الطب

تكنولوجيا الطب البيولوجية والأخلاقيات الطبية

1996 تقنيات الطب البيولوجية وحقوق الإنسان

الدكتور يوسف يعقوب السلطان

KFAS

الطب

يتولى المعالجون التقليديون في كل المجتمعات والثقافات صياغة أو تشكيل القيم وفرضها على الناس.

وليس من شك في أن علم الطب البيولوجي قد شجع بشكل ظاهر دور الطب الغربي المنظم وممارسيه من الافراد في تشكيل القيم وفرضها. 

فقد فرض الممارسون نصيبا لهم في السلطة الاجتماعية ومكانتهم المقدسة الرفيعة التي جعلت عالم الاجتماع اليوت فريدسون Elliot Freidson يصف الطب بانه أقرب ما يكون لأديان الدولة في الماضي ويمنحه حق احتكار رسمي لسلطة تحديد الامراض وعلاجها (1970). 

 

ونشهد ذلك في كل من مشاركة الأطباء في وضع تطوير المواثيق الاخلاقية وفي دورهم العيادي أو الاكلينيكي مع المرضى الذين تطبق عليهم أحدث التكنولوجيات .

كانت المحافظة على مكانة الإنسان في مواجهة المرض والتدخل الطبي تقليديا في أيدي الأطباء كأفراد، فهم الواسطة الرئيسية بين المريض وبين التقنيات المتوافرة، واكتسب الاطباء وكذا المعالجون الشعبيون الذي احتفظوا بمكانتهم القديمة في كثير من أرجاء العالم سلطة قوية في اتخاذ قرارات الحياة أو الموت إما بمفردهم أو بمشورة أقرانهم على اساس كل حالة من الحالات التي تعرض لهم على حدة، معتمدين في هذه القرارات على ثقة المريض التي تتكون من خلال العلاقة بينه وبين الطبيب. 

وكان من النتائج الطبيعية لوعي الاطباء بمكانتهم الخاصة تكوين ونمو المواثيق الاخلاقية أو المبادئ الاساسية التي تدعم مفهوم الطبيب كشخص ملتزم بأخلاقيات خاصة. 

 

وأكدت الكثير من هذه المواثيق والمبادئ، وإن لم يكن دائما تأكيدا واضحا، على فكرة أن المرضى يعتبرون في حد ذاتهم اهدافا وليسوا أدوات لتحقيق أهداف معينة. 

ولكن نظراً لأن الاطباء الذين لقنوا مبادئ السيطرة الابوية قد زاد تدريبهم على التفكير العلمي، فقد بدءوا يختبرون أفكارهم وأحدث الوسائل المساعدة وذلك بتطبيقها على المرضى الذين لا يعلمون أو المقتنعين على نحو غير ملائم أو المضللين من غير المؤهلين للفهم أو الاحتجاج بسبب السن او المرض أو اختلافهم عن الاطباء من النواحي الاقتصادية الاجتماعية أو الثقافية.

وفي كل الأحوال كانت الممارسة تبرر على أساس نفعي هو أن تقدم المعارف العلمية والاكلينيكية سوف تساعد البشرية. 

 

وبالإضافة إلى هذا المبرر كان هناك التمجيد والتعظيم للمعارف الطبية على أنها هدف يفوق كل أهداف المعارف الأخرى، وبالنسبة للولايات المتحدة على أنه إنجاز ملح وجزء من المزاج والحالة النفسية القومية السائدة خلال الحرب العالمية الثانية.

ومع ذلك فقد كان لإمكانيات التحول في تقنيات الطب البيولوجية المتقدمة آثارها المتزايدة على الوعي الجماهيري. 

ولقد تابع روثمان Rothman(1991) الوعي المتزايد عن تلك الإمكانيات، والصراع الرئيسي القائم بين البحث ومهام المساعدة التي يضطلع بها أطباء الولايات المتحدة.  

 

وفي أثناء تحقيق لمجلس الشيوخ الأمريكي في إمكانيات سوء الاستغلال أو الاستخدام كان الشيوخ يخلطون دائما بين التجارب والعلاج وبين الباحثين والأطباء، (ص65)، كذلك فعل قادة المؤسسات الرئيسية للبحوث القومية الصحية، فقد زعموا أن "الأطباء والباحثين" شيء واحد وصِنْوه وأن الثقة التي يوليها المرضى للاطباء يجب أن تشمل أيضا الباحثين (ص82). 

وكان من بين من تصدروا واندفعوا لتفنيد هذه المزاعم وتحديد حق وامتياز صنع القرار الطبي، هنري بيكر (1966) الذي كشف عن استمرار وتفشي وجود أطباء كبار في الولايات المتحدة يجرون البحوث في مراكز ذات مكانة في البحوث الطبية على مرضى لم يخطروا ولم يعطوا موافقتهم على ذلك. 

وكان هذا بمثابة (اتهام مدمر لأخلاقيات البحوث) (روثمان 1991 ص15).  وذلك لأن كل مثال قدمه بيكر تضمن أن (صحة ورفاهة الذي أجريت أو تجري عليه التجارب معرضة للخطر دون علمه أو موافقته) (ص75).. 

 

وأصبح من الواضح ان بيئة البحوث سواء في المؤسسات القومية أو مدارس الطب الأكاديمية "قد أهدرت أو ألغت مفهوم تحديد المصلحة بين الباحث والمبحوث" (ص 83).

وكان للكشف الذي أعلنه بيكر أثر نقدي خطر على المؤسسات الوطنية للصحة وإدارة الطعام والعقاقير في الولايات المتحدة الأمريكية.

حقيقة أن السلطة كانت مركزة في أشخاص كانوا في يوم من الأيام تابعين للكونجرس وموضوعين في أعلى مكانة في المجتمع البحثي، قد أكدت أن الفضائح ستعدل الممارسة وأصبحت هذه الظروف بمثابة تفسير لسبب إصدار تنظيمات التجارب على الإنسان أولا وبصورة اكثر توسعا في الولايات المتحدة عنها في أي دولة صناعية أخرى (وثمان ٌخفاةشى، 1991، ص 86).

 

وقد كان اجتذاب مجموعة من غير الاطباء مثل رجال الدين والفلاسفة ورجال القضاء ورجال علم الاجتماع إلى حقل الأبحاث أحد أوجه أو مظاهر هذا النظام، فالصورة المثلى للطبيب وحده مع مريض يثق فيه قد انتهت.

وحلت محلها صورة لحجرة فحص فيها أعضاء لجنة المستشفى من المحامين والمتخصصين في الأخلاقيات البيولوجية والمحاسبين الذين يتفوق عددهم على الطبيب (روثمان، 1991، ص 107).

وكثير من الأطباء يشكون في الحاجة إلى التقنيات الطبية العالية ونتائجها، ولكنهم مع ذلك يشعرون بأن توفير هذه التقنيات الجديدة بداء من الكشف المقطعي بالكمبيوتر CAT إلى الإخصاب الصناعي، إلى توسيع الشرايين إلى تقنيات الإبقاء على الحياة، ما هي إلا التزام أخلاقي لاستخدامها (برودي، 1987 / ب1989/ أ).

 

ويعكس الصراع بين الرغبة في استخدام هذه القوة الحديدة المتوافرة.  وإدراك مخاطرها غير المؤكدة، حقيقة أن الاطباء، مع كل قدراتهم المتزايدة يقفون موقف تلاميذ أو صبيان المشعوذين. 

فهم هواة ليس لهم أهداف محددة، غير مدركين إدراكا كاملا لكيفية إدارة قدراتهم الجديدة بما تنطوي عليه من نتائج غير متوقفة لمرضاهم كأفراد وللمجتمع ككل.

وفي نفس الوقت يفضل الكثير هذه الحالة من عدم التيقن والتي تتطلب اتخاذ القرارات لكل حالة على حدة محبذة ذلك على القرارات الفئوية أو الطبقية فيما يتعلق باستعمال أو عدم استعمال العلاج بالتكنولوجيا الرفيعة – يفضلون – ذلك على القرارات الصارمة والمناوئة التي يصدرها النظام القضائي التشريعي أو النصوص المجردة الواردة في المواثيق الأخلاقية (انظر الفصل 7).

 

ولقد اشار بعض رجال الاخلاقيات المهنيين إلى أنهم يفضلون أن تكون مهنة الطب بمثابة المراقب على الفضايا المتعلقة بحقوق الإنسان من خلال المواثيق الخاصة بالممارسة. 

وهذا مطبق رغم أن الكثير من المراقبين يشكون في استمرار الأطباء في التمسك بمبدأ النفعية، الذي يقضي بوجوب القيام بالعلاج لغرض واحد هو صالح المرضى وليس صالح أهليهم أو صالح الدولة أو صالح مهنة الطب. 

وبالإضافة إلى ذلك هناك اختلاف كبير في استخدام الوسائل والأجهزة الطبية بين الأطباء كأفراد، والمستشفيات والاقاليم، وغالبا ما يكون هذا الاختلاف مرتبطا بعوامل العرض والطلب في السوق. 

 

نظرا لما للدوافع الشدييدة الحساسية من وجود دائم في القرارات الطبية فإن الأطباء الذين يتمسكون بمثل أعلى ممكن التحقيق لتحسين انفهسم، وبدون وعي في كل الحالت، غالبا ما يحاولون العمل على تحويل مرضاهم إلى أشخاص افضل حالا، وهم يحاولون ظاهريا العمل على تحسين صحتهم. 

ولقد قوى هذا الاتجاه في الغرب نتيجة للبحوث التي دلت على أهمية العادات الشخصية وعلاقتها السببية بالامراض : مثل التدخين، والإكثار من الطعام أو التخمة، وتناول الكثير من الدهون أو الملح، وعدم ممارسة الرياضة. 

فكلها تؤخذ على أنها انغماس ذاتي أو مبالغات.  ففضائل العادات الصحية لها أصول ثقافية تتمثل في القيم التي تقر الاعتدال وضبط النفس.  وقد يكون الاطباء أنفسهم دون قصد مؤديين ودعاة لمثل هذه الفضائل على أنها من خلق أو نتاج ثقافتهم الخاصة.

 

أما الظاهرة الثقافية الجديدة، التي بنيت على التقنيات الجديدة في الطب البيولوجين فهي ظهور اللجان أو المجالس أو الهيئات الاخلاقية. 

فبينما نجد أن الهدف المعلن لهذه التنظيمات هو حماية حقوق المريض والجمهور فإنها تعمل ايضا كأجهزة تدعو إلى نشر وتحمل المسئولية وفوق ذلك قد يفهم أن لها هدفا خفيا هو حماية القيم التقليدية، والعمل على استمرارها على أنها أساسية للحفاظ على تكامل النسيج الاجتماعي المعين الذي تنتمي إليه هذه التنظيمات. 

وعلى المستوى القومي غالبا ما كانت عضوية اللجان مبنية على التنظيمات.  وعلى المستوى القومي غالبا ما كانت عضوية اللجان مبنية على توزيع نسبي بين العلماء والأطباء وغيرهم ممن يعملون في المهن الطبية والمحامين ورجال القضاء ودعاة القيم والاخلاق ورجال الدين إلى جانب ممثلي الجمهور واشتمالها على ممثلي بعض جماعات الضغط المختلفة المعنية. 

 

فعلى سبيل المثال تدور المظاهر السياسية الخاصة بزرع أنسجة الأجنة في الولايات المتحدة حول الوضع المفترض للمرحلة ما قبل المضغة، والمضغية والجنينية على أنهم أشخاص يقتلون بالإجهاض (انظر الفصل 4)، ولذا دعى المعارضون للإجهاض ليكونوا ممثلين في اجتماعات اللجنة العامة حول زرع الأجنة البشرية في الولايات المتحدة. 

ويبدو أن تكوين اللجان التي تتناول هذا الموضوع وغيره من القضايا، وتقاريرها تعكس صورة التنافس بين جماعات العلمانيين والدينيين وبين التحررين والمحافظين الرجعيين، حول ضبط الاخلاق العامة.

وربما بدا ذلك غير مشجع، ومع ذلك وجدنا أناس Annas وإلياس Elias (1989 ص 1079) يشيران إلى أنه بينما لا يمكن أن تحل القضايا الأخلاقية بتصويت الخبراء عليها فإنه يمكن للخبراء ان يساعدوا في توضيح القضايا وتحديدها جماهيريا من أجل تكوين اتفاق جماعي في الرأي.

 

وبالإضافة إلى ذلك فإن القرارات التي تتطلبها تقنيات الطب البيولوجية الجديدة إنما هي قرارات حساسة للغاية، وشديدة الخطورة على حياة البشر لدرجة لا يمكن معها تركها لممثلي الفلسفة والأخلاقيات أو لممثلي القانون وحدهم. 

فإن التفاعل بين الفرد المريض والاسرة، مع الطبيب وهو المسئول المكلف من المجتمع بالرعاية والذي يتعامل عن قرب مع الحالة، يجب أن يظل هو المحور في عملية صنع القرار.  ولكن يجب أن يتوفر للطبيب أفضل ما يمكن من المساعدة الاستشارية الخبيرة.

[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى