العلوم الإنسانية والإجتماعية

الوظائف المعرفية لدى نظرية “بياجيه”

1995 مستويات النمو العقلي

الدكتور محمد مصيلحي الأنصاري

KFAS

نظرية بياجيه العلوم الإنسانية والإجتماعية المخطوطات والكتب النادرة

ينظر بياجيه إلى المعرفة على أنها ليست شيئاً يناله الفرد بسلبية من البيئة ، لكنه مشروع بنائي ، نوع من المغامرة ، يلعب الطفل فيها دوراً نشيطاً ، يؤدي به إلى بناء نظام ما يحكم حياته العقلية.

وتتمثل وجهة نظر بياجيه في أن الفرد منذ طفولته الاولى يواجه مهام حياهت اليومية ، مزوداً بمجموعة من الصيغ الموروثة لعملية اكتساب المعلومات (Mandler, 1983, p. 96)

هذه الصيغ الموروثة تمكن الفرد من استخدام عدد من الأساليب والطرق الوظيفية التي تتصف بأنها تفاعلية ونشيطة ، وتتكون من ميل نحو تنظيم المعلومات التي يواجهها الفرد في بيئته ونحو التكيف مع هذه البيئة من خلال العمليتين التوأم وهما عمليتي الاستيعاب والمواءمة .

ويعتقد بياجيه أن الوظائف المعرفية عكس المحتوى تبقى ثابتة مستقرة خلال مسيرة النمو ، في حين أن المحتوى يتعرض للتغيير باستمرار من عمر لآخر بل ومن موقف لآخر . 

 

ولأن هذه الوظائف العقلية لا تتغير بالعمر ، فإن بياجيه يشير إليها كثوابت وظيفية ، موضحاً أن هذه الثوابت الوظيفية غير المتغيرة هي التي تقود النشاط العقلي خلال مراحل النمو على اختلافها ومحدداً إياها بأنهما عمليتي التنظيم والتكيف (Brainerd, 1978, p. 23) ويصفهما بأنهما عبارة عن مبادئ عامة للسلوك الذكي الذي يتصف به كل افراد الجنس البشري .

لكن ما هي طبيعة هذه الثوابت الوظيفية التي يصدر عنها السلوك الذكي ؟ يجيب بياجيه عن ذلك بأنها عمليات بيولوجية في طبيعتها وما الذكاء إلا امتداد للعمليات البيولوجية التي توجد حيث توجد الحياة ، وما أداء الوظيفة العقلية في نظره إلا نوع خاص من النشاط البيولوجي ، ولذا فإنه يشارك في صفات مهمة مع هذه الأنشطة الأصلية التي صدر عنها (غنيم، 1974: 129) .

ويذهب بياجيه إلى القول بأن "الذكاء نوع من التكيف ولمعرفة العلاقة بينه وبين الحياة عامة ، وجب أن نوضح طبيعة العلاقات التي توجد بين الكائن الحي والوسط المحيط به .  الحياة في الواقع ليتس إلا خلقاً مستمراً لأشكال يزداد تعقيدها شيئاً فشيئاً ، كما أنها تعد تحقيقاً للتوازن المطرد بين هذه الأشكال والبيئة . 

 

فإذا قلنا إن الذكاء هو حالة خاصة من التكيف البيولوجي ، كان معنى ذلك أن نفترض أن الذكاء في جوهره نوع من التنظيم ، وأن وظيفته تنحصر في تمثل الكون مثلما تنحصر وظيفة الكائن الحي في تمثل البيئة المحيطة به مباشرة "(Piaget, 1950, p. 120) وهذه العبارة على أهميتها تكشف عن عمليتين أساسيتين يصدر عنهما الذكاء ، وهما عمليتا التنظيم والتكيف ، فما المقصود بهما على وجه التحديد ؟

أما التنظيم فيشير إلى كل عملية عقلية تتضمن وجود مجموعة من العلاقات المتبادلة والدلالات ، حيث إن كل صورة إجمالية عامة أو كل بنية أو تركيب عقلي تتسق مع غيرها من الصور الإجمالية والبنى والتراكيب العقلية وتكون في مجموعها وحدة تامة ذات أجزاء مختلفة.

وبكلام بياجيه نفسه ، " أن الاتفاق بين التفكير والأشياء"، "اتفاق التفكير مع نفسه"، "إن التفكير ينظم نفسه عندما يتكيف مع الأشياء ، وأنه إذا نظم نفسه بنفسه فإنه ينظم الأشياء في ذات الوقت " (Piaget, 1950, pp. 16-17)".

 

وتعرف عملية التنظيم ايضاً بأنها تكامل بين الخبرات التي يكونها الطفل من خلال تعامله بحواسه المختلفة مع ما يحيط به ، فمثلاً يحاول الطفل الربط بين النظر والقبض على الاشياء ، أو بين النظر والمص.

كما يتضمن تنظيم الخبرة الاتجاه نحو ضم هذه الخبرات في مجموعات من الأنظمة التي نراها عند الأطفال الصغار (الطواب ، 1985: 1809 ويطرح (Flavell, 1971, p. 443) هذا المعنى ذاته في صيغة سؤال ، هل الفرد عندما يكتسب كماً معينا من المعرفة تتفاعل هذه المعارف وترتبط مع بعضها البعض في كليات وظيفية منظمة ام أنه تميل لأن تبقى غير منظمة وغير متكاملة وغير متصلة ؟

ويجيب عن تساؤله بأن هناك عدداً من الدلائل الجيدة التي تجعلنا نقتنع بانها تتفاعل وتنظم نفسها تنظيماً ذاتياً ، ويقول في موضع آخر " إنني أشك في غمكانية تقديم حالة جادة واحدة يتضح منها أن العمليات المعرفية المختلفة التي يتكون منها نظامنا المعرفي لا تتفاعل أو ترتبط مع بعها البعض مكونة بنىٍ معينة (Flavell, 1985, p. 2920.

ويشير بياجيه إلى أن الوظيفة التنظيمية للذكاء يمكن الاستدلال عليها من حقيقة أن السلوك الذكي لا يبدو انه مجموعة عمليات عشوائية من المحاولة والخطأ ، إنه يتصف بأنه تفكير مستقبلي ، تخطيطي ، وبلغه بياجيه أنه منظم بطريقة واضحة متاسكة يمكن إدراكها أو تبنيها في سهولة . 

 

وهذه الأنماط المتماسكة القابلة للتمييز هي ذاتها البنى المعرفية المجردة التي يؤدي التنظيم إلى وجودها ، ولا يكتفي بياجيه بالقول بفاعلية التنظيم في إيجاد البنى المعرفية بل إنه يستخدمه كتبرير لإقرار مبدأ يفسر طبيعة الذكاء ، عندما يبين أن كل فعل ذكي يرتبط بفعل آخر ذكي ، فكأن السلوك الذكي في كل مرحلة عبارة عن كليات متكاملة ونظم من العلاقات والعناصر (Brainerd,. 1978, p. 24) .  

وأما التكيف فهو ببساطة عملية توافق الكائن الحي للبيئة ، تماماً كما يغير الحيوان لون جلده ، حتى يتلاءم مع البيئة التي يعيش فيها ، وكذلك الحال مع الإنسان ، فهو حين يتناول الطعام ، يتكيف جسمه مع الطعام الذي تناوله من خلال هضمه ، وامتصاصه في الأمعاء ، وتوزيعه على الأجزاء المختلفة من الجسم واستخدام ما فيه من فيتامينات ، وغيرها .

عندما تعرض بياجيه لشرح معنى التكيف ، أشار  إلى نقطة بالغة الأهمية وهي أن بعض علماء الحياة يعرفون التكيف بأنه ليس إلا المحافظة على الحياة والاستمرار في البقاء فيها ، أي التوازن بين الكائن العضوي والبيئة.

لكن هذا التعريف من وجهة نظره يفقد معنى التكيف كون عملية ، لأنه يختلط بمعنى الحياة في حين أن التكيف ينبغي التفرقة بين درجاته وبين كل أهميته ، أما عن درجاته فيقول بياجيه أن التكيف يختلف قلة وكثرة.

واما عن التكيف كحالة فهذا أمر غير واضح بالنسبة لبياجيه ، ولو تتبعنا التكيف كعملية تصبح الأمور أكثر وضوحاً ، فهناك تكيف عندما يتحول الكائن العضوي تبعاً للبيئة ، وعندما يفضي هذا التغير إلى نتيجة مؤداها زيادة العناصر المتبادلة بين الكائن العضوي والبيئة على نحو يلائم استمراره في البقاء (Piaget, 1950, p.190.  

 

وكما يتضمن التكيف البيولوجي عمليتي الاستيعاب والمواءمة ، فكذلك يتضمن التكيف العقلي نفس هاتين العمليتين ، وكما أكد بياجيه على الإتصال بين الإستيعاب البيولوجي والإستيعاب العقلي فقد أكد كذلك على الإتصال بين المواءمة البيولوجية والمواءمة العقلية في قوله : " إن الفهم المستوعب والمتوائم والجهاز الهضمي لا يختلف في الحقيقة عن النظام العقلي المستوب والمتوائم (غنيم، 1974: 132) .

ويعرف الاستيعاب )التمثل( Assimilation بأنه العملية العقلية التي بواسطتها يحدث الفرد تكاملاً بين موضوع إدراكي أو حركي أو مفاهيمي وبين مالديه من أنماط سلوكية ، بحيث يمكننا القول بأن الطفل بما لديه من خبرات يحاول أن يحدث تنسيقاً بين هذه الأصوات أو المثيرات الجديدة وبين مالديه من صور عقلية في لحظة ما . 

كما يمكن أن نرى الاستيعاب على أنه العملية العقلية التي نضيف من خلالها كل جديد نواجهه في الموجود لدينا من مخططات .

والاستيعاب يحدث طول الوقت ، وقد يكون من التبسيط المبالغ فيه القول بان الفرد يتعامل مع مثير واحد في وقت ما ، لأن الحقيقة أن الفرد يتعامل مع عدد متزايد من المثيرات في أي وقت ، ولهذا فإن الاستيعاب يعتبر عملية عقلية في حال عمل دائم ، واستيعاب لا ينتج عنه تغيير في البنى المعرفية لدى الإنسان.

لكنه يؤثر في نمو تلكا لبنى ، وهو لهذا جزء مؤثر في عملية النمو ككل ، ويمكن أن يشبه الفرد المخطط أو الصورة العقلية كبالون ، والاستيعاب كعملية وضع مزيد من الهواء في هذا البالون ، البالون يكبر (استيعابه) لكن لا يتغير شكله ،  ولهذا يقال أن الاستيعاب كعملية يسمح بنمو البنى المعرفية دون أن يحسب كمسبب في تغييرها . 

 

وهناك من يرى ان أفضل طريقة للتعريف بالاستيعاب عند بياجيه هي اعتباره عملية تفسير للمعلومات التي يواجهها ، وكما هو الحال دائماً في هذا التفسير ، فإنك كفاية وصحة التفسيرات تعتمد على المستوى الحالي لما لدى الفرد من بنى معرفية.

فكلما زاد مستوى البنى المعرفية لدى الفرد كلما زاد المعنى الذي يستطيع الوصول إليه أو الاستيعاب الذي يمكن أن يتحقق له (Brainerd, 1978, p. 270 وهذا ما يقول به أيضاً (Ausubel, 1978) حول مفهومه للدمج والاحتواء ، وهو ما يقابل الاستيعاب عند بياجيه.

حيث يقرر أنه كلما كانت الأفكار الرئيسة والمفاهيم العامة الموجودة في البنية المعرفية للمتعلم واضحة وثابتة ومنظمة ومتصلة بالموضوع المراد تعلمه ، فإن عملية الدمج أو الاحتواء أو الاستيعاب تتم بفاعية اكثر .  (الانصاري ، 1987: 220) .

أما عن المواءمة Accomodation فتعرف بانها تكوين مخططات أو بنى معرفية جديدة أو تعديل بنى معرفية أو مخططات قديمة .  وكلاهما ينتج عنه تغيير يتضمن نمواً وتطوراً في البنى المعرفية (Wadsworth, 1989, p. 46)

 

فعندما يواجه الطفل مثيراً جديداً يحاول استيعابه فيما لديه من مخططات ، وأحياناً يكون ذلك غير ممكن بسبب عدم وجود مخطط مناسب ، حيث خصائص هذا المثير لا تتفق مع أي من الخصائص الموجودة والتي يمكن الحصول عليها في مخططات الطفل ، ماذا يفعل الطفل عندئذ ؟

الحل يتمثل في أحد امرين فإما أن يكوّن مخططاً جديدا يضع فيه هذا المثير أي أن يضيف بطاقة جديدة للملف الذي يحتفظ به في عقله ، أو أن يطوع ويعدل المخططات الموجودة بحيث يتناسب المثير معها ، وكلا الأمرين يعتبر أحد صيغ المواءمة .

ويؤكد بياجيه (Piaget, 1962) أنه لا يوجد سلوك كله إستيعاب او كله مواءمة ، فكل سلوك يصدر عن الفرد يعكسهما معاً رغم أن بعض السلوكيات قد تكون أقرب لهذه العملية أو تلك مثال ذلك ما نراه في العاب الأطفال فهي أقرب للاستيعاب منها للمواءمة ، وما نراه في محاولة الطفل تقليد الآخرين فهي أقرب للمواءمة منها للاستيعاب . 

وكثيراً ما توصف عمليتي الاستيعاب والمواءمة بأنهما وجهان لعملة واحدة ، وان حدوث جانب واحد من جانبي عملية التكيف دون الآخر أمر غير مطروح للتفكير .

 

وقبل الانتهاء من مناقشة الوظائف المعرفية المتمثلة في عمليتي التنظيم والتكيف ، فإنه ينبغي أن نتوقف أمام مشكلتين فيما يتصل بالعلاقة بين التكيف العقلي والبيولوجي ، المشكلة الأولى تتعلق بسؤال : كيف توفر عمليتي الاستيعاب والمواءمة فرصة إحراز تقدم عقلي معرفي للفرد ؟ ، المشكلة الثانية تتعلق بسؤال : ما الذي يمنع أن يحدث هذا التقدم (إذا كان يحدث) مرة واحدة بدلاً من أن يتم في عملية بطيئة متدرجة؟

بالنسبة للمشكلة الأولى ، يجيب بياجيه بأن أفعال المواءمة تمتد باستمرار إلى المظاهر الجديدة والمختلفة في البيئة المحيطة بنا ، وما إن تحدث مواءمة المظهر الجديد مع التراكيب او البنى القديمة القائمة حتى يتم استيعاب هذا المظهر الجديد في هذه التراكيب أو البنى ، ومن خلال هذا التغير يمكن أن يحدث امتدادات تواءمية أكثر ، وبالتالي يحدث إحراز مزيد من النمو العقلي المعرفي . 

فإذا اضفنا إلى ذلك أن البنى المعرفية ليست ساكنة حتى في حالة عدم تعرضها للمثيرات الخارجية ، إذ أنها تنظم باستمرار داخليا وتتكامل مع غيرها من النظم ، الأمر الذي يمثل مصدراً آخر لإحراز مزيد من النمو العقلي المعرفي .

 

أما بالنسبة للمشكلة الثانية فيجيب بياجيه بأنه لكي يتمكن الطفل من الاستيعاب فلا بد من وجود تنظيم معرفي متقدم بدرجة كافية ، بحيث يمكن أن يتعدل ليسمح للفرد بتمثل ما تضعه عملية المواءمة أمامه . 

وعلى هذا الأساس لا يحتمل حدوث تصدع بين الجديد والقديم ، وفي هذا الصدد يقول بياجيه " إن الاستيعاب له وظيفة أولى هي أن يجعل غير المألوف مألوفاً ، والتركيب السابق لا بد وأن يكون مختلفاً نوعاً ما عن التركيب المستوعب حديثاُ ، وهذا ما يؤكد كلا من التقدم التدريجي والمتصل للنمو العقلي" (Piaget, . 1950, pp. 41-620

ولقد أشار بياجيه إلى اكثر من نوع من أنواع عملية الاستيعاب ، مثل الاستيعاب بالتكرار والاستيعاب بالتعميم والاستيعاب بالتعرف ، وأخيراً الاستيعاب بالاتساق المتبادل بين الصور التي يتم استيعابها ، وهذه الأنواع جميعاً إن دلت على شيء فإنما تدل على الاهتمام الكبير الذي أولاه بياجيه لعمليتي الاستيعاب والمواءمة باعتبارهما جناحي عملية التكيف التي بدورها ومن خلال تفاعلها مع عملية التنظيم تحققان الوظائف الثابتة لكل ما يصدر عن الفرد من نشاط عقلي .

[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى