النباتات والزراعة

النظرية الليبرالية في الزراعة

2014 البذور والعلم والصراع

أبي ج . كينشي

مؤسسة الكويت للتقدم العلمي

النباتات والزراعة البيولوجيا وعلوم الحياة

كندا والمكسيك بلدان مختلفان جداً، حيث إنهما يختلفان ويتمايزان بالثقافة، والزراعة التقليدية، والمناظر الطبيعية ومستويات التنمية الاقتصادية.

غير أن المناهضين [لانتشار] المحاصيل المهندسة وراثياً في كلِّ بلدٍ منهما يواجهون بشكل ملحوظ مقاومة متماثلة في إمكانية وجود حوار ديمقراطي حول الآثار الاجتماعية المترتبة نتيجة استخدام التكنولوجيا الحيوية.

ففي كثيرٍ من الأحيان يجادل دعاة المحاصيل المهندسة وراثياً في كلا البلدين حول ماهية استناد القرارات الخاصة البذور  والأغذية المهندسة وراثياً إلى تقييم العلم لا إلى الاعتبارات السياسة، وخصوصاً في ما يتعلّق بمؤثراتها في صحة الإنسان والبيئة، وكيفية تأثيرها في سُبل عيش المزارعين والمجتمعات الريفية البيئية، والعلاقات الدولية التجارية، أو هيكل الصناعات الغذائية.

ففي هذا الفصل نؤكّد أن الجهود الرامية لنزع الصبغة السياسية (Depoliticize) عن اللوائح التنظيمية الخاصة بتنظيم التكنولوجيا الحيوية الزراعية ستنعكس من جهة لآخرى على هيمنة فكرية سياسية ليبرالية جديدة متزايدة على شمال وجنوب العالم، ومن جهة أخرى نرى عالمياً أن عملية العلمائية [في القرارات] في تزايد كبير.

 

فمن خلال العلمائية التي أعني بها التحوّل في الصراع السياسي (في هذه الحالة التي تتسم بالرغبة في المحاصيل المهندسة وراثياً) إلى النقاش فيما بين الخبراء العلميين، يكون قد تم عزلها ظاهرياً عن السياق الاجتماعي وسبله.

فبعد مناقشة كلا المفهومين [السياسي والعلمي] انتقلت للمكسيك وكندا بكونهما المحور المركزي لهذه الدراسة في هذا الكتاب. فقد وصفت الأرضية السياسية التي تحدّد النقاش حول الجينات الناشزة، والتي تقدم بعض العروض الاستراتيجية للحركات الاجتماعية، لتتمكن من الضغط [في إقرار] أشكال زراعية بديلة.

 إن استخدامي لمصطلح الليبرالية الجديدة في هذا الكتاب ما هو إلا إشارة إلى جملة من الأفكار والممارسات التي أصبحت اليوم بدرجة كبيرة نهجاً مفروغاً منه (Taken-For-Granted) لعلاقات  اقتصاد الدولة في معظم البلدان حول العالم.

ديفيد هارفي (David Harvey) العلميّ الجغرافي عرّف الليبرالية الجديدة بأنها (David Harvey 2005, 2) "نظرية في الممارسات السياسية الاقتصادية تفترض أن الإنسان بمقدوره أن يكون في واقع أفضل، من خلال تحرير حريات تنظيم المشاريع الفردية، ومهارته ضمن إطار عمل مؤسسي يمتاز بوجود حقوق ملكية فردية قوية، وسوق حر، وتجارة حرة".

 

ففي النظرية الليبرالية الجديدة، تقوم الحكومة بمجموعة من الأدوار المتنوّعة لتمكين إطار العمل المذكور. فعلى سبيل المثال، وكما وضّح هارفي:

للدولة أن تضمن… الجودة ونزاهة المال. كما يجب عليها أيضاً إقامة بنية عسكرية ودفاعية وأمنية وقانونية، وأن تؤدي مهامها المطلوبة لضمان حقوق الملكية الفردية حتى ولو كان بالقوة إذ لزم الأمر، وأن تضمن حُسن سير عمل السوق.

علاوة على ذلك، فإذا تعذّر وجود أسواق لـ (مجالات الأرض والماء والتعليم والرعاية الصحية والضمان الاجتماعي أو التلوّث البيئي، فلزام عليها إنشاؤها من خلال إجراءات حوكمة الدولة إذا لزم الأمر. ولكن، على الدولة أن لا تجازف [لتنجز] أعمالاً أبعد في [مرامها] من هذه المهام.

إن الجهود الرامية لخصخصة وظائف الدولة المطروحة ضمن الأفكار الليبرالية واضحة للعيان في تحرير التجارة واستعادة برامج الرعاية الاجتماعية.

 

فجذور الليبرالية الجديدة باعتبارها فكراً سياسياً تُعزى إلى حركة فكرية صغيرة نشأت في سبعينات القرن الماضي يمكنها "نسج مسارات في اقتصاديات حرة متنوعة مع فلسفية فردية مناهضة للسياسات الكينزية" (Anti-Keynesian Politics) (Tickell and Peck 2003, (166، فضلاً عن الاعتقاد العميق باعتبار اقتصاد الليبرالية الجديدة أمراً مفروغاً منه (Campbell and Pedersen 2001, 5).

فالأفكار الليبرالية الجديدة المنتشرة علمياً منذ ثمانينات القرن الماضي على هيئة "برامج تعديل هيكلية" (Structural Adjustment Programs) لإصلاح السوق بواسطة تشجيع صيغة السوق الحر والاستثمار الأجنبي، جاءت لتحل محل التنمية كنصيحة حكيمة لحكومات البلدان الفقيرة (McMichael 2007).

فكما لاحظت عالمة الاجتماع سارة بابا(2005, 200) (Sarah Babb) أن برامج تعديل الهيكلية هذه كانت خطاباً سياسياً صريحاً طوّره رئيس البنك الدولي [في حينه] روبرت ماكنمارا (Robert McNamara) وروّجت له النخب الغربية [الاقتصادية والاجتماعية] تماشياً مع ثورة ريغان الصاعدة.

فقد تمكّن [روبرت ماكنمارا] من إقناع الحكومات ببساطة بتبني تلك الإصلاحات السياسية، تزامناً مع أفكار الليبرالية الجديدة، بسبب تفجّر أزمة ديون العالم الثالث عام 1982م، وللضغط اقتصادياً بما يؤدّي إلى جذب الاستثمار الأجنبي.

فالعديد من الحكومات، بما فيها حكومة المكسيك، تلقوا أيضاً المشورة من هؤلاء الاقتصاديين الذين دربتهم الولايات المتحدة الأميركية والذين يعتقدون بقوة بإصلاحات السوق الليبرالية الجديدة.

 

لقد برزت العالمية لليبرالية الجديدة لكونها خطاباً يعمل على إعادة هيكلة النقاش النامي منذ تسعينات القرن الماضي، وزامنها إنشاء اتفاقيات التجارة الحرة ورافقها جنباً إلى جنب في مناطق منظمة التجارة العالمية (World Trade Organization).

إن إصلاحات الليبرالية الجديدة في الزراعة قد أحدثت تحوّلاً في نظم الأغذية الزراعية العالمية، بما في ذلك الاتفاقيات الدولية للتجارة الحرة، وإلغاء الضوابط التنظيمية في الأسواق، وخفض أو إلغاء الدعم الحكومي العام، وبرامج دعم الأسعار، وخصخصة البحوث الزراعية(1).

فاتفاقيات التجارة، مثل اتفاقية التجارة الحرة لشمال أميركا (North American Free Trade Agreement: NAFTA) تستند إلى مفهوم "ميزة النسبية" (Comparative Advantage) التي تعني تحقيق البلدان أعلى قدر من الفائدة في التجارة الدولية من خلال التخصص في إنتاج أنواع معينة من السلع تعكس موارد البلاد الخاصة فيها (مثل العمالة الرخيصة، أو وفرة الشمس، أو الحصول على تكنولوجيات موفرة للعمالة).

 فبالنسبة للمكسيك سأناقش متابعة الميزة النسبية التي ستُبعدنا بعض الشيء عن السياسات التي ناقشناها في السابق والمتعلّقة بإنتاج الذرة المحلية لإطعام سكان المدن والريف المحليين، ولإنجاح استراتيجية إنتاج المحاصيل المعدة للتصدير (مثل الطماطم)، وإبدالها بالاعتماد على استيراد الحبوب من الولايات المتحدة الأميركية القليلة الكلفة نسبياً.

 

فكما أشار عالم الاجتماع  فيليب ماكمايكل (Philip McMichael (2007, 201)) "يعني الأمن الغذائي في الليبرالية الجديدة تفضيل استيراد الأغذية على الزراعة المحلية في العديد من دول الجنوب". وبالاقتران مع إصلاحات ليبرالية جديدة أخرى مثل إلغاء دعم السلع، وبرامج دعم الأسعار ستُمكّن هذه التغيّرات من جعل أسعار المواد الغذائية ومدخولات المزارعين أكثر قوى السوق ضعفاً [نتيجة لوجود عناصر] خارجة عن إرادتهم.

لاحظ هارفي (2005) أن الفكرة الرئيسية لليبرالية الجديدة تنحصر في حال عدم وجود أسواق تستوجب إنشاءها، وهو ما نمّا مسألة الحقوق الفكرية للمواد الوراثية وأنجزها، وهذا ما مهّد للعديد من الحكومات لتنسحب من دورها التاريخي في تطوير وتوفير البذور المحسنة للزراعة.

فالاتفاقيات الدولية مثل اتفاقية منظمة التجارة العالمية المتعلقة بتجارة حقوق الملكية الفكرية، أعطت حق براءة اختراع التتابع الوراثي/ السلاسل الوراثية (Genetic Sequences) والكائنات الحية المهندسة وراثياً، مما هيّأ أسواقاً جديدة لهذه المواد [المهندسة وراثياً].

 

ونتيجة لذلك، فقد تحوّلت عملية تطوير وتنمية البذور بصورة ملفتة إلى النظر في أن [تكون من مهام] الشركات المتعددة الجنسيات(Hubbard and Farmer to Farmer Campaign on Genetic Engineering 2009; Kuyek 2007b; Raustiala and Victor 2004).

مع تطوّر أسواق التكنولوجيا الحيوية الزراعية وبالرغم من أنها جعلت عامة الناس تتخوّف من مؤثراتها، إلا أن ذلك التخوّف قاد إلى تشكيل مؤسسات حكومية جديدة ولوائح تنظيمية [لتنظيم صناعتها] دولياً ومحلياً على حدٍّ سواء.

مما مهّد ببساطة لليبراليين الجدد [أن يفكّروا] لا بعملية إيجاد أسواق والتحرر من القيود فحسب، بل بالانخراط أيضاً في تنظيم أنواع جديدة من اللوائح التنظيمية لـ "معالجة المخاوف العامة التي يمكن أن تؤدي إلى انهيار الثقة في الأسواق" (Moore et al. 2010).

[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى