علوم الأرض والجيولوجيا

اسهامات ابن سينا في علم الجيولوجيا

1997 قطوف من سير العلماء الجزء الأول

صبري الدمرداش

KFAS

علم الجيولوجيا اسهامات ابن سينا علوم الأرض والجيولوجيا

يعتبر ابن سينا بمقالتيه المهمتين عن (المعادن) و (الآثار العلوية) المتضمِّنتين في كتابه (الشِّفاء)، واضِع أسس الجيولوجيا العلمية عند العرب.

وتضم هاتان المقالتان عدداً من بحوث علم الأرض وعلم الظاهر الجوية. وقد ظلت المقالتان – وبشهادة سارتون- أساساً لمعرفة الأوروبيين الجيولوجية.

ومن إسهاماته في علم الجيولوجيا في كتاب (الشَّفاء):

 

1-تفسيره لتكون الجبال: حيث أرجع أسباب تكونها إلى عوامل مختلفة منها: الاضطرابات التي تصيب قشرة الأرض كالبراكين، أو بتأثير الماء الذي يقوم بعملية الحت في الأودية.

يقول : (الغالب أنها تكونت – يقصد الجبال – من طينٍ لزجٍ خصبٍ على طول الزمان، تحجَّر في مُدَدٍ لا تُضبَط. فيشبه أن هذه المعمورة كانت في سالف الأيام مغمورة في البحار. وكثيراً ما توجد في الأحجار إذا كسرت أجزاء من الحيوانات المائية كالأصداف وغيرها).

ولم يكتف ابن سينا بمجرد السرد ليثبت فكرة تكون الجبال التي تولَّدت لديه من التأمل والمشاهدة، وإنما أعاد صياغة أفكاره ليصل إلى التعليل العلمي لتلك العوامل الطبيعية اللازمة لعمل الانحفارات في الجبال من جراء الاستمرارية في العمل الطبيعي والزمن الطويل.

وهو ما ينطبق على المفهوم الجيولوجي المعروف – على ما يرى منعم مفلح الراوي في مقالته (المعادن والآثار العلوية لابن سينا وعلاقتها بأسس الجيولوجيا الحديثة) – مذهب اطراد القوى أو مفهوم انتظام العوامل الجيولوجية، وهو المذهب القائل باستمرارية العوامل الجيولوجية، أي أن الذي يحدث من عوامل تجوية ونحتٍ وترسيب، كان يحدث سابقا.

يقول ابن سينا: (إذا تأملَّت أكثر الجبال رأيت الانحفار الفاصل فيما بينهما متولِّداً عن السيول. ولكن ذلك أمرٌ إنما تم وكان في مُدد كثيرة، فلم يبق لكل سيلٍ أثره، بل إنما يُرى الأقرب منها عهداً.

وأكثر الجبال الآن إنما هي الأرضاض والتفتت، وذلك لأن عهد نشوئها وتكونها إنما كان من انكشاف المياه عنها يسيراً يسيراً).

هذا، وقد قدَّم على السكري في كتابه (العرب وعلوم الأرض) تعليقاً مهماً حول نظريات ابن سينا وتفسيره لكيفية تكون الجبال، نذكر بعضاً منه:

 

أ) أرجع ابن سينا تكون الجبال إلى الحركات الأرضية. وقد لاحظ بذكاء تفاوت أجزاء التربة أو الأرض بين اللِّين والصلابة وعلاقة ذلك بتكون الجبال.

ب) أدرك الفعل الميكانيكي للرياح والمياه على التربة من حيث الجرف والتعرية.

ج) أشار إلى تعميق السيول لمجاريها الأولية وتوسيعها مع مرور الوقت (ثم لا يزال ذلك المسيل، فينحفر وينحفر على مر الأيام ويتسع).

د) أدرك أن البحر كان يغمر البر في الأزمان الغابرة، ثم انحسر عنه بطريقةٍ تدريجية.

 

ه) أدرك الحساب الصحيح للزمن الجيولوجي في عملية تكون الصخور الرسوبية (في مُدَدٍ لا تفي التأريخات بحفظ أطرافها).

و) أدرك فكرة تغيرات ما بعد الترسيب، وهي اللازمة لتحويل الراسب إلى صخرٍ، وأعطاها الزمن الذي تستحقه، (والغالب أنها تكونت من طينٍ لزج جفَّ على طول الزمان، وتحجَّر مُدَدٍ لا تُضبط).

ز) استخدم الأحافير البحرية (الأصداف) استخداماً صحيحاً للدلالة على أن أجزاءً من الأرض كان يغمرها البحر في سالف الأزمان (ولهذا يوجد في كثير من الأحجار، عند كسرها، أجزاء من الحيوانات المائية كالأصداف وغيرها).

ح) يبدو أن المقصود بعبارة (استحال الماء إلى حجارة)، نوعٌ من ترسيب المواد الذائبة في الماء، إما بالبخر أو التركيز أو بفعلٍ كيميائي. فإن صحَّ التفسير، يكون ابن سينا قد ميَّز بين نوعين من الترسب: ترسب كيميائي (وهو الذي يستحيل فيه الماء إلى حجارة)، وترسب ميكانيكي حيث يقول (وكثرة ما فيها من الحجر لكثرة ما يشتمل عليه البحر من الطين ثم ينكشف عنه).

 

ط) أصاب ابن سينا في حديثه عن الحركات المولِّدة للجبال ( وذلك لأن عهد نشوئها (الجبال) وتكونها إنما كان مع انكشاف المياه عنها يسيراً يسيراً).

ى) أدرك فعل المياه المُمعدَنة، جوفية كانت أم حرارية، في تكوين بعض المعادن في سقوف الجبال وفجواتها (إن كانت الجبال تتزايد بسبب مياهٍ تتحجَّر فيها أول سيولٍ تؤدى إليها طيناً كثيراً فيتحجَّر فيها).

ك) أدرك أن فعل العوامل الجيولوجية بطيء جداً، ولكنه يتراكم مع الوقت (مع انكشاف المياه عنها يسيراً يسيراً).

ل) أدرك حجم الزمن في العمليات الجيولوجية المختلفة (ينحفر وينحفر على مر الأيام).

 

2-تفسيره وقوع الزلال: حيث يقول في كتابه (الشِّفاء) (جزء الطبيعيات) الفن الخامس (المعادن والآثار العلوية) : (الزَّلزلة حركة تعرض لجزءٍ من أجزاء الأرض بسبب ما تحته ولا محالة أن ذلك السبب يعرض له أن يتحرك ثم يُحرِّك ما فوقه، والجسم الذي يُمكن أن يتحرك ثم يُحرِّك ما فوقه، والجسم الذي يمكن أن يتحرَّك تحت الأرض ويُحرِّك الأرض.

إما جسم بخاري دخاني قوي الاندفاع كالريح، وإما جسم مائي سيَّال، وإما جسم هوائي، وإما جسم ناري، وإما جسم أرضي. والجسم الناري لا يحدث تحت الأرض، وهو نار صرفة، بل يكون لا محالة في حكم الدخان القوي أو الريح المشتعلة.

والجسم الأرضي لا تعرض له الحركة أيضاً إلَّا لسبب مثل السبب الذي عرض لهذا الجسم الأرضي، فيكون السبب الأول الفاعل للزلزال. فأما الجسم الرِّيحي، نارياً كان أو غير ناري، فإنه يجب أن يكون هو المنبعث تحت الأرض، الموجب لتمويج الأرض في أكثر الأمر. وإن أكثر أسباب الزلزلة هي الرياح المحتقنة).

 

وقد صنَّف ابن سينا الزلازل إلى أنواعٍ ثلاثة هي:

أ) الزلازل الناتجة عن الهزات الأرضية: نتيجة انهدام أجزاء كبيرة من الجبال.

ب) الزلازل الناتجة عن البراكين: نتيجة النشاط البركاني، وهي أكثر أنواع الزلازل حدوثاً وانتشاراً.

ج) الزلازل الناتجة عن انخساف جزء من الأرض: بسبب تأثير المياه الجوفية على القشرة الأرضية.

وإذا ما استعرضنا التفسير العلمي لحدوث الزلازل في العصر الحديث والذي أورده محمد على المغربي في كتابه (الهِزَّات الزلزالية)، من حيث كونها (هِزَّات) أرضية تحدث من وقتٍ لآخر نتيجة تقلصاتٍ في قشرة الأرض وعدم الاستقرار في باطنها، وهي مسببة عن عوامل تكتونية باطنية، وتحدث في اليابس والماء على السواء، وقد تكون أفقية أو رأسية لوجدنا تفسير ابن سينا لحدوث الزلازل قريباً منه، كما أنه عرض لجميع أنواع الزلازل إلَّا واحداً من أهمها وهي الزلازل التكتونية. وهو نوعٌ لم يكتشف إلَّا مؤخراً بواسطة الآلات الحديثة التي لم تكن تُعرف في عصر ابن سينا.

 

هذا، ومما يذكر أنه قد انتشرت الخرافات منذ الأزل حول موضوع الزلازل وأسباب حدوثها، فمن قائل: تحدث من حركة حوت، أو أن الأرض يحملها ثورٌ له قرنان كبيران فعندما ينقل الأرض من قرنٍ إلى قرن آخر تقع الزلازل، أو أن الأموات يحاولون أن يخرجوا من قبورهم فتهتز الأرض ويكون الزلزال!!.

خرافاتٌ وخرافات، اجتهد العلماء في كشف زيفها للوصول إلى الحقيقة. وكانت المحاولات الأولى لعلماء إغريق .

فقد فسَّر (ديموقراطس) الذي عاش حوال عام 460ق.م حدوث الزلازل بتأثير المطر الغزير الذي يتسرَّب إلى باطن الأرض فيحدث خلل في توازن الماء. أما (إنكسارغوريس) الذي عاش حوالي عام 428ق.م فقد فسَّر وقوع الزلازل بنزول الأثير إلى أسفل فيحدث اضطرابات وذبذبات في باطن الأرض ينجم عنها الزلزال. وجاء أرسطو ليُدلِى بدلوه، ففسَّرها بسبب حركة الريح في باطن الأرض.

وفي الحضارة الأسلامية ذكر إخوان الصفا في رسائلهم أن المغارات والكهوف والأهوية التي في الأرض إذا لم يكن للمياه معابر تخرج منها، وبقيت محبوسة مدة طويلة، فإن تلك المياه تستحيل بخاراً يبحث له عن مكان أرحب.

فإن كانت الأرض ذات منافذ خرج البخار منها، أما إن كانت منيعة شديدة التماسك فإنها تمنع البخار من الخروج، وهنا لا مناص من تشققها وتصدعها ليخرج البخار بقوة مُحدثاً الزلزال. ثم جاء ابن سينا فاقترب بتفسيره لحدوث الزلازل كثيراً من التفسير العلمي الحديث.

 

3-تحدُّثه عن طبقات الأرض : حيث يرى إنها تختلف في درجة قساوتها، فمنها الليِّن ومنها الصلب. اللِّين تَحُتُّه الريح والماء، أما الصلب فلا يحُتَّانِه.

4-تحدُّثه عن المستحاثَّات (الحفريات): والتحولات الكبيرة التي حدثت للأرض وعزوه لها إلى التغيرات البطيئة جداً التي جرت عبر قرونٍ عديدة.

5-تحدُّثه عن النيازك وتفريقه الدقيق بين أنواعها: الحجري، والحديدى.

6-تحدُّثه عن السحب وأسباب تكونها: حيث أوضح أنها (تتولَّد عن الأبخرة الرطبة إذا تصعَّدت بتصعد الحرارة فوافقت الطبقة الباردة من الهواء فجوهر السحاب بخارٌ متكاثف يحمله الهواء. فالبخار مادة السحاب والمطر والثلج والطل والجليد والصقيع والبرد، وعليه تتراءى الهالة وقوس قزح).

 

ونظراً لإسهامات ابن سينا في علم الجيولوجيا، حيث وضع الأساس لكثيرٍ من فروعه، من مثل: علم الطبقات stratigraphy ، وعلم الرسوبيات sedimentology، وعلم الحركات الأرضية diastrophism، وعلم الجيولوجيا الفيزيقية geophysics، وعلم الزمن الجيولوجي geochronology، فقد عدّه أساطين مؤرِّخي الجيولوجيا في الغرب – على نحو ما يذكر محمد يوسف حسن في بحثٍ له بعنوان (أثر الفكر الأسلامي في تقدم علم الجيولوجيا) – رائداً من روَّاد علم الجيولوجيا الأوَّلين.

فقد بزَّ أرسطو ومعاصريه خاصة في نظريته (الحديثة جداً) في أصل الجبال والمعادن والصخور.

كما اعترف (ليوناردو دافينشي) أنه استقى معرفته عن الأحجار والمعادن والأحافير من كتب ابن سينا. ولكن علماء الغرب يصروون، متعنِّتين، على أن معلوماتهم في هذا الخصوص إنما هي من دافينشي نفسه!

[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى