الأحافير وحياة ما قبل التاريخ

التتبع الزمني لنشوء وارتقاء الطيُور

2016 طيور العالم

KFAS

نشوء وارتقاء الطيُور الأحافير وحياة ما قبل التاريخ

في عالَمٍ مشبّعٍ بالبخار تزدحمُ فيه أشجارُ السيكاسيّةِ (cycads) والسّرخَس (fern) والديناصورات العملاقة والزواحف الطيّارة، والذي سيتحوّل في زمنٍ لاحِق إلى منطقة “بافاريا”، يموتُ طائرٌ بحجمِ غرابٍ صغير ويسقطُ من مَجثمه إلى المياه الدافئة في بحيرةٍ ضحلةٍ استوائية.

وسرعانَ ما يغطّيه الغَرين (silt) الجيري الدقيق ليُبطئ بذلك معدّل تحلّله، ويتحجّر على هيئةِ مُستحاثة.

ويظلّ الطائرُ راقداً هناك 150 مليون سنةٍ. وتنتقل رواسب البحيرة الضحلة عبر مئات الأميال شمالاً بفعل الانجراف القارّي (continental drift) وترتفع مئاتَ الأقدام فوق سطح البحر بفعل القوى البانية للجبال التي تمزّقُ القارّات وكأنّها مجرّد ورق.

ثمّ وفي سنة 1861 يفصلُ عمّالُ مقالع الحجارة قالبَ الحجر الجيري الذي رقدَ فيه الطائرُ سنينَ كثيرة لاستخدام القالب في أعمال الطباعة الحجرية.

 

الطيور والديناصورات (Birds and Dinosaurs)

يُسلَّمُ سريعاً بأنّ هذه المستحاثة (fossil) التي أُطلق عليها اسم “الطائر القديم الحجري” (Archaeopteryx lithographica) هي مِن أهمّ الأحافير في تاريخ عِلم الإحاثة (palaeontology)، وذلك لأنها ليست من الطيور المألوفة في الزمن المعاصر وتُظهر خصائصَ متعدّدة تربط الطيور بأسلافها من الزواحف.

ويبدو الهيكل العظمي برمّته أشبه أساساً بهيكلٍ عظمي لديناصور صغير. فالفكّان لا يحملان شكلاً مُتحوّراً إلى منقار مثل الطيور المعاصرة، بل هما عظميّان ويحملان أسناناً كثيرة غير متمايزة.

وليس هناك التحامٌ للفقرات العظميّة والذيلُ غيرَ مختزَل، ويتألّف من سلسلةٍ من عناصر الفقرات المستدقّة الطرف.

ولا يحملُ صدرُ الطير أو “القَصّ” (sternum) رافدةً جؤجؤيةً (keel) لربط عضلات الصدر الضخمة اللازمة في دفع الطيران. فلماذا إذن نجدُ هذه المستحاثةَ طائراً بكلّ وضوح؟

تكمن الإجابة في أنّ هناك آثارَ ريشٍ حول عظام الأطراف الأمامية والذيل بما لا يدع مجالاً للشك، وهي مطابقة بِنيوياً لريش الطيور المعاصرة، والريش هو ميزة فريدة عند الطيور.

 

ونجدُ فعلاً أنّ امتلاكَ الرّيشِ هو الذي يعرّف الطيور في طائفةٍ (class) خاصة، وبذلك فإنّ أيّ كائنٍ حيّ يحملُ الريشَ هو طائرٌ من حيث التعريف.

ومِن السِجلّ الأحفوري الضعيف عموماً فيما يتعلّق بفقاريّات اليابسة الصغيرة نعرفُ أنّ الطيورَ ارتقتْ سريعاً من تلكَ البدايات المبكّرة.

فالعصر الطباشيري (Cretaceous period)، الذي دامَ منذ 130-65 مليون سنة خلت، والذي شهد أوجَ التطوّر وانقراضَ الديناصورات شهدَ كذلك ارتقاءَ كثير من الطيور ذاتَ الأسنان وانقراضَها.

وبسبب الظروف اللازمة للتحجُّر (fossilization) فنحن لا نعرف سوى عن أنواعٍ مائيّة مثل “الطائر الغربي” (Hesperornis) اللاطيّار الشبيه بالطائر الغوّاص، أو “الطائر السمكي” (Ichthyornis) الذي لربما كان عديمَ الأسنان، ولكن لا بُدّ وأنْ كانت هناك أشكالٌ برّيةٌ كثيرةٌ أخرى كذلك.

ويظهرُ اختزالٌ كبيرٌ في الذيلِ عند هذين الطائرين ويُظهر “الطائر السمكي” كذلك رافدةً جؤجؤية قَصّيَّةً جيّدة التطوّر وهي إشارةٌ إلى قوّة طيرانه.

 

ومع ذلك فلا بُدّ أنّ ارتقاء الطيور المنقارية عديمة الأسنان قد حدث سريعاً في أثناء العصر الطباشيري لأنّه واعتباراً من بداية العصر الإيوسيني (Eocene)، منذ 65 مليون سنة خلت، كانت كثير من المجموعات المعاصرة قد سبق وأن ظهرت، مثل طيور الغوّاص (divers) والغطّاس (grebes) والغاق (cormorants) والبَجع (pelicans) والنّحام (flamingos) وأبو منجل (ibises) والتفلِق (rails) والطِّيطوَى (sandpipers).

ومُجدّداً نجد انحيازاً في سجلّ الأحافير لصالح الأشكال المائيّة. ومع نهاية العصر الإيوسيني، منذ 36 مليون سنة خلت، كانت قد ظهرت 20 رتبةٍ (order) مُعاصرة على الأقل.

وتُظهر المُستحاثات أنّ الطيورَ المُعاصرة اللاطيّارة، وهي المُسطّحة القَصّ أو الصّدر (ratites) مثل النعام وغيرها، ظهرت أولاً في أثناء العصر الإيوسيني.

ومع ذلك فلا بُدّ أنها قد ظهرت في الواقع قبل انفصال القارّة الكُبرى الجنوبية “غوندْوَانالاند” منذ نحو 100 مليون سنة خلَت، بما أنّ الطيور القريبة منها مثل الأمْو (ص 282) والنعامة (ص 186) والرّيّة (ص 96) لا بُدّ أنها ظهرت في أستراليا وأفريقيا وأميركا الجنوبية على التوالي.

وهذا التعارُض بين سجلّ الأحافير والنظرية يكاد يعود بكل تأكيد إلى أنّ هذه الطيور هي ذات موائل قاحلة ونادراً ما تكون الظروف فيها مؤاتية للتحجّر على هيئة مُستحاثات.

 

تُظهر المُستحاثات كذلك أنّ الطيورَ لم تكن موجودةً قبل العصر الجوراسي (Jurassic). فقد ظهرَت وانقرضَت أنواعٌ (species) كثيرة على مدى 100 مليون سنة قادمة. وليس هناك شك في حدوث الارتقاء.

فمثلاً تُظهر مُستحاثات العصر الطباشيري أنّ الظروف كانت مؤاتية لحفظ الأنواع البحريّة في ذلك الوقت ومع ذلك فالفصائل البحريّة الهامّة، مثل فصيلة البطريقيّة (Spheniscidae)، وفصيلة الغفليّة (Sulidae)، وفصيلة النّوّية (Procellariidae)، وفصيلة المشّاءة في الماء (Hydrobatidae)، لا تظهر في السجلّ الأحفوري حتى العصر الإيوسيني أو حتى بعد ذلك. ولكنْ كيف يحدثُ الارتقاء؟

حتى نفهمَ هذا الأمرَ علينا أن نُدركَ أنّ كلّ نوعٍ يُظهر خصائصَ تناسبه لاتخاذِ أسلوبِ معيشةٍ معيّن.

وتُسمّى هذه الخصائص “مَــــظاهِر التكيّف” (adaptations). فمثلاً تُظهر جميعُ الطيور المُعاصرة وسائلَ تكيّفٍ متعددةٍ للطيران، فللطيور السابحة أقدامٌ مكفّفةٌ وللأنواعِ البحريّة غددٌ خاصةٌ تفرزُ المِلحَ.

 

وفي القسم التالي سوف ننظر بتفصيلٍ أكبر في مَظاهِر التكيّف عند الطيور، ولكنْ يكفينا هُنا أن ندركَ أنّ الحاجةَ إلى التكيّف في عالَمٍ متغيّر هو مفتاحُ الارتقاء.

وتُظهر الملاحظةُ أنّ كثيراً مِن أفراد أيّ نوعٍ يعيش في البرّية تُنتجُ ذرّيةً يفوقُ عددُها قدرتَها على البقاء لتتكاثر في النهاية.

وبوجود الاختلاف بين أفراد المجموعة والذي يعكس الاختلاف في الخريطة الوراثية لكلّ فرد (وهو الحمض الريبي النووي المنزوع الأكسجين “DNA” الموروث من الأبوَين) يتعيّن علينا أن نتوقع قدرة بعض أفراد النوع على البقاء بفضل الخصائص الموروثة أكثر من البعض الآخَر.

ويُسمّى هذا التفاوت الذي يمكن ملاحظته بين الجماعات الحقيقية الناشئة في البرّية “انتخاباً طبيعيّاً” (natural selection) (حيث عملت بيئة أفراد الجماعات الناجية على “انتقائها”) لتمييزه عن “الانتخاب الاصطناعي” (artificial selection) الذي يقوم به مربّو الحيوانات والمزارعون منذ قرون.

[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى