العلوم الإنسانية والإجتماعية

أمثلة على علماء تحلّوا بصفتي الصبر والمثابرة

1997 قطوف من سير العلماء الجزء الثاني

صبري الدمرداش

KFAS

علماء تحلّوا بصفتي الصبر والمثابرة العلوم الإنسانية والإجتماعية المخطوطات والكتب النادرة

لعل من أهم ما يميز العلماء في جملتهم تحلَّيهم بشيمة الصبر والمثابرة، يحدوهم الأمل في أنها ضريبة الإنجاز في النهاية وسُلَّمه الذي يرقى بالعلم ويسعد  البشرية. ولنضرب لذلك الأمثال :

من معلمي الإنسانية، نذكر أرسطو، أنجز ما يقرب من مائتي كتاب أخذها من كتاب الكون المفتوح، نحتها نحتاً من جسم الطبيعة بأدوات فكره ومداد صبره. فأي وقتٍ أخذ وأي جهدٍ بذل؟!

والفارابي مذ حداثته وهو قارئ نهم، لا يكل ولا يمل، قرأ كتاب "النفس" لأرسطو مائة مرة! و "السماع الطبيعي" له أيضاً أربعين!،  غوَّاصاً في بحر العلم اللُّجِّي، باحثاً عن لآلئه وصدفاته بكل همَّةٍ وعزمٍ وتفانٍ وإخلاص .

وها هو ابن سينا يطلب من النائلي، أستاذه، أن يُعلّمه من لدنه علماً، راجياً إليه ألا يشفق عليه ويحنو بل يقسو ويشق! . ويومه، في نهاره وليله، قسمةٌ بين أستاذيه الزاهد والنائلي ومجالس العلماء.

كل هذا وهو غض الإهاب لم يتعدَّ الصبا! وقد قرأ "ما وراء الطبيعة" لأرسطو أربعين مرة حتى حفظه، ولما عَسِرَ عليه فهمه يسرَّ الله له هذا الفهم بقراءته كتاب ابتاعه من دلاّل ! .

 

واذكر في العباقرة الأفذاذ نيوتن، حرصه على الوقت حرصه على حياته! ولِمَ الترويح، وكل ساعة لا تُصرف في بحثٍ أو درس إنما هي هباءٌ هباءٌ؟! حتى في مأكله، قليلاً ما يأك ، وعلى عجلٍ غير جالسٍ إلى مائدة وإنما واقفاً ! .

وإديسون العمل عنده مقدَّس يجبُّ مسرَّات الحياة وتلاهيها. ومع أن بيته بالقرب من معمله فلم يكن يبرح الأخير لأسبوعين متتاليين يتناول خلالهما الطعام من نافذة!

وحتى قبيل مرضه الأخير كان شغله في اليوم ثلثيه، ست عشرة ساعة، طعامه فيها كسرة خبز وقطعة من سردين وكوب من لبن!

وطار نومه أياماً أربعة بلياليها وهو يجري التجارب لعمل المصباح الكهربائي. وهو بين خيار الموت أو النجاح، فكان النجاح .

 

واذكر في بناة الأكوان هرشل. فإذا كان رصد سديم من السُّدم يعد مألوفاً الآن، فإنه لم يكن كذلك قبل قرنين من الزمان. فقد حاول عالمنا وفشل مائتي مرة قبل أن يظفر برصده الجبار!

وذاب في العمل، وقته له كله وحماسه، فلم يغادر ورشته لتناول طعام وإنما أخته إلى جانبه تدسه في فمه وهو قائمٌ يعمل! وإذا أقبلت ليلة صفا أديمها ، في شتاء أو صيف جفاه مرقده طالما رؤية النجوم فيها بالإمكان ! .

ولابلاس ، الذي قضى في إعداد كتابه الشهير "حركة الأجرام السماوية" نحو ستةٍ وعشرين عاماً باحثاً وجامعاً وناقداً ! .

 

واذكر في غُزاة الذرة دالتون: ظل خمسين كاملة من السنين يواظب فيها، الليلة تلو الليلة، على تسجيل تقاريره عن الجو، لا يفتر ولا يتراخى، حتى صار لديه نحو مائتي ألف تسجيل – صبر أيوب ! .

وعشرين عاماً قضاها مندلييف يقرأ كل ما عُرف عن العناصر ويُجري التجارب ويستخلص النتائج ويُصدر الأحكام .

عملٌ في عملٍ كله ضنىً تخور دونه الهمم وينهد عزم الرجال. وكذلك ابن وافد في تصنيفه كتابه "الأدوية المفردة" جامعاً وباحثاً وناقداً ! .

 

واذكر في مكتشفي الحياة ابن النفيس حيث تراه يُركَّز فيما يكتب، ويتفانى فيما يعمل ناسياً قدح الماء حين يظمأ ومتجاهلاً طبق الطعام، حتى تنتابه عضةٍ من جوع ! .

ومكث هارفي اثني عشر عاماً يبحث ويُنقِّب ويشرح ويحقق ويُراجع ويُدَقِّق ، حتى خرج .. خرج بماذا ؟ كتيب قصرت صفحاته، اثنتان وسبعون، واستدقت كلماته، أودعه نظريته في  الدورة الدموية!.

ورحلة طويلة، لسنواتٍ خمس، محفوفة بالمخاطر والمكاره حتى لكادت أن تنتهي قبل أن تبدأ! قام بها داروين ليقرأ من خلالها لغة الطبيعة في جزر جالا باجوس، ويعود منها مريضاً منهكاً. ورغم المرض والتعب عكف عشرين عاماً يُجمِّع ويُصَنِّف ويستقرئ ويستبنط ويقدم ويحجم، حتى كان مؤلَّفه الشهير والكبير "أصل الأنواع" .

وقد اهتدى مندل إلى نتائجه بعوامل ثلاثة: في مقدمتها مثابرة دائمة وصبر جميل، حيث استمر يزاوج ، في سبع سنين، بين أكثر من 21 ألف نبات! .

 

ومن قاهري الأمراض: جنر. ويمكن أن ندرك مدى صعوبة كشفه التلقيح ضد الجدري إذا علمنا بفشل كل من تصدَّى له قبله، كما أنه استغرق منه هو سنواتٍ ثلاثين من العمل الدؤوب والصبر والمثابرة !

وأستاذ الصابرين: باستير، يعطينا دروساً في الصبر. فقد كال له زارعو التوت اللعنات وألصقوا به وبسمعته التُّهم والإهانات، ولم يكن موقفه منهم غير الصبر.

وقد أُضيفت إلى مُعاناته في هذا الموقف كوارث تفت عضد الرجال، فقد مات له ولد تبعه ثانٍ فثالث. المسيرة لا بد لها من دافع، ولِمَ الوقوف؟

لا شيء غير الصبر. قائمٌ غير نائم ثلاثة أرباع اليوم، ثماني عشرة ساعة متواصلة، في مُناخ تُخضِّبه الخصومة، وتُعتِّمُه الوفاة، ويُكَّدرهُ المرض.

فقد أصابته نوبةٌ من شلل ولما استيأس منه الأطباء خلصوا نجيَّا. وتلك ثورةٌ أخرى، من تجار بيض ديدان الحرير هذه المرة، فكيف يعالج مرضاها وفي ذلك كساد لبضاعتهم وبوار، بل هو لهم الخُسران المبين!. فكادوا له وكالوا، وتحاملوا وتطاولوا، ولكنه صبر حتى ظفر! .

 

وإذا أبصرت روس وجدته رابضاً صامتاً فاحصاً بعوضة تحت مجهر، باحثاً عن طفيلي الملاريا في إحداها. عمل مضنٍ لا سند له غير قوة الجبارين وصلابة الصابرين.

فالجو حار شديد الحرارة، رطبٌ مشبعُ الرطوبة، وحرامٌ عليه أن يستعين بمروحة تُلطِّف من قيظ أو تُنعش من ضيق، وأنَّى له بها وهواؤها ينثر قطع البعوض الرقيقة ويجعل ما يعمل سُدى.

ومحتومٌ عليه أن يقضي ساعتان في تشريح بعوضة ، كل بعوضة، بينما "أخواتها" كن له بالمرصاد، هجوم بلاهوادة. وظل صابراً ومثابراً حتى أتم فحص .. ألف بعوضة! .

 

ومن رواد الفيزيقا نذكر أرشميدس. كانت الهندسة له هواية وغواية، حتى أنه أهمل من أجلها أمر استحمامه بل وطعامه وشرابه ! .

ونرى الإمام فخر الدين الرَّازي يمشي وفي ركابه ثلاثمائة من حوارييه. فالوقت عنده عزيز وعليه استغلاله ، فقد يخرج بما فيه نفع ، بل يتأسّى لضياع بعضه في أكل. "والله إني لأتأسّى في الفوات عن الاشتغال بالعلم في وقت الطعام، فالوقت لغالٍ عليَّ عزيز!" .

ومن رواد الكيمياء، يحار الإنسان عندما يعرض لمؤلَّفات ابن حيان: مائة واثنتا عشرة مقالة في صنعته ، الكيمياء ، وسبعون أُخر بها مذهبه في تلك الصنعة ، واربعون في علم الموازين، فضلاً عن خمسمائة مسألة. من أين له بالصبر والمثابرة، بل من أين له الوقت والجهد؟! .

 

ويوماً كاملاً كل أسبوع، كان على لافوازييه أن يقضيه في معمله غير مبارحٍ ولا مُغادر. وفي فرنه الكيميائي عليه أن يقضي ربع اليوم، ساعات ست، في ظروفٍ غير مواتية، غذاءه فيها خبز ولبن كسباً للوقت.

قسا على نفسه، متجاهلاً نصح من نصح بأن سنة واحدة تزيد في عمره لهي خيرٌ له وأبقى من مائة مثلها في ذاكرة التاريخ . وكم صبر وصابر في رحلته مع أستاذه جيتار، حتى ولولت عليه عمته خشية السقوط من إجهاد . وتطول الأمثلة وتطول ، حتى ليكاد ينفذ "صبرنا " من سردها!.

وتبقى الحقيقة السَّاطعة، العالم الناجح، صابرٌ مثابر، فالكشوف العظيمة تتطلَّب همة عظيمة، والنجاح الباهر لا بد له من صمود في وجه الفشل المتكرر . وكانت هذه الميزة ظاهرة تماماً لدى بعض العلماء.

فداروين، يقول عنه ابنه: إن صبره تخطى حدود المثابرة المألوفة، بالغاً حدَّ العناد! . ويكمن السر فيما أصاب باستير من إنجاز، كما يقول هو عن نفسه، لا في نبوغه فحسب بل في جلده وقدرته الفائقة على تحمل المكاره .

 

والسؤال: ما الذي يجعل العلماء يصبرون ويثابرون ويصرون ويصمدون ؟ .

لنستمع إلى أصحاب الشأن أنفسهم . يقول أحدهم : "من ذاق متعة الابتكار مرة فلن ينساه بالمرة".

ويقول باستير : "عندما ندرك اليقين، بعد طول عناء، فإننا نحظى بمتعة يعز أن تشعر النفس البشرية بمثلها" . ويقول برنار : "متعة الكشف من أبهج المتع التي يستطيع الإنسان أن يحسّها " .

وكتب جنر، معبِّراً عما شعر به من زهو بعد أن أفلح في أن يعصم الناس من شر الجدري بالتطعيم : "كانت غبطتي طاغية وسروري عظيماً، وكنت أهيم في بحرٍ من الشرود الحلو، وأحلِّق في عالم من أحلام اليقظة، وكيف لا وقد وفقت في إزالة نكبة من أقسى النكبات التي يُمنى بها الجنس البشري" .

 

وها هو والاس يصف مدى انفعاله عندما تمكن في النهاية من اقتناص نوع جديد من الحشرات كان يبحث عنه : "كان انفعالاً عظيماً نجم عن سببٍ قد يراه الآخرون أكثر من تافه!" . إنها المتعة والنشوة إذن هما اللذان يدفعان العالم إلى الصبر والمثابرة والمحاولة ثم المحاولة .

ولكن، للأسف يفرض نفسه، إن حالات الفشل وصولاً إلى الضالة المنشودة تفوق حالات النجاح بكثير.

وقد كتب كلفين في هذا الخصوص يقول : "هناك كلمة واحدة تصف الجهود التي صبرت وثابرت على بذلها من أجل تقدم العلم وتطويره زهاء خمسين عاما، والكلمة هي الفشل!" .

 

ويضيف فاراداي : "في أنجح الحالات وأكثرها توفيقاً لا يتحقَّق من الآمال المعقودة أكثر من عُشْرِها!".

لذا حريَّ بالعالِم المبتدئ أن يُدرك، في وقتٍ مبكر، أنه لا يمكنه جني ثمار عمله بسهولة، وإنه إن أراد النجاح فعليه أن يتحلى بالصبر وأن يتذرَّع بالمثابرة .

ونسوق، في الختام، مثلاً في صبر الصابرين، قد يكون من أظهر الأمثلة في تاريخ الكشف العلمي عامة وعلاج الأمراض خاصة .

 

والصابر هنا هو بول إيرليش. لقد طرأت عليه فكرة : لما كانت بعض الأصباع تصبغ أنواعاً بعينها دون غيرها من البكتيريا والأوليات (البروتوزوا)، فقد يكون من الممكن إيجاد مواد تمتصها هذه الطفيليات بطريقة انتقائية فتقتلها هي دون ما إتلافٍ لخلايا العائل.

وآمن بالفكرة، وكان إيمانه هذا قوةً دافعة مكنته من الصمود في وجه الفشل المتلاحق والإخفاق المتكرر ونصيحة محبيَّه بالتخلَّي عن سرابٍ لا يُدرك .

ولم يُصادف نجاحاً بعد طول عناء إلا حينما وجد أن "حُمرة التريبان" لها بعض الفاعلية ضد الأوليات. وقاده كشفه هذا إلى مزيد من البحث في الاتجاه نفسه، حتى اهتدى إلى مادة فعَّالة هي "السلفارسان" وهي بمثابة مركب زرنيخي له أثره في علاج مرض الزهري.

ومما هو جدير بالذكر أن ننوَّه هنا بالصبر والمثابرة اللتان اتصف بهما هذا العالم في اختباره لفكرة آمن بها حتى توصّل إلى كشفه الهام، إذ كان رقم المادة التي توصّل إليها هو السادس بعد الستمائة في مجموعة المواد التي جرَّبها!! .

[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى