الطب

نبذة تعريفية عامة عن “مرض الطاعون” قديماً

2001 موسوعة الكويت العلمية الجزء الثاني عشر

مؤسسة الكويت للتقدم العلمي

مرض الطاعون الطب

كانَ مُجَرَّدُ ذِكْرِ كَلِمَةِ الطّاعونِ في الماضي يُثيرُ الرُّعْبَ في نُفوسِ النَّاسِ.

فَهَذا المَرَضُ كانَ يَنْتَشِـرُ انْتِشارًا سَريعًا بَيْنَ النَّاسِ، فَيَمْرَضونَ ثُمَّ يَموتونَ، ونَادِرًا ما كانَ يَنْجو مَريضٌ من المَوْتِ.

ومِنَ الذِّكْرَياتِ الأَليمَةِ لِهَذا المَرَضِ أَنَّه قَتَلَ في القُرونِ الوُسْطَى رُبْعَ سُكَّان القَارَّةِ الأوروبِيَّةِ دَفْعَةً واحِدَةً في إحْدَى المَرَّاتِ، وجَميعَ سُكَّانِ جَزيرَةِ قُبْرُصَ مَرَّةً أُخْرَى. وكانَ النَّاسُ يُسَمُّونَ هذا المَرَض أيْضًا «المَوْتَ الأَسْودَ».

 

وبَلَغَ الرُّعْبُ من هذَا المَرَضِ الوَبيلَ أَنَّ النَّاسَ في أُوروبا كانوا إذا أُصيبَ أَحَدُ سُكَّان بَيْتٍ بالمَرَضَ، يَحْبسونَ جَميعَ سُكَّانِ البَيْتِ في داخِلِهِ، ويُثَبِّتونَ الأَبْوابَ والنَّوافِذَ بالمَساميرِ بِحَيْثُ لا يُمْكِنُ أَنْ يَفْتَحَها أَحَدٌ خَوْفًا من انْتِشارِ المَرَضِ إلَى البُيوتِ المُجاوِرَةِ. ولَمْ يَخْتَلِف الحَالُ عَنْ ذَلِكَ في القَارَّاتِ الأُخْرَى.

ثم بَدَأَ النَّاسُ في عَزْلِ المَدينَةِ الّتي يُصيبُها الطّاعونُ، فلا يَدْخلونَها ولا يَسْمَحونَ لِسُكَّانِها بالخُروجِ مِنْها. وكَذَلِكَ كانوا يَمْنَعونَ السُّفُنَ مِنْ دُخولِ المَوانِي الّتي أَصابَ الطّاعونُ سُكَّانَها، ولا يَسْمَحونَ للسُّفُنِ بِدُخولِ المَوانِي إذا أُصيبَ رُكَّابُها بالطّاعونِ.

وهَكَذا بَدَأَتْ مُمارَسَةُ «الحَجْرِ الصِّحِّيِّ»، الّتي قَلَّلَتْ كثيرًا من انْتِشارِ المَرَضِ من مَدينَةٍ إلَى أُخْرَى ومن دَوْلَةٍ إلَى أُخْرَى.

 

ومَعَ ذَلِكَ لم يَعْرِفْ النَّاسُ سَبَبًا للطّاعونِ، ولَمْ يَعْرِفوا كَيْفِيَّةَ انْتِقالِهِ إلى الأَصِحَّاءِ. ولَكِنْ كانَ النَّاسُ يُلاحِظونَ وُجودَ جُرْذنٍ مَيِّتَةٍ في الطُّرُقاتِ مَعَ بِدايَةِ ظُهورِ المَرَضِ، دُونَ أَنْ يَعْرِفوا سَبَبًا لِذَلِكَ.

وفي أَواخِرِ القَرْنِ التَّاسِعَ عَشَرَ وأَوائِلِ القَرْنِ العِشْرينَ، بَدَأَ الأَطِبَّاءُ يَتَعرَّفونَ مُسَبِّباتِ الأَمْراضِ، وكانَ الطّاعونُ من بَيْنِ الأَمْراضِ البَكْتيرِيَّةِ الّتي تَعَرَّفوها.

ودَرَسَ الأَطِبَّاءُ والعُلَماءُ كَيْفِيَّةَ انْتقالِ وانْتِشارِ المَرَضِ، وتَبَيَّنَ لَهُم أَنَّ الطّاعونَ أَصْلاً مَرَضٌ يُصيبُ القَوارِضَ. ولَكِنْ كَيْفَ يَنْتَقِلُ المَرَضُ إلَى الإنْسانِ؟

 

الطّاعونُ مَرَضٌ يُسَبِّبُهُ أَحَدُ أَنْواعِ البَكْتيرْيا العَصَوِيَّةِ وهُوَ يُصيبُ القَوارِضَ الّتي تَعيشُ عادَةً بَعيدًا عَنْ سَكَنِ الإنْسانِ، ويَتَسَبَّبُ المَرَضُ في مَوْتِ الحَيوانِ القارِضِ المُصابِ.

ويَنْتَقِلُ المَرَضُ من القارِضِ المُصابِ إلَى البَراغيثِ الّتي تَتَغَذَّى بدَمِ القَوارِضِ. وتَتَكاثَرُ بَكْتيريا الطّاعونِ في القَنَاةِ الهَضْمِيَّةِ للبَراغيثِ وتُسَبِّبُ انْسِدادَها.

وهَذا يَمْنَعُ البُرْغوثَ المُصابَ الجائِعَ من الحُصولِ عَلَى حاجَتِه مِنَ الدَّمِ. وعِنْدَما يَقْرُصُ هذا البُرْغوثُ الحَيوانَ القارِضَ لِلْحُصولِ علَى دَمِهِ لا يَسْتَطيعُ أَنْ يَحْتَفِظَ بالدَّمِ في مَعِدَتِهِ فيُفْرِغَ مُحْتَوَياتِها في الجِلْدِ بما فيها من بَكْتيرْيا الطّاعونِ الّتي تَتَكاثَرُ في جِسْمِ هذا القَارِضِ وتُسَبِّبُ لَهُ المَرَضَ.

 

وتَصِلُ البَكْتيرْيا إلَى دَمِ القارِضِ المَريضِ لِتُصيبَ البَراغِيثَ الّتي تَقْرصُهُ لتَغْتَذِيَ بِدَمِه. وعِنْدَما يَموتُ القَارِضُ تَرْحَلُ عَنْه البَراغِيثُ وتَنْتَقِلُ إلَى قَارِضٍ آخَرَ سَليمٍ. وهَكَذا تَسْتَمِرُّ دَوْرَةُ المَرَضِ في القَوارِضِ.

وإذَا قَلَّ الطَّعامُ في بِيئَةِ القَوارِضِ الطَّبيعِيَّةِ، أَخَذَتْ تَبْحَثُ عَن مكانٍ يَتوافَرُ فيهِ الغِذاءُ. ومِن هَذِهِ الأَمَاكِنِ التَّجَمُّعاتُ السُّكَّانِيَّةُ كالقُرَى والمُدُنِ، وفيها تَعيشُ الجُرْذَانُ.

والجُرْذانُ من القَوارِضِ، ويُصيبُها الطَّاعونُ إذا انْتَقَلَ إِلَيْها عَنْ طَريقِ البَراغيثِ المُصابَةِ بِهِ. وعِنْدَما يَموتُ أَحَدُ القوارِضِ المُغِيرةِ علَى المُدُنِ أو القُرَى، تَتْرُكُ البَراغيثُ جُثَّتَهُ وتَنْتَقِلُ إلَى الجُرْذانِ.

 

وهَكَذا يَبْدَأُ المَرَضُ في الجُرذانِ الّتي تَعيشُ في مَناطِقِ التَّجَمُّعاتِ السُّكَّانِيَّةِ، ومِنْها تَبْدَأُ قِصَّةُ الطّاعونِ مع الإنْسانِ.

فالجُرذانُ تَعيشُ قَريبًا من الإنْسانِ. وعِنْدَما يَنْتَشِرُ الطّاعونُ بَيْنَها ويَموتُ عَدَدٌ كَبيرٌ مِنْها، تَبْدَأُ براغيثُ الجُرْذانِ في البَحْثِ عن مَصْدَرٍ آخَرَ لِلْغِذاءِ؛ وأَحَدُ هذهِ المَصادِرِ هو الإنْسانُ.

وعِنْدَما يَقْرُصُ البُرْغوثُ إنْسانًا، يُفْرِغُ مُحْتَوياتِ مَعِدَتِه بِما فيها من البَكْتيرْيا في جِلْدِه، ومن هناكَ تَنْتَقِلُ إلَى الغُدَدِ اللِّمفِيَّةِ حَيْثُ تَتَكاثَرُ البَكْتيرْيا وتَتَسَبَّبُ في تَضَخُّمِ هَذِهِ الغُدَدِ.

 

وتَرْتَفِعُ دَرَجَةُ حَرارَةِ جِسْمِ الإنْسانِ المَريضِ، ويُعانِي من إعْياءٍ شَديدٍ. وقَدْ تَنْتَقِلُ البَكْتيرْيا، عَنْ طريقِ الدَّمِ، إلَى الرِّئَتَيْنِ حَيْثُ تُسَبِّبُ الْتهابًا بِهِما، كما أَنَّها تَتَكاثَرُ في الدَّمِ مُسَبِّبَةً تَسَمُّمًا دَمَوِيًّا عامًّا؛ ويَنْتهِي الأَمْرُ بِمَوْتِ المريضِ. والمَرَضُ لا يَنْتَقِلُ من إنْسان إلَى آخَر، وإنَّما يَنْتَقِلُ من الجُرذانِ إلَى الإنْسانِ فَقَطْ.

ونَظَرًا لأَنَّ الجُرذانَ كانَتْ تَعيشُ في جَماعاتٍ كبيرَةٍ في المَناطِقِ المَأْهولَةِ بالسُّكَّانِ، لِذَلِكَ كانَتْ تَموتُ أَعْدادٌ كبيرَةٌ مِنْها بالطَّاعونِ. وتَبْدَأُ ملايينُ البَراغيثِ في مُهاجَمَةِ السُّكَّانِ، فَيَنْتَشِـرُ المَرَضُ بِصورَةٍ وَبائِيَّةٍ فَظيعَةٍ.

وهُناكَ طَريقَةٌ أُخْرَى لانْتِقالِ المَرَضِ، وهي الإقامَةُ في مُعَسْكَراتٍ في المَناطِقِ البَعيدَةِ عن العُمْرانِ. فَقَدْ يكونُ المَرَضُ مُنْتَشِرًا بَيْنَ القَوارِضِ البَرِّيَّةِ، وعِنْدَما تَموتُ هذه القَوارِضُ، تَنْتَقِلُ البَراغيثُ إلَى الإنْسانِ للحُصولِ علَى الدَّمِ وتَنْقِلُ المَرَضَ إلَيْه. وهَذِهِ الطَّريقَةُ لا تُسَبِّبُ المَرَضَ بِصورَةٍ وَبائِيَّةٍ، وإنَّما تُحْدِثُ مُجَرَّدَ حَالاتٍ فَرْدِيَّةً بَيْنَ أَفْرادِ المُعَسْكَرِ.

 

ونَحْنُ، بِحَمْدِ اللهِ، لا نَسْمَعُ عَنْ وَباءِ الطّاعونِ في الوَقْتِ الحاضِرِ. فالبُيوتُ تُبْنَى الآنَ مِنَ الطُّوبِ والأَحْجارِ والأَسْمَنْتِ، وهِيَ مَوادُّ صُلْبَةٌ لا تَسْمَحُ لِلْجُرذانِ بإنْشاءِ جُحورٍ لَها فيها.

هذا فَضْلاً علَى وَسائِلِ مُكافَحَةِ الجُرذانِ الّتي تَعْمَلُ عَلَى تَقْليلِ عَدَدِها في المَناطِقِ السَّكَنِيَّةِ علَى قَدْرِ الإمْكانِ، كما أنَّ النَّظافَةَ واستخدامَ المُبيداتِ الحَشَرِيَّةِ تُخَلِّصُ المَساكِنَ من الحَشَراتِ، ومنها البراغيثُ.

وَلَكِنَّ أَهَمَّ حَدَثٍ في القَرْنِ العِشْريـن كانَ اكتشافَ المُضادَّاتِ الحَيَوِيَّةِ، الّتي مَكَّنَتْ الأَطِبَّاءَ من عِلاجِ الأَمْرَاضِ البَكْتيرِيَّةِ الّتي كانَتْ تسبِّبُ أَخْطَرَ الأَوْبِئَةِ في المَاضِي (كالطّاعونِ والكولِيرا)، والّتي كانَتْ تَقْتُل الكَثيرَ مِنَ النّاسِ في جَميعِ أَنْحاءِ العالَمِ.

 

وعلَى الرَّغْمِ مِنْ أَنَّ الأَوْبِئَةَ لَهَا مُسَبِّباتٌ كَثيرَةٌ، كانَتْ كَلِمَةُ «طَاعونٍ» مُرادِفًا لِكَلِمَةِ «وباءٍ» أو لِوَصْفِ مَرَضٍ مُعْدٍ خَطيرٍ. وهَذَا يَدُلُّ علَى مَدَى خَوْفِ النَّاسِ من هذا المَرَضِ.

ولا تَزالُ هَذه الكَلِمَةُ مُسْتَخْدَمَةً في بَعْضِ اللُّغاتِ بِهذَا المَفْهومِ. فَمَثلاً عِنْدَما اكْتَشَفَ الأطِبَّاءُ مَرَضَ الإيدز في الثَّمانينِيَّاتِ من القَرْنِ الماضي، وَصَفُوهُ بِأَنَّه طَاعونَ القَرْنِ العِشْرين.

[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى