التاريخ

التضحيات التي قدمها العالم “فاراداي” في سبيل العلم

1997 قطوف من سير العلماء الجزء الثاني

صبري الدمرداش

KFAS

فاراداي فارادي وتضحياته في سبيل العلم التاريخ المخطوطات والكتب النادرة

بين العلم … والمال

كان الاستاذ تيندال يتحدث يوماً مع فاراداي في موضوع المقارنة بين العلم والمال.

فقال فاراداي أنه في مرحلة معينة من حياته اضطر فعلا إلى الاختيار بين وقف حياته على العلم أو الإنصراف إلى جمع الثروة . ومما يكللُّه بالفخار أنه حذا حذو معلمه ديفي ، إذ لم يتردَّد في اختيار العلم. ولهو حقاً اختيار نبيل.

والأرقام وحدها تنطق من غير أن نستنطقها: فقد كان دخل فاراداي من استشاراته الفنية في عام 1831 يزيد على ألف جنيه في السنة، ولكنه سرعان ما هبط في العام التالي إلى 155 جنيها فقط عندما يمَّم وجهه صوب العلم !.

حقاً كم أسفرت مباحث العلماء، من أمثال نيوتن وديفي وفاراداي، عن أعمالٍ لا تقدر بمال ولكنهم هم كانوا به غير أغنياء!. وكم كان لمكتشافتهم، من غير أن يقصدوا، تطبيقات عملية لا تقدر بمال، ولنضرب لذلك الأمثال…

 

إن إحداث فاراداي للتيار الكهربائي في لفَّة من سلك عند إمرارها في مجال مغناطيسي، قد بُنيت عليه جميع الصناعات الكهربائية.

وفي الولايات المتحدة وحدها عشرات الملايين من العمال الذين يعملون في الصناعات الكهربائية المختلفة واجدين بذلك من العدم ثروة لهم ولأمتهم .

ولولا مباحث فاراداي وكشفه هذا، من كان يستطيع أن يصنع محرّكاً كهربائياً أو مولّداً كهربائيا أو محوِّلاً كهربائياً؟ .

وقد قال "مليِّكان" : " إنه إذا أزلنا من العمران الحالي قانوناً رياضياً واحداً من قوانين نيوتن، لوجب أن نُزيل كل آلة بخارية وكل سيارة بل وكل آلة تستعمل لتحويل الطاقة إلى حركة، لأنها بنيت جميعها على ذلك القانون الرياضي الشامل.

 

ومع ذلك لم يكن قصد نيوتن مما كشف استنباط محرك أو سيارة أو طيارة، ولكن مع هذا بُنيت جميع المستنبطات على أساسه. فإذا أزلناه انهار عمراننا كأنه بيت من ورق! " .

وقال هكسلي : " إنه لو أراد فاراداي أن يستخدم مواهبه في كسب المال لجمع ثروة لا تقل حينئذ عن ثلاث أرباع المليون من الجنيهات" .

ولكن فاراداي، كما قدّمنا كان يختار دائما الاختيار النبيل، العلم. وكان كلما كشف عن حقيقة أساسية من حقائق الطبيعة ترك تطبيقها لغيره من الباحثين، وله في ذلك نوادر مشهورة ومأثورة.

 

كان ذات مرة يجرب تجربة كهربائية في الجمعية الملكية، وبعدما شرحها التفتت إليه سيدة بدهشة لا تخلو من سخرية : "لكن يا مستر فاراداي ما فائدة ذلك؟ "

فأجاب " أتستطيعين أن تقولين ما فائدة الطفل ساعة ولادته؟" كما سأله "جلادستون" الشهير مثل هذا السؤال فأجاب: "صبراً سيدي، لعل الحكومة تجني من ورائه مالاً وفيراً " .

 

من أجل … عينيه !

نعم لقد كان عالمنا دائماً مع الاختيار النبيل، مع العلم .

وكان نبوغه في ميداني الكيمياء والكهرباء قد أدهش انجلترا كلها. وكانت المحاكم لا تكف عن طلب خدماته كخبير فني.

وقد استجاب لهذه الطلبات فترة قصيرة وكسب من ذلك مالاً كثيراً مقابل شهاداته الفنية. وكان من الممكن – كما نصحه زملاؤه – أن يكسب المزيد ، بيد أنه نفض يديه من ذلك الموضوع تماماً حتى يكون حراً في متابعة بحوثه العلمية.

وحدث في عام 1827 أن آتته فرصة أخرى للنجاح الدنيوي، فقد عرض عليه كرسي أستاذية الكيمياء في جامعة لندن، ولكنه رفض هذا العرض – رفضه ليس تعالياً وإنما لأن بحوثه العلمية في المعهد الملكي كانت تتطلب كل وقته وجهده.

 

ومن طريف ما يذكر أن مرتبه في المعهد الملكي آنذاك .. كم يا ترى؟ إنه رفض كرسي الأستاذية بجامعة لندن حيث المال الوفير والمركز المرموق، إذن فلا بد وأن يكون مرتبه في المعهد كبيراً جداً – كلا إنه مائة جنيه في العام! يا له من مرتب تافه لأعظم المكتشفين في عصره.

ولكن على العموم فقد كان ذلك هو كل ما يستطيع مديرو المعهد الملكي أن يدفعوه نظراً لعدم كفاية مواردهم المالية، وفي ذلك كانوا يقولون: " إننا نعيش على ما يمكننا بشره من جلودنا!" .

كانت تلك إذن تضحية كبيرة من فاراداي من أجل العلم . وكان يتحملَّها بنفس راضية وسرورٍ عظيم، ذلك أنه لم يكن يعتبر نفسه شهيداً وإنما كان يستمتع بكل ما في حياته من بساطة وبما فيها من اكتشافات سارة، وكان يحب التسلية واللهو كما يحب الكدح والعمل.

 

وكانت تسليته ولهوه تتمثلان في المسارح وسباق الخيل وحفلات الرقص، وقد ذهب مرة إلى حفلة رقص تنكرية وهو يرتدي جلباب نوم وطاقية! . كما تتمثل في الرحلات القصيرة بين حينٍ وآخر إلى الريف لحضور مهرجانات تقشير الذرة أو جز الأغنام! .

وهكذا نرى فاراداي متجولاً رشيق الخطى في معمل الحياة الواسع، مثل طفلٍ صغيرٍ لعوبٍ مفكرٍ دقيق الملاحظة .

وكان قصره واضحاً،  ولكنه ثابت العزيمة متين البنيان. وكان شعره البني مفروقاً من الوسط تغطيه قبعة صنعت خصيصاً من أجله لأن رأسه كانت مستطيلة من الأمام للخلف بصورة غير عادية، وكان صوته رناناً وفمه واسعاً يدل على الشهامة .

وكانت الفكاهة تطل من عينيه والضحك يملأ قلبه . هل يا تُرى تنطبق بعض هذه الصفات على قصار القامة؟.

[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى