العلوم الإنسانية والإجتماعية

الشركات ومكان العمل في تنظيم مجتمع السوق

2014 مجتمع السوق

سبايز بوتشر

مؤسسة الكويت للتقدم العلمي

العلوم الإنسانية والإجتماعية التكنولوجيا والعلوم التطبيقية

تماماً كما تحاول الشركات ضبط بيئتها الخارجية للحدِّ من المخاطر، تحاولُ أيضاً في المقابل ضبط بيئتها الداخلية. فهذا شرطٌ أساسيٌّ لضمان إنتاج السلع والخدمات المطلوبة بالمستوى المنشود، وبالأعداد الكافية، وفي أقلِّ وقتٍ ممكن، لتلبية المتطلِّبات المُفترَضة للشارين المُحتمَلين. وتفسيراً لديناميكيات هذه البيئة الداخلية، يقدِّم علماء الاقتصاد والاجتماع نظرياتٍ عدَّة.

النزاع والتعاون والسيطرة في مكان العمل

على النقيض من التقليد الفردي للاقتصاد الكلاسيكي الجديد، يركِّز المنظور الماركسي بالإجمال على مسأَلَتَيْ السلطة والنزاع في تحليله للشركات. فالنظريةُ الماركسية تولي أهميةً خاصة للشركة، لأنَّها الإطار المؤسَّساتي الذي يجري فيه التفاعلُ المباشر بين أرباب العمل (رأس المال) والعمّال (العمل). وتُعتبَر علاقات الإنتاج هذه بمثابة علاقاتٍ سُلطَوية، إذ إنَّ أرباب العمل يستخدمون العمّال، فيُسيطرون عليهم ويدفعونهم بالتالي إلى القيام بأمورٍ قد لا يفعلونها في إطارٍ مختلف. (Wright 2009, pp. 107-109).

وبحسب المفهوم الماركسي، تقوم العلاقةُ بين "رأس المال والعمل" على "الاستغلال"، لأنَّ الرأسماليين يستخدمون العمَّال لإنتاج قيمةٍ تتجاوز قيمة الأجور المدفوعة لهم. وبهذه الطريقة، يُولِّد العمَّال القيمةَ الفائضة التي تُستمدُّ منها الأرباح. ولكنَّ ماركس يرى أنَّ العمَّال أيضاً لديهم غاياتهم ومصالحهم الخاصة، أي أنَّهم يحتاجون إلى أُجورهم لكسب لقمة عيشهم، إلَّا أنَّهم في الوقت نفسه يقاومون محاولات الرأسماليين لاستغلالهم (Lebowitz 1992).

غير أنَّ المدرسة الماركسية باتت تُدرِك مؤخَّراً أنَّ العلاقة بين أرباب العمل والعمّال ضمن الشركات في أيَّامنا هذه، أصبحت أكثر تعقيداً. على سبيل المثال، يعتبر مايكل بوراووي (Micheal Burawoy) (1985, pp.123-128) أنَّ تركيز ماركس على طابِعَيّ الإكراه والسيطرة لا ينطبق سوى على "الأنظمة الاستبدادية" (Despotic Regim) التي كانت سائدة في أماكن العمل في المراحل الأوَّلية من بروز الرأسمالية.

فمع تطوُّر الرأسمالية وشروع الدول في تحديد الحدِّ الأدنى للأجور وغير ذلك من الأُطُر الرامية إلى حماية مصالح العمَّال، فَقَدَ أصحابُ الشركات بعضاً من سيطرتهم الإكراهية. وازدادت بالتالي أهمية التوافق والتفاوض والإقناع في ما يُسمِّيه بوراووي (1985, p. 126) "الأنظمة المُهيمِنة" (Hegemonic Regim) الجديدة لإدارة أماكن العمل (المربَّع 3.7). فصورة الشركة بحسب المنظور الماركسي هي صورةٌ تتخلَّلُها نزاعاتٌ داخلية مستمرَّة، إلى جانب مظاهر الحماية والتعاون في أماكن العمل.

الاتِّحادات العمَّالية والشركات

استعرضنا في الفصل الرابع كيفية تطوُّر الاتِّحادات العمَّالية كجزءٍ من الرأسمالية الصناعية، للدفاع عن مصالح العمَّال. وصحيحٌ أنَّ هذه الاتِّحادات تركِّز في كثيرٍ من الأحيان على النزاعات مع أصحاب الشركات وإدارتها من أجل تحقيق هذه المصالح، غير أنَّها غالباً ما تُساهم أيضاً في تنظيم الشركة. فمن خلال الاتِّفاقات بين الاتِّحادات العمَّالية ومديري الشركات وأصحابها، يُصاغ جزءٌ كبير من الشروط التي تحدِّد أُسُس ضبط العلاقة بين أرباب العمل والعمّال.

فثمَّة مسائل عديدة تخضع للتفاوض، ومنها: مستويات الأجور، ومعايير الصحَّة والسلامة المهنية، وأنواع التدريب التي يُزوَّد بها العمّال. وهذه الاتِّفاقات تؤمِّن الاستقرار والثبات للعمَّال وأرباب العمل. ومن شأن هذه التدابير التي تُلزِم العمَّال والمديرين بمجموعةٍ من الشروط المُتَّفق عليها أن تُساهم في التقليل من النزاعات في أماكن العمل. كمثالٍ عن ذلك، نذكر معاهدة ديترويت المُوقَّعة عام 1949 في الولايات المتَّحدة بين شركة (General Motors) الرائدة في صناعة السيارات والاتِّحاد العمَّالي المعروف باسم (United Auto Workers) (Krugman 2007, p. 138).

في إطار هذه التسوية، وافق الاتِّحاد العمَّالي على الحدِّ من حقِّه في إقامة الإضرابات، وفي المقابل وافقت الإدارة على منح العمَّال الضمانَ الصحِّي، ومعاشات التقاعد، وزيادات الأجور المربوطة بالإنتاجية. فحُدِّدت بالتالي أُسُس ضبط العلاقة بين أرباب العمل والأُجَراء في الشركات الكبرى الاحتكارية في الولايات المتَّحدة، على مدى العقدَين التاليَين. وشكَّل ذلك أساس ما سُمِّي بـ "اتِّفاق رأس المال والعمل"، بحيث ازدادت أجور العمَّال مع زيادة الإنتاجية، وساد السلم نسبياً في القطاع طوال سنوات الازدهار في الولايات المتَّحدة بعد الحرب (Gordon, Edwards & Reich 1994).

ولكن، هذا لا يعني أنَّ الانسجام يطبع العلاقة بين الشركات والاتِّحادات العمَّالية بالضرورة. فلطالما استخدمت الشركات التكتيكات القسرية ضدَّ الاتِّحادات وأعضائها، كإفشال الإضرابات مثلاً، واللجوء إلى أساليب الاقتصاص غير القانوني وإلى عناصر الأمن الخاص لمواجهة العمَّال المُضرِبين أو تهديدهم بالعنف. على سبيل المثال، استُخدِمت هذه التكتيكات في أستراليا في العام 1998، عندما أُوقِف عمَّال تحميل وتفريغ السفن النقابيين قسراً عن العمل، واستعانت الشركة بالعناصر الأمنية الخاصة لحماية العمَّال غير النقابيين، وقد كانوا بغالبيتهم جنوداً سابقين (Trinca & Davies 2000). كذلك، يلجأ أصحاب الشركات أحياناً إلى العقوبات القانونية لمنع الاتِّحادات العمَّالية من القيام بالإضرابات، أو لتغريم وسجن القادة والناشطين فيها.

ظهور الإدارة

في موازاة بروز الهيئات التمثيلية الجماعية للعمَّال، ظهر توجُّهٌ ملحوظ آخر ضمن الشركات الرأسمالية في أواخر القرن التاسع عشر، وهو النهضة الإدارية المهنية. وكان ذلك مرتبطاً بازدياد مستوى تعقيد الشركات الذي يُعزى بجزءٍ كبيرٍ منه إلى ضرورة ضبط بيئتها الخارجية ورصد بيئتها الداخلية. فمع تطوُّر الشركات وتزايُد درجة تشابكها وتكاملها العمودي، اشتدَّ التركيز على إدارة الإنتاج والتسويق للمنتجات والعلامات التجارية (المربَّعَان 1.7 و4.7). ومع الامتداد الجغرافي على أكثر من موقعٍ واحد، زادت أنشطة إدارة الشركات نطاقاً وتعقيداً.

وبالنسبة إلى الكثير من الاختصاصيين، تَعتبَر ظهور الإدارة بمثابة تطوُّرٍ هام في الديناميكيات الداخلية للشركات، حتَّى إنَّها تُشكِّل "ثورةً إدارية" (Chandler 1997). فمع تزايد مستوى تعقيد الشركات، لم يعد لدى أصحابها ما يكفي من الوقت أو الخبرة لتَوَلِّي المسؤوليات اليومية. فأُوكِلت هذه المهمَّة إلى طبقةٍ جديدة من المدراء المختصِّين، فأصبحوا شيئاً فشيئاً معنيين بالقرارات والتوجُّهات الاستراتيجية للشركة على المدى البعيد والقريب.  

في السابق، كانت الشركات الرأسمالية بالإجمال تُدار من قبل أصحابها المباشرين الذين كانوا في غالبية الحالات يشكِّلون أسرةً واحدة أو مجموعةً صغيرة من المساهمين، على عكس الشركات الرأسمالية الكبرى الحديثة حيث الإدارة مفصولة عن أصحابها المباشرين، إذ يتولَّى عادةً المدراء المأجورون الإشرافَ على قرارات مجالس الإدارة. وبحسب النظرية المؤسَّساتية، يتسبَّب هذا الفصل بين الملكية والإدارة بتوتُّراتٍ ونزاعات بين المدراء وأصحاب الشركات.

في هذا الإطار، يشير أدولف بيرلي (Adolf  Berle) وغاردينر مينز (Gardiner Means) في كتابهما الشهير (The Modern Corporation and Private Property) (1932) إلى أنَّ المسؤولين عن القرارات اليومية في الشركة غير مرتبطين بمصالح أصحابها – أي المساهمين – في توليد الأرباح، لأنَّ مداخيلهم تأتي من رواتبهم، وليس من حصص الأرباح. وبمفهوم "نظرية اللعبة"، يُعَدُّ ذلك مثالاً كلاسيكياً عن المشكلة بين "الوكيل والمُوكِّل"، بما معناه أنَّه يجب منح الحوافز للشخص المسؤول عن القيام بخدمةٍ ما (أي الوكيل) لكي يسعى إلى تحقيق مصالح ورغبات "مُوكِّليه".

ولمعالجة هذه المشاكل، اقتُرِح عددٌ من الحلول التي تفاوتت درجات نجاحها. على سبيل المثال، من الشائع اليوم أن يحصل كبار المدراء على علاوات تتيح لهم شراء حصص كبيرة من أسهم المؤسَّسة كحوافز تدفعهم إلى العمل على زيادة الأرباح. ولكنَّ هذه الخطَّة لا تخلو من النواحي السلبية، فقد تشجِّع المدراء على تحقيق ارتفاعٍ مؤقَّت في الأرباح من خلال صرف الموظَّفين لخفض التكاليف. فمن شأن ذلك أن يؤدِّي إلى ربحٍ فوري من حيث "المحصِّلة"، غير أنَّه قد يجعل الشركة أيضاً عُرضةً لتأثيراتٍ معيَّنة على المدى البعيد. وفي العقود الأخيرة من القرن العشرين، تجلَّت هذه التوتُّرات أكثر فأكثر، إذ واجه المدراء عواقب العولمة المجهولة، وبدا أنَّ أرباح الشركة تُعطى الأولوية على حساب العمَّال المحلِّيين والمجتمع بالإجمال.

الشركات والاقتصاد العالمي

تطرَّقت الفصول السابقة إلى مفهوم "العولمة" وما يُثار حوله من جدالات. وفي العقود الأخيرة، ركَّز الخبراء أكثر فأكثر على الشركات، وتحديداً على دورها في هذه الظاهرة. فالمقابلة بين سلطة الدول وسلطة الشركات المتعدِّدة الجنسيات هي موضوعٌ كثيراً ما يشكِّل محطَّ جدلٍ في سياق الحديث عن العولمة. وينقسم واضعو النظريات في حُجَجِهم المؤيِّدة لظاهرة العولمة والمُعارِضة لها. ولكنَّ معظمهم يعتبر أنَّ نهضة الشركات المتعدِّدة الجنسيات وانهيار الكثير من الأنظمة الوطنية والدولية التي نشأت في أعقاب الحرب العالمية الثانية يعكسان تقلص سلطة الدول وتوسُّع سلطة الشركات.

[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى