العلوم الإنسانية والإجتماعية

الشركات والمنافسة

2014 مجتمع السوق

سبايز بوتشر

مؤسسة الكويت للتقدم العلمي

العلوم الإنسانية والإجتماعية التكنولوجيا والعلوم التطبيقية

ناقش علماء الاقتصاد السياسي الكلاسيكيون، مثل آدم سميث، أن المنافسة قد أجبرت الشركات على تخفيض أسعارها والإنتاج بشكل كفوء، وبالتالي، كان سياق المنافسة لا سلوك الشركات هو محط الاهتمام. كانوا مهتمّين خصوصاً بالنتائج الرخيصة لغياب المنافسة في الأسواق. وبذلك فقد طوّر علماء الاقتصاد الكلاسيكيون والكلاسيكيون الجدد نظريات حول الاحتكار، وكذلك حول منافسة احتكار القلة والمنافسة الاحتكارية (راجع أيضاً المربع 2.7). وقد سعت هذه النماذج إلى شرح كيف يمكن للشركات أن تتصرّف في أنواع الأسواق المتعددة التي تسودها شركة واحدة أو قلّة من الشركات.

المربع 2.7 القطاع المصرفي الأسترالي ومنافسة احتكار القلة

يعتبر القطاع المصرفي في أستراليا حالة كلاسيكية عن السوق التي تحتكرها الأقلية. في العام 2010، كانت أكبر أربعة مصارف في أستراليا – Common WealthBank، National Australia Bank، وWestpac وبنك ANZ- تحتفظ ب 75.3% من الودائع وتسيطر على 74.6% من سوق القروض المحلّية. (Chessell 2011). وبعكس الصورة المثالية التي ترسمها النظرية الاقتصادية حول "المنافسة المثالية"، يسيطر على القطاع عدد صغير من الشركات الكبيرة في حين تتنافس المصارف الصغيرة وغيرها من مؤسسات التسليف على بقية السوق.

وتماماً كالبلدان الأخرى، مرّت أستراليا بفترة من الخصخصة وتخفيف حدة الرقابة أو إلغائها في الثمانينات والتسعينات من القرن العشرين، كانت تهدف إلى تحفيز المنافسة في القطاع المصرفي. وفي حين أبصر العديد من مصارف القطاع الخاص النور، فإن العديد منها قد تمّ الاستحواذ عليه أو دمجه بمصارف أكبر. وقد قاد هذا الأمر الحكومة الأسترالية إلى وضع سياسة "الركائز الأربع" (Four Pillars) التي منعت دمج أيٍّ من المصارف الأربعة الكبرى.

وتوفّر الحاجة إلى سياسة الركائز الأربع دعماً للحجة الماركسية القائلة بأن الرأسمالية تميل إلى تركيز رأس المال- فلو أن هذه النزعة لم تكن موجودةً، لانتفت الحاجة إلى هذه السياسة. ولكن هل النزعة إلى احتكار القلّة تطوّرٌ سلبي؟ بالتأكيد يمكن ملاحظة بعض الآثار السلبية.

يبدو أن القطاع المصرفي في أستراليا يوفّر منافسة سعريّة محدودة. وقد وُجّهت اتهامات بالتآمر فيما بينها فيما يتعلّق بتحديد نسب الفائدة. وعلى أقلّ تقدير، يبدو أن هذه المصارف مشتركة في تسعيرٍ "مراعٍ للغير" (Schumpeter 1943, p. 90). وهذا يعني أنها تتفادى المنافسة السعرية التدميرية و"يجاري واحدها الآخر" عبر التنافس بطرق أخرى. مثلاً، عادة ما "تتنافس" المصارف الكبيرة عبر الإعلانات والترويج لخدمة الزبائن "الراقية" لديها.

كما كان من آثار تركيز السوق في القطاع المصرفي، تمتّع المصارف الكبرى بقدر كبير من القوة السياسية ولا يبدو أن السياسيين مستعدّون لتقييد قوّتها السوقية بشكل فعليّ.

قيل أيضاً إن القطاع المصرفي التركزي في أستراليا ساعد اقتصاد البلاد على تفادي بعض الجوانب الأسوأ من الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008.

مثلاً، قال إيان ماكفارلان (Ian MacFarlane) الحاكم السابق لمصرف أستراليا المركزي إن المنافسة دفعت بمصارف في دول أخرى إلى القيام بمخاطر مفرطة من خلال تخفيض المعايير الائتمانية (Yates 2229). كان ذلك أساس أزمة القروض ذات التصنيف الائتماني المنخفض، حيث مُنحت قروض عقارية لأشخاص لا يملكون القدرة على تسديدها وليس لديهم المستندات اللازمة لإثبات قدرتهم على إعادة الأموال.

وقعت الأزمة لأن من قام بذلك كان بعض أكبر وأهم المصارف والمؤسسات المالية في العالم. ولكن في أستراليا، حيث حصة المصارف الكبرى في السوق مؤمنّة نسبياً، لم تنتشر المنتجات المالية "المبتكرة" مثل القروض بلا مستندات والتزام الدين المكفول. لذلك لم تعان المصارف الأربعة الكبرى في أستراليا بقدر ما عانت مصارف دولية أخرى.

يمكن إذاً القول إن القطاع المصرفي الاحتكاري في أستراليا أمّن استقراراً اقتصادياً أكبر إلا أنه خفّض الابتكار وخيارات المستهلك. غير أن المصارف والمؤسسات المالية الأصغر شعرت بوطأة الأزمة المالية العالمية بما أن العديد منها ما عادت قادرة على الحصول على أموال لخدمة الزبائن والاستمرار في النشاطات اليومية.

يقول المنظّرون الكلاسيكيون إنه في حال تراجعت المنافسة بسبب العدد الصغير للشركات في صناعة ما، سيكون لذلك آثار سلبية على الاقتصاد بسبب تضخم الأسعار وتراجع النموّ. وبدون قوّة المنافسة لتؤدّب الشركات، تحصل هذه الأخيرة على "قوّة احتكارية" (Monopoly Power) تمكّنها من التأثير على أسعار البضاعة والخدمات التي تبيعها. أمّا المنافسة فتعني قبول الأسعار التي تحددها قوى السوق من عرض وطلب. ولكن بالنسبة للاقتصادات الكلاسيكية الجديدة العصرية، بقيت مشكلة "الاحتكار" مسألةً هامشيةً أو خاصةً بدل أن تكون القاعدة العامة للاقتصاد، فيما يبقى مبدأ "المنافسة المثالية" افتراضاً في الإطار النظري (الفصل 2 و3).

اعتبر كارل ماركس في انتقاده للاقتصاد السياسي الليبرالي المنافسة هي الوضع الطبيعي، على الأقل في نمذجة عملية التراكم. لقد أقرّ ماركس مثل ما فعل سميث أن التنافس يشجع على تقسيم العمل بشكل أكثر تقدماً فيما تسعى الشركات إلى تخفيض التكلفة. وأشار إلى أنه على مرّ الوقت قد يقود ذلك إلى شركات أكبر ما سيخفض المنافسة، فينحصر الرأسمال الإنتاجي بين يديّ عدد قليل من الشركات حيث إن الشركات الأصغر قد أبعدت من السوق. رأى ماركس هذا النوع من تركيز رأس المال نتيجة طبيعية لعملية المنافسة.

مع نهاية القرن التاسع عشر، كانت الأهمية الاقتصادية للشركات الكبرى تزداد. ففي الولايات المتحدة، تمكنت بعض العائلات النافذة من التحكم بأجزاء كبيرة من الاقتصاد من خلال شركات كانت تمتلكها. فقد بنى أشخاص مثل هنري فورد وجون د. روكفلر ( John D. Rockerfeller) وأندرو كارنيغي (Andrew Carnegie) شركات أحدثت ثورة في الإنتاج وغالباً ما سيطرت على أسواق كاملة، في انعكاس لنظرية ماركس حول تركيز رأس المال.

لطالما أثار أولئك الصناعيون الأثرياء انقساماً في الرأي العام. اعتبرهم البعض "بارونات لصوص" (Robber Barons) يستغلون قوتهم ضد العمّال والمستهلكين، فيما رأى آخرون أنهم يلعبون دوراً مهماً للتوصل إلى نظام في "فوضى" الأسواق التنافسية (Nevins 1940). غير أن قيامة الشركات كانت من محفزات التحليل من أجل مدرسة مؤسساتية جديدة.

كما رأينا سابقاً، يركز التحليل المؤسساتي على التطور التاريخي لمجتمعات السوق وبالأخص المؤسسات والمنظمات التي تطورت في ظلّها. يرى الاقتصاديون المؤسساتيون الشركات الكبرى كاستجابة لطالبات الحقبة الصناعية. وفيما فتحت صناعات جديدة مثل سكك الحديد أسواقاً جديدةً، زاد مستوى الإنتاج، ما يعني أنه تعين القيام باستثمارات أكبر بالإضافة إلى اعتماد معايير ودقة أكبر في عملية الإنتاج.

بالنسبة للاقتصادات المؤسساتية، كانت الشركات أساسيةً في فهم "الموجة الثانية" من الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر. لقد أصبحت الشركات محرّك الاقتصاد حيث كانت تطوّر تكنولوجيات وتقنيات جديدة في جميع المجالات (من الهندسة إلى المالية). قال المؤرخ في مجال الأعمال والإدارة ألفريد تشاندلر (Alfred Chandler) (1977) إن ذلك ساهم في تغيير طبيعة الاقتصاد من اقتصاد تحكمه يد المنافسة "الخفية" حسب سميث إلى اقتصاد تحكمه "اليد المرئية" لمدراء الشركات.

كان ثورشتاين فيبلين (Thorstein Veblen) (1904) قد قال أيضاً إن الشركات أسهمت في إحداث توتر بين الاندفاع الصناعي للمهندسين باتجاه الإنتاج الابتكاري والغريزة التجارية لدى أرباب العمل لتحقيق الربح الأعلى. وقد دفع ذلك أحياناً بمدراء إلى اقصاء اختراعات جديدة قد تتطلب المزيد من التمويل أو التحكم بحجم المخرجات.

لذا بدل رفع الإنتاج عند الأسعار الأدنى، يمكن للشركات أن تزيد الأسعار من خلال تخفيض العرض أو التشجيع على الطلب من خلال "البيع التنافسي" (Competitive Selling).

طوّر جون كنيث غالبرايث (JK Galbraith) بعدها هذا الموضوع قائلاً إن الشركة تشكّل نوعاً جديداً من التخطيط (1967). في الأسواق الأولى، كانت المنتجات بسيطةً نسبياً تتطلب مدخلات بدائية ولا تحتاج إلى يد عاملة ماهرة. وكانت عملية الإنتاج قصيرةً لذا كان الوقت قصيراً بين الاستثمار والحصول على العائدات من خلال المبيع. ولقد لبّت هذه البضاعة أيضاً طلبات أساسيةً ومستمرةً مثل الحاجة إلى الطعام. ولكن فيما توسعت الأسواق صار الإنتاج أكثر تعقيداً، ويقول غالبرايث إن الشركات تطورت لإدارة هذه التعقيدات والمخاطر المرتبطة بها.

مثلاً، ضمنت الشركات حصولها على عمّال ماهرين عبر توظيفهم بشكل مباشر وتدريبهم داخلياً. تمكنت أيضاً من ضمان الحصول على مواد أساسية من خلال إنتاج هذه المواد في وحدات إنتاج فرعية. فيما أصبحت المجتمعات أكثر ثراءً بشكل عام بفضل تحسّن المستوى المعيشي، باتت بعض المنتجات الجديدة أقل أساسيةً، لذا أصبح الطلب أكثر تقلباً. وتم اللجوء إلى التسويق والإعلان من أجل خلق "رغبات" جديدة والتحفيز على الطلب لضمان وجود سوق لمنتج معين عند إطلاقه (مراجعة المربّع 1.7).

قال غالبرايث (1967) إن التطورات المماثلة أدت إلى قطاعين في الاقتصاد. فبقي القطاع التنافسي في بعض الميادين مثل الزراعة، وهو ما تمثّل في عدد كبير من الشركات الصغيرة، إلى جانبه قطاع جديد مخطط له في الاقتصاد والذي تطوّر في قطاعات مثل النفط والصناعات الفولاذية والسيارات.

وإلى جانب مؤسساتيين آخرين، رسم غالبرايث صورةً لاقتصاد يسيطر عليه المهندسون والمدراء بدل رواد الأعمال، يقوم على التخطيط بدل المنافسة. وكما يقول إن "على الشركات أن تتحكم بما يتم بيعه وبما يتم تقديمه، عليها ان تحلّ مكان السوق من خلال التخطيط" (Galbraith 1967, p.24).

أقرّ الاقتصاديون الكلاسيكيون الجدد أنه يمكن للتسويق أن يقوّض الإنتاجية في السوق وكذلك تكوين العلامات التجارية الذي اعتمد مؤخراً. وتسهم العلامات التجارية في التمييز بين المنتوجات ما يدفع المستهلك لرؤية علامات تجارية مختلفة (مثل بيبسي (Pepsi) وكوكا كولا (Coke)) على أنها منتوجات مختلفة ، بدل أن تكون نسخات من المنتج نفسه. والنتيجة "منافسة ليست على السعر" (Non-Price Competition) بل تنافس بين الشركات على جوانب أخرى من المنتج. ويقود ذلك إلى ما يسمّيه الاقتصاديون "منافسةً احتكارية" (Monopolistic Competition)، حتى في داخل الشركات التي يوجد فيها العديد من الشركات المتنافسة.

وفيما باتت شركات كبرى تسيطر على العديد من الأسواق بحلول الخمسينات، راجع المنظّرون الماركسيون نظرياتهم. فقد وضع كلّ من بول باران (Paul Baran) وبول سويزي (Paul Sweezy) عام 1966 نظرية "رأس المال الاحتكاري" (Monopoly Capital) التي بنيت على أفكار ماركس حول تركز وتمركز الأصول الإنتاجية. فقد حدّثا هذه الفرضية لتشمل الوقائع الجديدة للشركات الكبرى، التي ساهم العديد منها بشكل كبير في الأبحاث والتطوير، وبالتالي بالأرباح الإنتاجية في السوق.

تناول باران وسويزي تضمينات نوع رأس المال المتعلق بالشركات، على استقرار الاقتصاد، فاعتبرا أن الشركات الكبرى هي أكثر فعاليةً وقوةً ما يمكّنها من تحقيق أرباح أكبر. ولكن مع توسع الإنتاج، تراجعت فرص القيام باستثمارات جديدة. وقد سبب ذلك توتراً بين الأرباح الكبيرة للشركات وبين الفرص المحدودة للاستثمارات الإنتاجية الجديدة، ما يزيد احتمالات الركود.

غير أن منظّرين آخرين رؤوا قيام الشركات كتطور أكثر إيجابية. دلل الاقتصادي النمسوي جوزيف شومبيتر (1943) أن الابتكار هو القوّة التي تقود مجتمع السوق وليس الأسعار المنخفضة. ونتيجةً لذلك، رأى أن المنافسة تلعب دوراً مختلفاً. فحتى لو استخدمت قوتها في السوق من أجل رفع الأسعار، ستظلّ عرضة لإمكانية قيام المنافسين بابتكار تكنولوجيات جديدة تغير طبيعة السوق بشكل جذري. وكما أشرنا في الفصل الثالث، رأى شومبيتر أن الابتكارات الجديدة تؤدي إلى دوامة من "الابتكار التدميري" (Creative Destruction) حيث المنافسة الضمنية التي تشكلها الابتكارات الجديدة تسهم في تأديب الأسواق حتى تلك التي تكون فيها الشركات المهيمنة قليلة.

ولكن مبدأ "المنافسة الضمنية" (Implicit Competition) قد يكون أقل إثباتاً في الإطار العصري للشركات العابرة للقوميات. فعام 1975، ساهم الاقتصادي الأسترالي إيل (تيد) ويلرايت (Wheelwright) في إنشاء مشروع أبحاث الشركات العابرة للقوميات للتدقيق في نشاطات الشركات العابرة للقوميات في استراليا. وركّز عمله على كيف يمكن للشركات الكبرى أن تتفادى المنافسة وأن تمارس قوّةً سياسية (Crough & Wheelwright 1982).

إن منظمات الأعمال ليست كبيرةً فحسب فملكيتها للموارد تمتد أيضاً إلى العديد من المجالات المختلفة ما يعني أنها تسيطر على جزء كبير من حصة السوق العالمية على صعيد الإنتاج والخدمات والأموال. من خلال تخطيط وإدارة إنتاجها الداخلي الخاص بالإضافة إلى عمليات التوزيع خارج حدود الدول إذ تتملّص الشركات العابرة للقوميات على الأرجح من أنظمة السوق وتشرف على الأسعار في قسم كبير من التجارة العالمية. وبالفعل، أكثر من ثلث تجارة السلع في العالم تحصل اليوم بين شركات عابرة للقوميات وفروعها (Stiwell 2006, p. 249).

 

[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى