التاريخ

حفاظ ابن الهيثم على عبقريته رغم الفساد السياسي والفكري الذي شهده

1997 قطوف من سير العلماء الجزء الأول

صبري الدمرداش

KFAS

ابن الهيثم الفساد السياسي والفكري التاريخ المخطوطات والكتب النادرة

ظاهرة فذَّة …. في مُناخٍ غيرُ موات!

فسادٌ في فسادٍ في فساد، ومع ذلك يكون النبوغ!!.

إن الإنسان ليقف مشدوهاً حقاً امام عبقرية ابن الهيثم عندما يتذكر طبيعة العصر الذي عاش فيه.

ففي ذلك العصر البعيد لم تكن هناك مدارس نظامية يتعلم فيها الناس، فلقد كان على كل إنسان طموح أن يعلم نفسه بنفسه، وهو ما فعله ابن الهيثم عندما لجأ إلى كل الترجمات العربية للتراث اليوناني في الطبيعيات والرياضيات والفلك والفلسفة والطب، فدرسها وألَّف منها تصنيفاتٍ عديدة لم تكن مجرد تلخيصاً لما قرأه وفهمه منها فحسب بل تضمنت إضافاتٍ وتصحيحاتٍ ونقداً لبعض آراء السابقين عليه والمتقدمين.

ثم يزداد الإنسان دهشةً عندما يتذكر أن ابن الهيثم قد ولد في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري، ومات بالقاهرة في النصف الأول من القرن الخامس الهجري.

وفي هذا العصر أصيب العالم الإسلامي لأول مرة بالانقسام الكبير الذي لم يلتئم بعده أبداً!!.

 

لقد وقعت بغداد في أيدي الترك ينهبون ويفسدون، وانفصلت فارس وأصبهان والجبل في أيدي بني بويه، ووقعت كرمان في يدي محمد بن إلياس، والموصل وديار بني ربيعة وديار بكر وديار مضر في أيدي بني حمدان، ومصر والشام في أيدي الإخشيديين، والمغرب في أيدي الفاطميين، والأندلس في يد عبدالرحمن الناصر، واليمامة والبحرين في أيدي القرامطة، والأهواز وأواسط البصرة في أيدي البريديم، إلخ.

ووصلت حالة التدهور السياسي إلى قتل الخلفاء في بغداد على أيدي الترك والتمثيل بجثثهم، فإذا طلب الترك من الخليفة أن يخلع نفسه وأبى، خلعوه وسملوا عينيه، وهكذا شوهد الخليفة القادر يسأل الصدقة على باب مسجد!!

إن هذا العصر لم يكن عصر التدهور السياسي فحسب، بل كان عصر التدهور الفكري في معظمه أيضاً، عصر تأجَّجت فيه نيران الخلاف بين الفقهاء والفقهاء، وبين السنة والشيعة، وبين الأغنياء والفقراء، عصر سد باب الاجتهاد في الدين والتحجر الفكري والتعصب الأعمى، وكانت الأحوال الاجتماعية والاقتصادية على أسوأ ما يكون، فالأغنياء يزدادون غنى والفقراء يزدادون فقراً، والمظالم والمصادرات تزداد لملء خزائن الخلفاء والأمراء.

وقد أدى هذا كله في النهاية إلى انتشار ظاهرة التصوف واتساع ظاهرة (الشُطَّار)، أي اللصوص، وإلى انحلال الأخلاق، وامتلاء القصور بالمؤامرات والدسائس، وإلى انتشار مجالس الشرب والقيان وبيوت النخَّاسين، وإلى اتساع نفوذ الخرافات والسحر والتنجيم على أيدي عناصر اتخذت من التصوف ستاراً للتدجيل.

 

ومن الغريب حقاً أنه في تلك الحقبة التي تميزت بكل مظاهر الفساد والانحلال السياسي والتدهور والانحطاط الفكري، استطاع ابن الهيثم أن يحافظ على تفكيره العلمي بصورة تذكرنا بفكر العلماء الأوروبيين في القرن التاسع عشر.

ابن الهيثم إذن كان ظاهرة فذة، شاذة، في مناخ غير موات، وإن كان هذا ليس بالأمر المستحيل، فكم قدَّم التاريخ من أمثلة هذه الظواهر الشاذة التي لا تهدد القاعدة.

فنحن نستطيع أن نتصور عالماً فرداً كابن الهيثم ينكفئ على نفسه يدرس في عزلته ويتعمق مستفيداً من التراث اليوناني وذكائه الخارق، ثم يخرج على الناس بكتاب في أصالة (كتاب المناظر).

لكننا ينبغي ألا ننسى كذلك أن من علامات ذلك العصر الأغبر أن ابن الهيثم قد اضطر هو نفسه إلى التظاهر بالجنون، ليتفرغ للعلم ولينجو من حاكم مجنون!.

[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى