الكيمياء

عملية التصنيع الجزيئي “النانوتكنولوجيا”

2002 في رحاب الكيمياء

الدكتور نزار رباح الريس , الدكتورة فايزة محمد الخرافي

KFAS

عملية التصنيع الجزيئي النانوتكنولوجيا الكيمياء

تتكون جميع المواد التي نعرفها من ذرات ، وتحدد خواص هذه المواد من الطريقة التي تترابط فيها هذه الذرات مع بعضها البعض . 

وعلى سبيل المثال فإن الجرافيت الذي نستخدمه في صناعة أقلام الرصاص ، يتكون من ذرات كربون مرتبة في سداسيات صفائحية . 

لكن إعادة ترتيب ذرات الكربون هذه لتكون اشكالاً هرمية يؤدي إلى تكوين الماس ، وكذلك الحال في الرمل الذي يتكون أساساً من ذرات السيليكون والأكسجين ، فإذا أعدنا ترتيب هذه الذرات مع إضافات بسيطة من ذرات أخرى تكونت الرقائق الإلكترونية المستخدمة في صناعة الترانزيستورات والتي تشكل القلب النابض لأجهزة التلفاز والحواسيب بأجيالها وقدراتها المختلفة .

وعلى الرغم من التقدم الكبير الذي أحرزته التكنولوجيا في المجالات المختلفة وبخاصة في مجال تصنيع الرقائق السيليكونية ذات القدرات الهائلة ، لكن الإعتقاد السائد هو أننا ما زلنا في بداية الطريق . 

 

ويمثل العلماء وضعنا الحالي وكأننا نقوم بترتيب مكعبات لعبة "الليغو" ونحن نرتدي في أيدينا قفازات الملاكمة ، بحيث لا نتمكن من التحكم في هذه المكعبات وترتيبها بالشكل الذي نريده أو نرغب فيه.

ويعتقد هؤلاء العلماء ان النانوتكنولوجيا أو ما يمكن أن يطلق عليه اسم التصنيع الجزيئي ، سوف يسمح لنا بخلع قفازات الملاكمة من ايدينا لتصبح حرة وقادرة على التحكم الكامل فيما تصنع ، وتتمكن بذلك من صنع المنتجات بالشكل الذي تكون فيه كل ذرة في المكان المطلوب . 

إن مثل هذه التكنولوجيا ستمكننا من الحصول على منتج بصفات مثالية .  ولا شك في أن صناعة الحواسيب ستكون من بين أكثر المستفيدين من هذا النوع من التكنولوجيا .  ذلك أنه مع الاستمرار في تصغير حجم رقائق السيليكون ، يصبح وضع الذرات في أمكانها المطلوبة عملاً لا مفر منه ، وإذا أردنا أن نصل إلى تصنيع الرقائق المنمنمة (متناهية الصغر) فإن علينا أن نضع كل ذرة في مكان محدد سلفاً ضمن تركيب معقد يحتوي على بلايين الذرات .

 

ويلاحظ انه على المستوى المكروي (الكبرى) فإننا نضع الآلة بتركيب أجزائها المختلفة ووضع كل منها في مكانه الصحيح .  لكن الأمر على المستوى الجزيئي ما زال حديثاً، لأن هذا يتطب القدرة على وضع كل جزيء في مكانه الصحيح ليتكون المنتج المطلوب .

ونحن نعلم أن الكيميائيين يقومون ومنذ قرون عديدة بتحضير المركبات الكيميائية المختلفة ، لكن دون أن يكون لهم " أيد جزيئية" يمكنها أن تساعدهم . 

فالجزيئات في المحاليل ، عادة ما تتحرك بنشاط ملحوظ عند تسخين هذه المحاليل .  وعند خلط الجزيئيات المختلفة يكون لها القدرة على الإتحاد الفوري فيما بينها لتكون مركباً كيميائياً جديداً .

وإذا أردنا أن نطبق هذا الوضع على عملية تصنيع مذياع مثلاً ، فإن الأمر يشبه وضع جميع قطع المذياع في إناء ومن ثم هز الإناء بقوة لتتحد هذه القطع مع بعضها مكونة المذياع المطلوب ، وهو أمر يصعب حدوثه .

 

وتزداد صعوبة تطبيق هذه التكنولوجيا كلما زاد عدد القطع التي يتكون منها المنتج المراد تصنيعه .  لكن هذا الأمر يحدث وبسهولة بين الذرات والجزيئات في التفاعلات الكيميائية ، أما تطبيقه على الصناعات المختلفة ، كصناعة المذياع أو التلفاز أو الحاسوب فهو أمر يحتاج للكثير من الجهد والبحث وإن لم يكن مستحيلاً .

ومن المناسب أن نشير هنا إلى حلم العالم الفيزيائي الشهير والحاصل على جائزة وبل ريتشارد فاينمان (R.Feinmann) والذي عبر في محاضرة له عام 1959 عن موضوع "النمنمة وأبعادها" بقوله "إن مبادئ الفيزياء كما أراها ، لا تتعارض مع احتمال تصنيع الأشياء ذرة فذرة" ثم تساءل "ماذا يمكن أن يحدث لو تمكنا من ترتيب الذرات الواحدة تلو الأخرى وبالطريقة التي نريد ؟"

ثم أجاب عن سؤال "بالإمكان تقديم عون كبير لحل مشكلات الكيمياء وعلوم الحياة لو تمكنا من رؤية ما نفعله وأن نفضل الأشياء على المستوى الذري ، وهو أمر لا أرى مناصاً من السعي إليه وتحقيقه " .

 

ومن المفيد هنا أن نتذكر بأن الطبيعة تصنعها تراكيبها الكبيرة كالأشجار مثلاً باستخدام آلات صغيرة مبرمجة ولها القدرة على التكاثر الذاتي وهي الخلايا ، وهذا نموذج يمكننا أن نسعى إلى تقليده ومحاكاته . 

وفي هذا المجال سبق لعالم الرياضيات جون فون نيومان (J. Von newmann) من جامعة برنستون أن اقترح منذ الأربعينات نظاماً ذاتياً للتكاثر يتمثل في حاسوب مرتبط بذراع إنسان آلي (روبوت) . 

وفي هذا النظام يقوم الحاسوب بتوجيه الذراع لالتقاط الأجزاء وتركيبها في حاسوب آخر يرتبط بذراع روبوت ثان ، وهكذا يمكن لها النظام أن ينسخ نفسه .

 

أما ك . ديكسر (K. Dexler) (الولايات المتحدة) فقد اقترح آلة تجميع تستخدم حاسوباً جزيئياً يقوم بتوجيه ذراع روبوتية جزيئية تلتقط بسرعة الجزيئات وتجمعها في أي تشكيل نريده ، بما في ذلك صنع آلة تجميع جديدة . 

وهكذا فإن مثل آلات التجميع هذه التي تصنع نفسها بنفسها ستكون منخفضة الكلفة ، وسيكون بالإمكان توجيه كل مجموعة منها لتصنيع اي منتج مطلوب، تماماً كما هو الحال في برمجة الخلايا المختلفة بتغيير حمض الدنا فيها ليصبح بإمكان كل نوع منها التكاثر لإنتاج الاشجار أو القمح او الذرة أو الفواكه المختلفة .

 

ونسوق مثالاً واحداً لأثر مثل هذه التكنولوجيا – الجزيئية على حياتنا ، فإذا اعتبرنا أن معظم الأمراض تنجم بسبب الخلل الذي يحدث على المستوى الجزيئي أو الخلوي ، وأننا لا نملك الآن الوسيلة للتدخل العلاجي على هذا المستوى.

لكن استخدام النانوتكنولوجي (التكنولوجيا النانوية) ، سوف يمكننا من صنع سيل من الجراحين الروبوتيين المتناهي الصغر والذين يملكون ادوات جزيئية ، وتوجههم حواسيب جزيئية يمكنها أن تهاجم المرض في جذوره .  إن مثل هذه التكنولوجيا سوف تحدث ولا شك ثورة هائلة في مجال الطب والعلاج .

 

لقد شاهدنا خلال المائة والخمسين عاماً الماضية تقدماً هائلاً في تكنولوجيا التصنيع ، وتحسناً مستمراً فيها ، لتصبح اكثر دقة واكثر مرونة . 

ويمكننا الآن أن نرى في الأفق البعيد الهدف النهائي الذي يتمثل في تكنولوجيا لها القدرة على تنظيم قوالب البناء الأساسية للمادة وترتيبها ، وهي الجزيئات والذرات ، على أي شكل نريد وضمن القوانين الفيزيائية الأساسية . 

إن التقدم الثوري في مجال الحواسيب والطب مثالان فقط لما يمكن أن نتجلبه لنا هذه التكنولوجيا ، وعلينا أن نعلم أن تحقيق هذا الهدف الحلم يحتاج إلى تكاتف جهود العلماء في مختلف المجالات والتخصصات والعمل لسنين طويلة ونحن الآن في بداية الطريق ونرى نوراً في الافق البعيد ، ولكننا نعلم بالتحديد متى سيتحقق حلم فاينمان في التصنيع الجزيئي .

[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى