جائزة جابر الأحمد للباحثين الشباب

يوسف يعقوب العسيري

أصداء لاتزال مدوية.. عَالِم النمذجة البحرية المُحتَفَى به لأبحاثه الفائزة بجوائز دولية

يطغى تغيُّر المناخ على العناوين الرئيسية في وسائل الإعلام، ومن ثم – أكثر من أي وقت مضى – تزداد أهمية عمل العلماء والباحثين لفهم هذه الظاهرة. قد يبدو المناخ غير مُتوقَّعٍ بالنسبة إلى كثيرين منا، لكن الباحثين العاملين في مجال النمذجة البحرية يكتشفون طرقاً تمكننا من تحسين فهمنا للمحيطات وتأثيرنا فيها. ‎

ومن بين هؤلاء العلماء يوسف يعقوب العسيري، الحائز «جائزة جابر الأحمد للباحثين الشباب»، في «مجال العلوم الهندسية»، من مؤسسة الكويت للتقدم العلمي، للعام 2022. لقد أثْرت المحيطات مسيرة العسيري المهنية وميَّزتها، وإن كان ذلك في طرف مختلف من العالم.

أكمل تعليمه العالي في جامعة كارديف؛ حيث حصل على درجة البكالوريوس في الهندسة المدنية في العام 2006، ثم حصل على درجة الماجستير في هندسة المياه في العام 2007، وأعقب ذلك نيله درجة الدكتوراه في الهندسة المائية والبيئية في العام 2011.

شملت أبحاث الدكتوراه التي أجراها العسيري الديناميكا المائية، ونمذجة جودة المياه لمجموعة من العمليات البحرية، مع التركيز على الخليج العربي وجون الكويت. تساعد نمذجة الهيدروديناميكية العلماءَ على فهم حركة المياه، ويمكن استخدامها لمحاكاة العمليات البحرية في ظل ظروف مختلفة، وهذا يساعد العلماء على اكتساب فهم أعمق لسلوك بحارنا.

نُشرت أبحاث الدكتوراه التي أنجزها في مجلات مرموقة، وخضعت لمراجعة الأقران، وعُرِضت في مؤتمرات الجمعية الدولية للأبحاث المائية والبيئيةInternational Association for Hydro-Environmental Research، المعروفة اختصاراً باسم الجمعيةIAHR ‎.

في العام 2012، انضم العسيري إلى معهد الكويت للأبحاث العلمية، وهو يعمل حالياً في المعهد، ضمن برنامج إدارة السواحل في مركز علوم البيئة وعلوم الحياة. بصفته باحثاً ورئيس وحدة النمذجة العددية الساحلية، يتضمن عمل العسيري مجموعة واسعة من المسؤوليات، بدءاً من صيانة وتشغيل النموذج العددي للتنبؤ في الكويت، إلى قيادة الأبحاث المُموَّلَة من الجهات الوطنية المختلفة، والعمل كباحث رئيس على مجموعة واسعة من المشروعات البحثية. ‎

خلال فترة وجوده في معهد الكويت للأبحاث العلمية، تحولت أبحاث العسيري إلى رصد قضايا مُحدَّدة تؤثر في البحار المحيطة بالكويت. وهذا يشمل نقص الأكسجة Hypoxia، وهو ما يحدث عندما يتسبب النمو السريع للطحالب في خفض كمية الأكسجين في الماء. وتنجم عن ذلك العديد من التأثيرات البيئية السلبية، ومنها – على سبيل المثال – المناطق الميتة، ونفوق الأسماك، وانخفاض التنوع البيولوجي، والتهديدات التي تواجهها مصايد الأسماك التجارية. قال العسيري: «نظراً إلى أن الخليج بحر شبه مغلق خلال فصل الصيف الحار يُستهلك الأكسجين في جون الكويت بسرعة كبيرة». ونتيجة لذلك، تنفق العديد من الأسماك داخل هذه المناطق الميتة، وتلقي بها الأمواج بعد ذلك إلى الشاطئ. وبنمذجة المناطق التي تتأثر – عادة – بنقص الأكسجين، إضافة إلى جمع العينات لدراسة الظاهرة، تمكن العسيري من تكوين صورة تفصيلية للوقت الذي تحدث فيه هذه الظواهر عادة.

وقال: «لقد وصلنا الآن إلى مستوى يمكننا التنبؤ بوقت حدوثها؛ ما يعني أننا نعرف متى سيحدث ذلك في المستقبل، لنقل قبل يومين من حدوثه». يمكن حالياً للهيئات المعنية بالبيئة، مثل الهيئة العامة للبيئة في الكويت، استخدام هذه المعلومات؛ حتى تتمكن من إعداد الفرق لجمع العينات وتحذير الجمهور.

وهناك مشروع آخر له تأثير كبير على صنع السياسات في الكويت، وهو البحث الذي أجراه العسيري عن الطول الأمثل لمخارج مياه الصرف الصحي في حالات الطوارئ على طول ساحل الكويت. قال العسيري: «عندما تُصرف مادة مُلوَّثة من المصرف، في أثناء الظروف الطارئة، يجب أن يكون لأنبوب المصرف الواقع على الساحل تصميم مُحدَّد». ولكن، قبل أن يُجري بحثه، لم تكن هناك مواصفات تصميمية لهذه البنية التحتية الأساسية. ومن ثَمَّ بادر العسيري إلى نمذجة مجموعة من الملوثات لاكتشاف الطول الأفضل لمخارج التصريف على طول الساحل. عن ذلك قال: «لقد ساعد هذا على وضع لوائح توجه صنع السياسات في الكويت؛ لأن كل منطقة من الخط الساحلي لها عمق مُحدَّد، وخط ساحلي مُحدَّد، وظروف ديناميكية محدَّدة، مثل سرعة المياه، ونطاق المد والجزر».

في حين أن نمذجة العمليات البحرية قد تبدو كأنها تنطوي على كثير من الأبحاث المختبرية، فإنها تتطلب أيضاً قضاء قدر كبير من الوقت في جمع البيانات في البحر. قال العسيري: «نحن بحاجة إلى هذه البيانات للتحقق من صحة النمذجات التي نصممها؛ ولنقول إن حسابات النمذجة صحيحة». هذه العملية ضرورية، بصورة خاصة عند مقارنة البيانات التي جُمعت في السابق بالنتيجة، وهي عملية تُعرف باسم التنبؤ العكسي Hindcasting‎. يعلم العسيري وفريقه البحثي أن ظاهرة معينة، مثل نقص الأكسجة، ستحدث خلال أوقات مُحدَّدة من السنة، لذلك يستخدمون أدواتهم لجمع البيانات في هذه الأوقات. بعد ذلك، قال العسيري: «نقوم بتشغيل نمذجتنا للتنبؤ العكسي، ومحاولة مقارنة بياناتنا مع البيانات التي جمعناها سابقاً، وهذا يساعد على الحصول على معلومات مُفصَّلة لكل حدث، وفي أثنائه، وبعده».

شهدت مسيرة العسيري المهنية لحظة مفصلية؛ عندما شارك في تسجيل الرقم القياسي العالمي لدرجات حرارة سطح البحر، وسجل قراءة من 37.6 درجة سيليزية في خليج الكويت، في العام 2020. حظي ذلك باهتمام عالمي، خاصة عندما سُجلت درجات حرارة عالية في أجزاء أخرى من العالم، بما في ذلك في فلوريدا بالولايات المتحدة. ومن هنا، كان من الطبيعي أن يمتد بحثه – أيضاً – إلى تأثير آخر لتغيُّر المناخ، ألا وهو ارتفاع مستويات سطح البحر. حتى ذلك التاريخ لم تكن تُوجَد محطة داخل الخليج العربي لتسجيل التغيرات في مستويات سطح البحر، والناجمة عن تغيُّر المناخ. حالياً، وبفضل العسيري، أُنشئت محطة جديدة لهذا الغرض. ‎

وفي حين أنه سجل العديد من الإنجازات في حياته المهنية إلى اليوم، قال العسيري إن أكثر ما يبعث الرضى في نفسه هو إنشاء هذه المحطة؛ لتكون جزءاً من النظام العالمي لرصد مستوى سطح البحر المعروف اختصاراً باسم نظام GLOSS، والذي أُنشئ في العام 1985. وفي حين استغرق الأمر عامين لكي يُنجز العسيري جميع الإجراءات، ويستصدر الأذونات المطلوبة لترخيص محطة الرصد، فقد انتهى العمل من تركيبها أخيراً في المركز العلمي في الكويت (أحد المراكز التابعة للمؤسسة). إن مشروعات مثل هذه لا تتيح للعسيري فقط «رد الجميل للمجتمع العلمي، والمساهمة في الجانب العالمي لطبيعتنا وبحرنا»، ولكن أيضاً رفع مستوى الوعي، وتثقيف الأجيال الشابة. قال العسيري إن الموقع الذي اختير يعني أن «الأجيال الشابة ستُتاح لها فرصة زيارة المحطة، وإثراء معارفها عن المناخ». ‎

كان العمل على أبحاث ذات صلة بالبحر أحد أكبر التحديات في حياته المهنية. شرح العسيري الأمر بقوله «إن التعامل مع البحر أمر غاية في الصعوبة… في كثير من الأحيان اضطُررت إلى إلغاء رحلة ميدانية بسبب ظروف الطقس والأمواج العاتية، وفي بعض الحالات الأخرى كانت الرؤية منخفضة جدّاً، وفجأة لم يعد في إمكاننا أن نرى البحر حقاً، وصار الإبحار خطراً». وقال إن الحرارة الشديدة – في أثناء العمل خلال فترة الصيف – يمكن أن تشكل تحدياً يفوق كل تصور، وهو أمر لا يستطيع جميع الباحثين تحمله. ‎

وقال العسيري، أيضاً، إن عمله، وهذه الجائزة، لم يكونا ممكنين لولا وجود فريق متخصص من الباحثين المتفانين، بمن فيهم ندى السليمان، ودانة الحوطي، وتانوسبونغ بوكافانيتش، والعنود الرقم. ومع سجل واسع من الأبحاث المنشورة يشمل أكثر من 18 ورقة بحثية، في المجلات العلمية، فإن صدى أبحاث العسيري مازال مسموعاً، سواء في الكويت أو في أنحاء مختلفة من العالم. ‎

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى