَ لهم، كما أَخْبَرَ اللهُ تعالَى:(وَيَا قَوْمِ هَٰذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ) (هود 64)

ومَكَثَتْ مُدَّةً من الزَّمنِ تشربُ ماءَهُم يومًا، ويشربونَ لَبَنَها يومًا. فلمَّا طالَ عليهم هذا الحالُ، اجْتَمَعَ مَلَؤُهُم مِمَّنْ بَقِيَ عَلَى كُفْرِهِ، واتَّفَق رأيُهُم علَى أنْ يَذْبَحوا هذه النَّاقَةَ لِيَسْتريحوا مِنها، ويتوافَرَ لهم الماءُ كلَّ يومٍ.

وزَيَّن لهم الشّيطانُ أَعْمالَهُم وَحثَّهم علَى قَتْل النَّاقَةِ، فانْطَلَق تِسْعَةُ رجالٍ من ثَمودَ، وحَسَّنوا لِبَقِيَّةِ القَبيلَةِ ذَبْحَها، فأجابوهم إلَى ذلِكَ وطاوعوهم. فانْطلقوا يَرْصدونَ النَّاقَةَ، فلمَّا خَرَجَتْ من مكانِ شُرْبِها، رماها رئيسُهم بِسَهْم، فأصابَ عَظْمَ ساقِها، فَسَقَطَتْ إلَى الأَرْضِ، ثم ابْتَدروها بأسْيافِهِم يُقَطِّعونَها، فَلَمَّا عايَنَ ذَلِكَ وَلَدُها شَرَدَ عَنْهُم، في أَعْلَى الجَبَلِ، فاتَّبَعوهُ وعَقَروهُ.

 

ولما وَقَع مِنْهم ذَلِكَ، اسْتَحَقّوا عذابَ اللهِ، وقالَ لَهُم صالحُ، عليه السَّلامُ:(فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ۖ ذَٰلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ) (هود 65).

فلم يُصَدّقوه أيضًا في هذا الوَعْدِ الأكيدِ، بَل لمَّا أَمْسَوْا هَمُّوا بقتلِ نبيِّهم صالحٍ، عليه السَّلامُ، وأرادوا فيما يَزْعُمونَ أن يُلْحقُوه بالنَّاقَةِ، فَأرْسَلَ اللهُ، عزَّ وجَلَّ، علَى أولئك النَّفَرِ الّذين قَصَدوا قَتْلَ صالحٍ، عليه السَّلامُ، حِجارَةً رَضَخَتْهُم قَبْلَ بَقِيَّةِ القَوْمِ.

وأَصْبَحَتْ ثمودُ يومَ الخميسِ – وهُوَ اليَومُ الأَوّل من أيّام النَّظرَةِ – ووجوهُهُم مُصْفَرَّةً، كما أَنْذَرهم صالحٌ، عليه السَّلامُ، فلمَّا أَمْسَوْا نادوا بِأَجْمَعِهم: ألاَ قَدْ مَضَى يومٌ من الأَجَلِ.

 

ثمَّ أصبحوا في اليومِ الثاني من أيّام التَّأْجيل – وهو يومُ الجُمْعَةِ – ووجوهُهم مُحْمَرّة، فلمّا أَمْسَوْا نادوا: ألا قد مَضَى يومان من الأَجَلِ.

ثمَّ أصبحوا في اليوم الثّالِثِ من أيّام الأَجَلِ – وهو يومُ السَّبْتِ – ووجوهُهم مُسْوَدَّةٌ، فلمَّا أَمْسَوْا نادوا: ألا قَدْ مَضَى الأَجَلُ.

فَلَمَّا كانَتْ صبيحةُ يومِ الأَخْذِ والعِقابِ – وهو يومُ الأَحَد – تَأَهَّبوا وقَعَدوا يَنْتظرونَ ماذا يَحِلُّ بِهِم من العَذابِ، فَلَمَّا أَشْرَقَتْ الشَّمْسُ جاءَتْهُم صَيْحَةٌ من السَّماءِ مِنْ فوقِهِمْ، ورَجْفَةٌ شديدةٌ من أَسْفَلَ مِنْهم، فَفَاضَتْ الأَرْواحُ، وزَهَقَتُ النُّفوسُ، فأَصْبَحوا في دارِهِم جُثَثًا، لا أرواحَ فيها ولا حراكَ بِها. فخاطبهم صالحٌ، عليه السَّلامُ، بعد هلاكِهِم، وقَدْ أَخَذ في الذَّهابِ عَنْ ديارِهِم إلَى غيرها قائلاً لهم:(فَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَٰكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) (الأعراف 79).

 

وقَدْ مَرَّ رَسولُ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم، علَى دِيارِهِم ومساكِنِهِمْ، وهو ذاهِبٌ إلَى تَبوكَ سنةَ تِسْعِ من الهِجْرَةِ، ونَزَل رَسولُ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم،  بالنَّاسِ عندَ بيوتِ ثَمودَ، فاسْتَقَى النَّاسُ من الآبارِ الّتي كانَتْ تَشْرَبُ منها ثَمودُ، فَعَجنوا مِنْها، ونَصَبُوا لَها القُدور.

فَأَمَرَهُم النبيُّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم، فسَكَبُوا ما في القُدور، وعَلَفوا العَجينَ الإبِلَ، ثمَّ ارْتَحَلَ بِهم، حتَّى نَزَلَ بِهِمْ علَى البِئْرِ الّتي كانَتْ تَشْرَبْ منها النَّاقَةُ، ونَهاهُم أنْ يَدْخُلوا علَى القَوْمِ الّذين عُذِّبوا، وقالَ: «إنِّي أَخْشَـى أن يصيبَكُم مثلُ ما أصابَهُم فلا تَدْخُلوا عَلَيْهم».

[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى