العلوم الإنسانية والإجتماعية

العائلة والبيئة والاستدامة في مجتمع السوق النابض بالحياة

2014 مجتمع السوق

سبايز بوتشر

مؤسسة الكويت للتقدم العلمي

العلوم الإنسانية والإجتماعية التكنولوجيا والعلوم التطبيقية

كانت دراسة الاقتصاديات حول مفهوم الاقتصاد تتطور كنظام مغلق ومنفصل مع إعطاء القليل من الاهتمام إلى النُظُم الاجتماعية والبيئية في نطاقها الواسع والتي تتمّ عبرها عملية الإنتاج في الأسواق. وكانت تُشكّل البيئة الطبيعية مصدراً غير محدود من مواد الخام ومصدراً غير محدود للنفايات على حدّ سواء. لقد تم تجاهل الإنتاج غير السوقي إلى حد كبير – أيّ الإنتاج داخل الإطار الأسري – الذي يتمتّع بوظائف وجدانية وإنجابية واسعة النطاق، إذ إنّ العائلة كانت مسؤولة عن التربية والانخراط الاجتماعي ودعم القوى العاملة (الذكور إلى حد كبير) التي تتلقّى الأجور. وفي العقود الأخيرة، لم تعد حالة الإهمال على ما هي عليه وذلك يعود في جزئه الكبير، إلى تغييرات حقيقية في الاقتصاد.

لقد شكّلت حدود الموارد الطبيعية والآثار الضارة للتلوث ودخول المرأة الواسع النطاق إلى سوق العمل، تحدٍّ لكل الافتراضات التي تدعم الإنتاج الفوردي. وقد دفع ذلك إلى التدقيق في قضايا مثل السلوكيات البيئية ورعاية الأطفال ومدّة ساعات العمل والعمل التطوعي. وتنبع هذه الانشغالات أيضاً من الحركات الاجتماعية التي شكّكت في فهمنا للبيئة والأسرة وأثارت تساؤلات هامّة حول الاستدامة ونظامنا الاقتصادي.

وفي هذا الفصل سوف ننظر في كيفية سعي الاقتصاديين لإدماج هذه الشواغل في أُطر التحليل الاقتصادي القائمة. بالإضافة إلى ذلك، سوف نتطرّق إلى إطار إنتاجي بديل يكون فيه إنتاج البضاعة الأساسية المستندة إلى السوق مرتبط في الأنظمة الاجتماعية والبيئية الواسعة النطاق  والتي تشكل جزءاً كبيراً من تجربتنا اليومية.

العائلة والمنزل

ناقش الفصل الأوّل كيف ارتبط صعود مجتمع السوق بتغييرات كبيرة في تنظيم الحياة الاقتصادية. إذ مهّد الإنتاج المنزلي في النُظم الإقطاعية ما قبل الرأسمالية الطريق أمام التقسيم الاجتماعي الذي يزداد تعقيداً في مجال العمل. وتبقى مسألتا الاستهلاك والإنجاب قائمة ضمن الأسر بينما انتقل الإنتاج تدريجياً الى أماكن عمل منفصلة وبالتالي خلق فروقات ميّزت ما بين 'العمل' و'المنزل'. وفي إطار عمليات التسليع والعقلنة، انتقلت المهام التي كانت قبلاً مرتبطة بالمنزل تدريجياً إلى الإنتاج القائم على السوق. كما أنّ الأنشطة مثل الزراعة وإعداد الطعام وصناعة الملابس وإصلاحها وتعليم الأطفال يتمّ "تعهيدها إلى الخارج"(Outsourced)  على نحو متزايد بينما لا تزال السلع النهائية تُستهلك داخل الأسرة.

تقليص مصاريف العائلة

تعتبر النظرية الاقتصادية الكلاسيكية الجديدة المنزل هو الموّرد لعوامل الإنتاج – العمل والأرض ورأس المال – حيث تتلقى الدّخل على شكل أجور أو إيجار أو أرباح (عودة إلى الرسم 1.9). يتمّ استخدام هذا الدخل لشراء البضاعة والخدمات المخصّصة للاستهلاك الفوري، أو ادخاره لاستهلاكه في المستقبل. ومع ذلك، وكما أشارت المنظّرات من النساء، تضطلع العائلة والمنزل بالكثير من الأدوار الهامة الأخرى.

تُؤدي الأُسر الكثير من المهام المجانية التي تساوي بأهميتها إنتاج البضاعة والخدمات في الأسواق، مثل الطهي والتنظيف ورعاية الأطفال. ويبدو أنّ هناك مبررات قليلة لاستبعاد أشكال الإنتاج هذه عن التحليل الاقتصادي علماً أنّها حاسمة لإعادة إنتاج نظام السوق. ويزعم بعض خبراء الاقتصاد المعنيين بالرفاهية بأنه لا يكفي تحليل هذا النوع من الإنتاج وحسب، بل ينبغي إخضاع الدّخل المُنسب إليه (أو الضمني) للضريبة (Chancellor) (1988)!

ومع ذلك، يبقى تحليل الإنتاج المنزلي أكثر صعوبةً من تحليل الإنتاج في السوق. ومن هنا يُشير وارينغ (Waring)(1988)  أنّه لا يمكن للعمل المنزلي أن يُباع، وبالتالي ما هو مجاني، لا يملُك قيمة "اقتصادية". ومن الصعب أيضاً رصد الإنتاج المنزلي بسبب طبيعته "الخاصة". فالأسلوب الأكثر شيوعاً لذلك هو إجراء دراسات استقصائية تعالج كيفية تقسيم الوقت. ويجري خلالها سؤال الناس كيف يقسّمون وقتهم بين العمل لقاء أجر والعمل بدون مقابل والترفيه. وبالتالي يتمّ تقييم الوقت الذي تطلبه العمل غير المأجور عن طريق مقارنته بعملٍ مماثل مدفوع الأجر في السوق. وفقاً لاستطلاعٍ أسترالي أُجري عام 1997، فإنّ قيمة العمل غير المأجور تفوق 260 مليار دولار، وهو ما يعادل نصف اقتصاد السوق الإجمالي (ABS 1997).

غيرت بداية "الاستهلاك الجماعي" (Mass Consumption) الطريقة التي يتم فيها تنفيذ العمل المنزلي عبر عقلنته بطريقةٍ مشابهة للعمل المدفوع. إذ تم تصميم العديد من السلع الاستهلاكية، مثل الغسالات، والأفران والمكانس الكهربائية للمساعدة على تعزيز إنتاجية المنزل. ومع ذلك، فإنه من الصعب تقدير مدى تأثير الأجهزة التي تخفّف من صعوبة العمل المنزلي على إنتاجية الأسر. وذلك لأن الوقت الذي يتمّ تخصيصه للعمل المنزلي قد تراجع (انظر(ABS 2006)) منذ أن دخلت المرأة إلى سوق العمل المدفوع الأجر على نطاقٍ واسع. علاوة على ذلك، يُسجّل الاستطلاع الذي أُجريَ على الوقت الذي تستغرقه المهام المنزلية وليس المردود المتأتي من هذه المهام.

هناك جانب آخر مهمّ للعمل المنزلي وهو العلاقة العاطفية التي تجمع ما بين أفراد العائلة (راجع المربّع 2.9). وخلافاً للسوق "المجهول الهوية" (Impersonal)، بحيث لا نعرف هويات الأشخاص الذين ينتجون البضاعة التي نقوم بشرائها أو بيعها، يعرف الأفراد داخل الأسرة بعضهم بعضاً وتربط فيما بينهم علاقة وثيقة. إلاّ أنّ الصعوبة في تحديد الطبيعة الشخصية للعلاقات العائلية من خلال الأسواق تُثير قضايا مرتبطة بأعمال الرعاية المدفوعة (موضوع يُعالج لاحقاً في هذا الفصل).

المربع 2.9 اقتصاديات الأسرة

منذ الستينات، بدأ عدد من الاقتصاديين تطبيق "الأسلوب الاقتصادي" (Economic Method) على مجموعة واسعة من الظواهر الاجتماعية. ويشمل ذلك القيام بنفس الافتراضات تماماً مثل الاقتصاديين الكلاسيكيين الجدد – من الفرد والمصلحة الذاتية والوكلاء العقلانيين- في سياقات أخرى. استعان الخبير الاقتصادي غاري بيكر(Gary Becker)  (1981) بهذه الطريقة في تحليلات شهيرة ومثيرة للجدل متعلّقة بموضوع الأسرة.

قال بيكر إن العديد من قرارات الأسرة يمكن تفسيرها على أساس من الخطوات الاقتصادية العقلانية. على سبيل المثال، أشار إلى أن احتمال حصول طلاق بين الزوجين كان يتأثر بتكاليفه ومنافعه النسبية، وبالتالي كان الأزواج الأكثر ثراء أقل عرضة للإقدام على الطلاق بسبب التكاليف الباهظة التي ستقع على كاهلهم. وأضاف أيضاً أن الهوّة في العمل المأجور وغير المأجور بين الرجل والمرأة كانت نتيجة حسابات عقلانية. إذ تتغيب المرأة عن عملها لكي تعمل على تربية أطفالها ما يقلل من العوائد على استثمارها في المهارات والتعليم. ومع ذلك، فإن العوائد الاقتصادية لفرص التعليم قد ازدادت مع مرور الوقت، ما أدخل المزيد من النساء إلى سوق العمل، وسبّب انخفاضاً في معدلات الخصوبة.

واعتبر كثيرون المقاربة التي اعتمدها بيكر هجومية لأنه رأى أن العلاقات العاطفية – حب الشريك أو الرغبة في إنجاب الأطفال – يمكن أن تنخفض بحسب المصلحة الذاتية العقلانية. كما اعترضت الحركات النسائية أيضاً على المنهجية الفردانية الشديدة التي يعتمدها بيكر. وزعمت هذه الحركات أنه لم يأخذ بعين الاعتبار المعايير الاجتماعية الجندرية التي تصنّف الرجال والنساء في أدوار مختلفة، أو تعرّضهم للتمييز الهيكلي في سوق العمل (Bergmann 1995). وعلى الرغم من الجدل الذي كان قائماً، فاز بيكر بشكل متسلسل بجائزة نوبل في الاقتصاد وكان لمقاربته تأثير واسع النطاق.

 

 

 

[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى