الفيزياء

أمثلة عملية متعددة تبين الصعوبة في تفسير مجريات ظواهر الطبيعة

1997 عجائب الضوء والمادة تجريباً وتأويلاً

KFAS

ظواهر الطبيعة الفيزياء

هاكم الآن ثالثة المحاضرات الأربع المخصصة لنظرية الأكتروديناميك الكمومي، ذلك الموضوع الصعب.

ولما كنت أرى بوضوح ، هذا المساء، حضور جمهور أكبر من ذي قبل، أستنتج أن فيكم أناساً لم يكونوا هنا في المحاضرتين السابقتين ولن يفهموا شيئا مما سوف أقوله اليوم.

أما أولئك الذين أصغوا حقا إلى المحاضرتين الأوليين فسيجدون في فهم محاضرة اليوم صعوبة لا تقل عن ذي قبل، لكنهم يعلمون أن ذلك شيء طبيعي: ذلك أن طريقتنا في وصف الطبيعة هي ، كما ذكرت في المحاضرة الأولى ، طريقة غير مبررة عموماً.

أريد أن أتكلم  في هذه المحاضرات عن الميدان الذي نعرفه أحسن معرفة في الفيزياء، ألا وهو التفاعل بين الضوء والإلكترونات.

فمعظم ما هو مألوف لديكم من ظواهر ناجم عن هذا التفاعل بين الضوء  والإلكترونات – تلك مثلا ،  حال مجموعة الظواهر الي تدرس في الكيمياء والبيولوجيا (علم الحياة).

 

ولا تشذ عن هذه النظرية سوى ظواهر الثقالة والعمليات النووية، أما كل الباقي فمن اختصاصها. كنا، في المحاضرة الأولى، قد شعرنا بالحاجة إلى آلية مرضية توضح لنا كيفية حصول الظواهر، ولو أبسطها، كالإنعكاس الجزئي للضوء عن الزجاج. كما نفتقد أيضا طريقة للتنبؤ عما إذا كان الفوتون سينعكس عن الزجاج أو سينفذ فيه.

وكل ما نستطيع عمله هو حساب احتمال أن يقع الحادث المقصود، أي الانعكاس هنا (إن هذا الاحتمال يساوي 4% عندما يصل الضوء عموديا على سطح الزجاج، وهو يزداد إذا كانت زاوية السقوط على الزجاج مائلة).

إن الاحتمالات العادية تستجيب ل ((قاعدتين التركيب)) التاليتين: 1) إذا كان الحادث ممكن الوقوع بأساليب عديدة متاحة، نجمع احتمالات كل واحد من هذه الأساليب (البدائل) ؛ 2) إذا كان الحادث يقع في نهاية مراحل متوالية، أو إذا كان وقوعه يتعلق بعدد من الشروط المستقلة، عندئذ نضرب معاً احتمالات كل مرحلة من المراحل، أو كل شرط من الشروط، الضرورية لوقوع الحادث.

إننا، في عالم الفيزياء الكمومية الممتع والمزخرف، نحصل على قيمة الاحتمال بحساب مربع طول سهم : فحيث نتوقع، في الظروف العادية، أن نجمع الاحتمالات نلجأ إلى ((جمع)) أسهم ، وحيث نضرب الاحتمالات ، نلجأ إلى " ضرب " أسهم .

 

لكن الأجوبة العجيبة  التي نحصل عليها من حساب الاحتمالات بهذه الطريقة تتفق تماماً مع النتائج التجريبية. هذا وإن وجوب اللجوء إلى قواعد ومحاكمات على هذه الدرجة من الغرابة، كي نفهم الطبيعة، لما يغمرني بالسرور ويحبب إلي أن أتحدث عنه إلى الناس.

وليس وراء هذا التخيل للطبيعة آليات خفية أخرى؛ فهاكم اليوم ما يجب أن تتقبلوه إذا أردتم فهم صاحبة الجلالة ، هذه الطبيعة!.

أحب أن أريكم ، قبل أن أدخل في صلب الموضوع،  نموذجاً آخر لسلوك الضوء. وأريد أن أتكلم عن ضوء ضعيف جدا – ليس اكثر من فوتون واحد في كل إصدار – وذي لون واحد صاف. (شكل 49).

 

أضع بين المنبع S والكاشف D حاجزاً فيه ثقبان صغيران جدا ، A و B ، المسافة  بينهما بضعة مليمترات (إذا كانت المسافة بين المنبع والكاشف قرابة متر واحد، يجب أن لا يزيد قطر الثقب عن عُشر الميليمتر) لنضع A على استقامة DS ، فالثقب ليس على المستقيم DS.

إذا أغلقنا الثقب B نحصل على ((تكات)) في D تمثل الفوتونات التي مرت عبر الثقب A (لنقل إن الكاشف يصدر ((تكة)) مرة واحدة في المتوسط من أجل كل 100 فوتون تصدر تباعاً عن المنبع، أي في 1% من عدد الفوتونات الصادرة في كل اتجاه) .

وعندما نغلق A وتفتح B تعلمون ، منذ المحاضرة الثانية، أن صِغر الثقبين يجعل عدد التكات الوسطى مساوياً أيضا 1%. (عندما نُجبر الضوء على سلوك ممر ضيق جدا ، كما رأينا في تجربة الشكل (34) ، فإن  قوانين الضوء التقليدية – كذهاب الضوء في خط مستقيم – تصبح باطلة)، لكننا، عندما نفتح الثقبين معاً،  نحصل على نتيجة معقدة،  بسبب التداخل INTERFERENCE الذي يحدث: إذ، من أجل فاصل معين بين الثقبين، نحصل على تكات أكثر من الـ 2% المتوقعة (نسبتها العظمى 4% تقريبا) ، وإذا غيرنا قليلاً هذا الفاصل يصمت الكاشف تماماً.

إن ما يحق لنا أن نتوقعه هو أن يؤدي فتح الثقب الآخر، في كل الأحوال، إلى مزيد من الضوء القادم إلى الكاشف، لكن هذا لا يحدث في الواقع  فمن الخطأ إذن أن نقول بأن الضوء يمر ((من هذا الطريق أو ذاك))  وما زال يُفلت مني أن أقول جملاً من قبيل: ((إنه يمر من هنا أو هناك)) ، لكن من المهم أن تتذكروا أنني، بهذا القول، أقصد وجوب جمع السعات (الأسهـم) : إن للفوتون سعة للمرور من هذه الجهة وسعة للمرور من الجهة الأخرى. وإذا تعاكست السعتان فإن الضوء لا يذهب إلى الكاشف ولو كان الثقبان مفتوحين معاً.

 

وإليكم الآن أيضاً،  من غرائب الطبيعة، تصرفاً آخر أحب أن أحدثكم عنه تصوروا (شكل 50) أننا وضعنا كاشفين من نوع خاص– واحداً في A والآخر B – يسمحان بتحديد الثقب الذي يمر منه الفوتون عندما يكون الثقبان مفتوحين (يمكن صنع كاشف يعلن عن مرور الفوتون به) ولما كان احتمال أن يذهب الفوتون من S إلى D شكل (50) متعلقاً بالمسافة بين الثقبين، فإن على الفوتون أن يجد في الخفاء طريقة للإنقسام إلى نصفين يعودان بعدئذ إلى الالتحام.

هل توافقون؟  في هذه الفرضية يجب على الكاشفين، عند A و B، أن ((يتكا)) معا على الدوام (ربما نصف عدد المرات؟)، في حين أن الكاشف D ((يتك)) باحتمال يتراوح بين الصفر و 4% بحسب المسافة بين A وB.

لكن الذي يحدث في الواقع هو ما يلي: إن الكاشفين ، عند A و B، لا ((يتكان)) أبداً معاً، إما أن ((يتك)) A أو ((يتك)) B. إن الفوتون لا ينقسم إذن؛  بل يمر من هذه الجهة أو من تلك.

زد على ذلك أن الكاشفات D ، في هذه الظروف ((يتك)) مرتين في المئة، وهي نسبة تساوي ببساطة مجموع احتمالي أن ((يتك)) A وأن ((يتك)) B (1% + 1%). وهذه النسبة، 2%، لا تتغير بتغير المسافة بين A و B ، أي أن التداخل يزول عندما نضع كاشفاً عند كل من A و B ؛ شيء عجيب! .

 

إن الطبيعة قد تدبرت أمرها جيداً بحيث تمنعنا من معرفة طريقة عملها: عندما نضع أجهزة وظيفتها  أن تتنبأ عن الطريق الذي اختاره الفوتون نحصل على الجواب المنشود، لكن مفعولات التداخل الرائعة تزول! وإذا لم نضع تلك الأجهزة ، أي إذا تخلينا عن معرفة طريق الفوتون ، فإن مفعولات التداخل تعود إلى الوجود! أليس هذا غريباً جداً!؟ .

ولفهم هذه المفارقة أُذكركم جيداً بمبدأ هام جدا : إن الحساب الصحيح لاحتمال الحادث يستدعي بذل عناية كبيرة في التحديد الواضح للحادث بكامله – لا سيما الشروط البدئية والهائية للتجربة. 

فتفحص التجهيزات قبل التجربة وبعدها وما تغير في أثناء ذلك كله. فعندما استهدفنا احتمال ذهاب الفوتون من S إلى D بدون كاشفين في A و B ، كان الحادث ببساطة : الكاشف ((يتك)) مرة واحدة. ولما كان التغير الوحدي في الظروف هو صدور التكة عن D، لم نكن نملك وسيلة لمعرفة الجهة التي مر منها الفوتون وحصل تداخل .

لكننا غيَّرنا ظروف المسألة عندما وضعنا الكاشفين عند A وعند B، فأصبحنا نعالج حالة حادثين كاملين – مجموعتين من الظروف البدئية – وهما متمايزان : 1) الكاشفان، في A و D ((يتكان))  ، أو 2) الكاشفان في B و D ((يتكان)). فعندما يتاح ، في تجربة ما، عدد من الظروف النهائية، يتوجب علينا أن نحسب احتمال كل ظرف وكأنه حادث منفصل كامل.

 

فلحساب سعة أن ((يتك)) الكاشفان في A و D يجب ضرب السهمين المتعلقين بالمرحلتين التاليتين: الفوتون يذهب من S إلى A ، ثم من A إلى D حيث ((يتك)) الكاشف.

وبتربيع السهم الحصيلة نجد احتمال هذا الحادث – 1% – ولا تختلف ظروف هذا الحادث عن الظروف السائدة عندما كان الثقب B مغلقاً، لأن كلا من هاتي الحالتين تنطوي على المرحلتين نفسيهما، ويُحسب احتمال الحادث الآخر بالطريقة نفسها، 1%.

وإذا لم نهتم إلا بتكة الكاشف D فقط، وتخلينا عن معرفة أي الكاشفين، A أم B، ((يتك)) في أثناء ذلك،  نحصل على الاحتمال المنشود بجمع احتمالي الحادثين، فنجد 2%. ولو بقي شيء في الجملة نستطيع رصده، من حيث المبدأ، لنعلم من أي جهة مر الفوتون، نكون أمام حالتين نهائيتين متمايزتين (ظرفين نهائيين مختلفين)، ويجب جمع احتمالي كل من الحالتين النهائيتين، لا جمع السعتين..

لقد أبرزت لكم هذه الأشياء كي تروا أننا كلما ازددنا اكتشافاً لتصرفات الطبيعة ازدادت صعوبة في صنع نموذج يفسر مجريات ظواهرها بصدق، مهما كانت بسيطة. ولذلك تخلى الفيزيائيون عن محاولاتهم بهذا الصدد .

[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى