هل دخل مناخ الأرض مرحلة «صدمة الإنهاء»؟
أنقذت تنقية الغلاف الجوي من التلوث ملايين الأرواح، لكنها في الوقت نفسه أعطتنا، عن غير قصد، لمحة عن أحد أكثر السيناريوهات المناخية قتامة. والسباق محتدم لفهم مدى خطورة ما يحدث، وكيف يمكننا تفادي أسوأ العواقب.
بقلم مادلين كَاف
تخيّل أن السنة هي 2050، وأن العالم توصّل أخيرًا إلى طريقة لوقف الاحترار العالمي. لا، ليس عبر العمل الشاق المتمثّل في خفض انبعاثات الغازات الدفيئة، بل من خلال رشّ جسيمات عاكسة في طبقة الستراتوسفير لتقليل ضوء الشمس الواصل إلى الأرض. تعمل الخطة كما هو متوقّع: تستقرّ درجات الحرارة عند مستوى سطح الأرض، وتستمرّ الحياة كالمعتاد، مع تزايد تركيزات ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي.
لكن فجأة، يحدث خلل ما. تتعطّل أجهزة الرش، أو تنفد الأموال، أو تضرب جائحة جديدة العالم، أو تندلع حرب عالمية توقف العملية. أيًّا كان السبب، يبدأ الكوكب في الاحترار سريعًا مع تفعيل تأثير سنوات من الانبعاثات المتراكمة. تعجز الأنظمة البيئية عن التكيّف، وتنقرض أعداد هائلة من الكائنات الحية، وتعمّ الفوضى المجتمع البشري.
يطلق العلماء على هذا السيناريو الكارثي، وغيره من السيناريوهات التي تبدو كأنها من روايات الخيال العلمي، اسم «صدمة الإنهاء» Termination Shock. غير أن ما لا يدركه معظم الناس هو أننا، خلال السنوات القليلة الماضية، بدأنا نختبر بأنفسنا نسخة مصغّرة من هذه الصدمة.
أدّت الجهود العالمية لتحسين جودة الهواء، عبر إغلاق محطات توليد الطاقة العاملة بالفحم وتنقية وقود السفن، إلى إنقاذ ملايين الأرواح خلال العقود الأخيرة. غير أن لهذه الجهود جانبًا آخر؛ فالتلوث الجوي كان يسهم أيضًا في تبريد الكوكب. ومع إزالته، انطلقت موجةٌ من الاحترار أدّت إلى اضطراب أنماط الطقس في أنحاء العالم.
وبفضل التقدّم في نمذجة المناخ، بدأ العلماء يفهمون الأثر الحقيقي لمساعينا إلى تنقية الهواء على العواصف الرعدية وموجات الحرّ والنظم البيئية البحرية. والأهم من ذلك أن هذه التغيّرات قد تكون لمحة عمّا يمكن أن تبدو عليه صدمة الإنهاء في حال حدوثها على نطاق واسع. يقول تيانلي يوان Tianle Yuan، من وكالة ناسا NASA: «إنها بالتأكيد تعطينا صورة أولية عمّا يمكن أن يحدث».
الحد من تلوث الهواء
لو عدنا بالزمن إلى العام 2012 في الصين، لوجدنا بلدًا يختنق تحت وطأة تدهور جودة الهواء؛ فقد كانت الصين تُسجل أكثر من مليون وفاة سنويًّا بسبب السكتات الدماغية، وأمراض القلب، وسرطان الرئة المرتبطة بتلوث الجسيمات الدقيقة Particulate matter pollution. تصاعد الغضب الشعبي حينها، واندلعت احتجاجات ضخمة وعنيفة في أنحاء البلاد.
دفعت هذه الأزمة الحكومة إلى التحرك، ففرضت قيودًا صارمة على التلوث الصادر عن محطات الطاقة والمصانع، وشجّعت على تطوير مصادر الطاقة المتجددة بدلا من محطات الفحم. وقد أدى ذلك إلى انخفاض سريع وملحوظ في معدلات تلوث الجسيمات الدقيقة وثاني أكسيد الكبريت؛ إذ تراجعت انبعاثاتها إلى النصف والثلثين على التوالي منذ العام 2012.
وفي الاتجاه نفسه، وضعت المنظمة البحرية الدولية International Maritime Organization (اختصارا: المنظمة IMO)، في العام 2020 قواعد جديدة تحدّ من انبعاثات السفن، فقلّلت من كمية ثاني أكسيد الكبريت المنبعثة فوق الموانئ الملوّثة، وعلى امتداد المحيطات بأكثر من الثلثين خلال ذلك العام.
![]()
نظام بيانات الانبعاثات المجتمعية في العام 2024
أنقذت هذه الإجراءات ملايين الأرواح، وحسّنت الصحة العامة، وأسهمت في الحد من مشكلات بيئية مثل المطر الحمضي. لكن ثمة مفارقة: يساعد الهباء الجوي الكبريتي Sulphur aerosols على تبريد الكوكب، وذلك بطريقتين رئيسيتين؛ أولًا: يتصرف مثل مرايا متناهية الصغر تعكس ضوء الشمس إلى الفضاء. وثانيًا: يعمل كنواة لتشكّل قطرات التكاثف؛ مما يساعد على جعل السحب أكثر كثافة وبياضًا، ومن ثم أكثر قدرة على عكس الضوء. يوضح روبرت وود Robert Wood، من جامعة واشنطن University of Washington ، قائلًا: «إذا زاد عدد جسيمات الهباء الجوي، فإن عدد القطرات يزداد، وتزداد معها المساحة السطحية الإجمالية للقطرات؛ مما يؤدي إلى انعكاس قدر أكبر من أشعة الشمس».
لاحظ علماء المناخ هذا التأثير المبرِّد منذ سبعينيات القرن الماضي. ويُقدّر أنه أسهم في تخفيف أثر الاحترار الناتج عن انبعاثات الغازات الدفيئة Greenhouse gas emissions بنحو 0.5 °س، مع أن هامش عدم اليقين في هذه التقديرات كبير.
لذا، ليس من المستغرب أن تكون جهودنا لتحسين جودة الهواء قد جاءت مصحوبة بزيادة إضافية في الاحترار العالمي؛ فالإجراءات التي اتُخذت للحد من التلوث في شرق آسيا وحدها تفسّر نحو 5% من الزيادة في درجات الحرارة العالمية منذ العام 1850، وفقا لدراسة نُشرت في 2025.
تحولات في الطقس نحو التطرف
ما أثار دهشة علماء المناخ هو أن بعض مناطق العالم شهدت استجابات غير معتادة، بل ومتطرفة أحيانًا، على المستوى الإقليمي، نتيجة إزالة التلوث بالهباء الجوي. لكن بفضل التحسينات التي طرأت على نمذجات المناخ التي صارت قادرة على محاكاة هذه التأثيرات، صار في وسعنا أن نفهم – وبدرجة من التفصيل لم تكن متوافرة من قبل – كيف تؤدي هذه الجهود إلى بؤر احترار وتحولات نحو ظواهر الطقس المتطرفة حول العالم.
مثلًا، صار عدد ضربات البرق أقل فوق ممرات الشحن البحري، ويُعتقد أن السبب هو انخفاض عدد جسيمات الهباء الجوي المنبعثة من مداخن السفن، والتي كانت تُسهم في تكوين بلورات جليدية مشحونة كهربائيًّا. وفي المقابل، شهدت مناطق أخرى زيادة في الأعاصير المدارية Tropical cyclones، وظهور بقع دافئة من مياه المحيط، أو موجات حر أكثر شدة. ولا يمكن تفسير هذه التغيرات إلا عند إدخال اتجاهات التلوث بالهباء الجوي ضمن محاكاة المناخ. يقول بيورن سامسِت Bjørn Samset، من مركز البحوث الدولية للمناخ والبيئةCenter for International Climate and Environmental Research في النرويج: «لا أعتقد أن أحدًا كان يدرك تمامًا مدى تأثير (إزالة التلوث) هذا على المناخ الإقليمي».
تأثير الهباء الجوي الناتج عن النشاط البشري في المناخ أكثر تعقيدًًا واتساعًًا مما كنا نظن
في الواقع، لقد دفعت ضخامة هذه التغيرات وتنوُّعِها بعض الباحثين إلى وصف الإزالة السريعة للهباء الملوث بأنها «صدمة الإنهاء». مثلًا، يصف يوان تأثيرات لوائح المنظمة IMO الخاصة بالشحن بأنها «صدمة إنهاء غير مقصودة بفعل الهندسة المناخية ذات تأثير عالمي».
ويقول: «كان الهدف من تنظيم استخدام الوقود هو الحد من تأثير هذه الجسيمات على صحة الإنسان، سواء في المدن الساحلية أو بين السكان عمومًا. لكن عندما تقلل (من هذا النوع) من الانبعاثات الملوثة، فإن لذلك التأثير نفسه، مثل أن التالك تقلل فعليًا من عدد جسيمات الهباء الجوي في الهواء». وهذا التأثير معاكس تمامًا لاستراتيجيات الهندسة المناخية Geoengineering المقترحة، والتي تقوم على حقن الهباء الجوي في طبقة الستراتوسفير لتعكس ضوء الشمس، ولهذا يصفها يوان بأنها نوع من «الهندسة المناخية العكسية» Reverse geoengineering.
وليس مُستغربًا أن تظهر بعض أكبر التحولات في الصين؛ ففي العام 2022، كانت موجات الحر في شرق الصين أكثر شدة بما يصل إلى0.5° س، نتيجة لتحسين جودة الهواء في البلاد. لكن هناك أيضًا ما يُعرف بالروابط المناخية البعيدة Teleconnections، وهو مصطلح يُستخدَم في علم المناخ للإشارة إلى أن تغيرًا في منطقة من العالم قد يؤدي إلى تحول مناخي في منطقة أخرى تبعد عنها عشرات آلاف الكيلومترات. ومن الأمثلة على ذلك ظهور موجات حر بحرية شديدة، أُطلق عليها اسم «البقع الدافئة» Warm blobs، في المحيط الهادئ قرب ألاسكا خلال العقد الماضي، قد تكون نتيجة تراجع التلوث بالهباء الجوي في الصين.
اقترح باحثون، في ورقة علمية نُشرت في 2025، أن انخفاض الانبعاثات الملوثة في شرق آسيا أدى إلى ارتفاع حرارة المناطق الساحلية، ما أطلق سلسلة من التفاعلات في أنظمة الطقس، انتهت بارتفاع درجات حرارة المياه في المحيط الهادئ. وفي أكثر الأحيان ترتبط البقع الدافئة بنفوق الأسماك وظهور الطحالب السامة. يقول شياو تونغ تشنغ Xiao-Tong Zheng من جامعة المحيط في الصين Ocean University of China في مدينة تشينغداو Qingdao، وهو أحد المشاركين في إعداد الورقة: «إن تأثير الهباء الجوي الناتج عن النشاط البشري في المناخ أكثر تعقيدًا واتساعًا مما كنا نظن».
ابيضاض الشعاب المرجانية
تسبّب انخفاض الهباء الكبريتي الناتج عن الشحن البحري أيضًا في إلحاق الضرر بالبيئات البحرية؛ فقد خلصت دراسة نُشرت في شهر يونيو 2025، قبل خضوعها لمراجعة الأقران، إلى أن الحاجز المرجاني العظيم Great Barrier Reef في أستراليا، والذي يعاني أصلًا من ضغط التغير المناخي، قد تعرّض لمزيد من الاحترار نتيجة تنظيف قطاع الشحن؛ مما جعل الشعاب المرجانية أكثر عرضة للابيضاض Bleaching.
وقد بلغ التأثير حدًّا دفع بعض الباحثين إلى اقتراح أن تُخفف المنظمة IMO من قواعدها البيئية في أعالي البحار، لاستعادة بعض التأثير المبرِّد للكبريت. والفكرة هي أن المناطق البحرية النائية البعيدة عن الموانئ لا يُتوقَّع أن تتأثر صحيًّا بانبعاثات سفن الحاويات؛ لذا فإن الحاجة أكبر إلى النظر في تأثيرات هذه الانبعاثات على النظم البيئية، مثل ابيضاض الشعاب المرجانية.
تقترح النتائج أن التلوث بالهباء الجوي قد يكون عاملًا في كبح بعضٍ من أسوأ تداعيات التغير المناخي في مناطق أخرى من العالم. يذكِّر سامسِت بأن الرياح الموسمية الهندية Indian monsoon، وهي أمطار صيفية غاية في الأهمية، تؤمِّن أكثر من ثلاثة أرباع كمية الأمطار السنوية في البلاد. ازدادت شدة الأمطار الموسمية في الهند خلال السنوات الأخيرة عمومًا، نتيجة لانبعاثات الغازات الدفيئة التي عززت الرياح الموسمية فوق المحيط الهندي؛ مما أدى إلى أنماط مطرية أكثر غزارة على اليابسة، تسببت في فيضانات مدمّرة. لكن، يقول سامسِت، هذا التأثير تراجع بشكل ملحوظ بفعل المستويات العالية من تلوث الهواء في الهند والصين؛ لأن الهباء الجوي يبرّد الغلاف الجوي، ويضعف القوى التي تولِّد الأمطار.
![]()
ويُعدّ هذا عاملًا مهمًّا ينبغي للهند أن تأخذه في الحسبان وهي تخطط للتعامل مع مناخ متغيّر؛ فعلى الرغم من أن انبعاثات الغازات الدفيئة المستمرة ستواصل تعزيز الرياح الموسمية، فإن التوقعات تشير إلى أن الهند ستلحق قريبًا بالولايات المتحدة وأوروبا والصين في تقليص تلوث الهواء، مع انتقالها إلى مصادر طاقة أنظف. وهذا من شأنه أن يُزيل التأثير المثبّط للهباء الجوي، كما يقول سامسِت: «فجأة، سنرى تصاعدًا شديدًا في شدة الرياح الموسمية… هذا هو الدافع الحقيقي لفهم التغيرات الإقليمية في الهباء الجوي. يمكننا أن نتوقع، على نحو أفضل، ونخطط على نحو أدق للتغيرات المستقبلية».
مع أن أشد التغيرات المناخية تحدث على المستوى الإقليمي، فإن التراجع السريع في التلوث بالهباء الجوي ترك أثرًا عالميًّا على وتيرة الاحترار. وتشير أبحاث نشرها يوان، في العام 2024، إلى أن لوائح المنظمة IMO الخاصة بالشحن قد تؤدي إلى زيادة معدل احترار المحيطات العالمية مرتين (أو أكثر) خلال عقد العشرينيات الحالي، مقارنة بالمعدل المسجل منذ العام 1980. وهذا يعني أننا قد نشهد تحطيم درجات الحرارة القياسية عدة مرات خلال هذا العقد.
قد نشهد تحطيم درجات الحرارة القياسية عدة مرات خلال هذا العقد.
ومع ذلك، يتحفظ بعض الباحثين على وصف استجابة الكوكب للهواء الأنظف بأنها «صدمة إنهاء»؛ إذ يرى جيمس هايوود James Haywood، من جامعة إكزتر University of Exeter في المملكة المتحدة، أن الصدمة الكاملة الناتجة عن التوقف المفاجئ لمشروع الهندسة المناخية ستكون أشد بكثير. ويقول إن هذا المصطلح ينطبق عندما ترتفع درجات الحرارة بسرعة وبفارق كبير، بحيث تعجز النظم البيئية عن التكيّف: «إن تأثير الإنهاء لا يصير مشكلة فعلية إلا إذا كان حجم القفزة [في درجات الحرارة] غير مسبوق على المستويين العالمي والإقليمي».
ويقول هايوود إن لوائح المنظمة IMO قد عجّلت بالاحترار العالمي بنحو ثلاث سنوات، ما يعني أن هامش التغير ليس كبيرًا بما يكفي ليُعدّ صدمة إنهاء كاملة: «لن تكون هناك مشكلة كبيرة في قدرة النظم البيئية على التكيّف مع إطلاق ثلاث سنوات من الاحترار العالمي دفعة واحدة. المشكلة الحقيقية ستكون إذا أُطلق احترار ثلاثين عامًا في فترة وجيزة جدًّا».
وبصرف النظر عن المصطلحات، قد تحمل هذه الظواهر عِبرا مهمة لفهم المخاطر والفرص المحتملة لأي تدخلات مستقبلية واسعة النطاق في مجال الهندسة المناخية؛ فالبحث العلمي في مجال الهندسة الشمسية Solar geoengineering يحظى بمزيد من الاهتمام، مع سعي العلماء ورواد الأعمال، إلى إيجاد حلول لإنقاذ بعض أكثر النظم البيئية هشاشة في العالم، مثل الشعاب المرجانية والجليد البحري القطبي. ويقول باحثون، من بينهم سامسِت وتشِنغ، إن التدخلات المتعمدة كهذه قد تستفيد يومًا ما من بيانات توضّح كيف تؤثر التغيرات في انبعاثات الهباء الجوي على أنماط الطقس، بما في ذلك موقع الانبعاث، وفصل السنة، ونوع جسيمات الهباء، وكلها عوامل تؤثر في النتائج المناخية اللاحقة. ومع ذلك، يحذّر تشِنغ من أنه إذا أُديرت هذه التدخلات على نحو غير سليم «فقد تؤدي الهندسة المناخية إلى تفاقم علامات التغير المناخي وظواهر الطقس المتطرفة في بعض المناطق».
ويشاطره هذا الرأي دانييلي فيزيوني Daniele Visioni، من جامعة كورنيل Cornell University في ولاية نيويورك، ويقول: «من جهتي، الدرس الأهم هو أنه لا توجد قرارات خالية من المخاطر في عالمنا المعقّد. الهندسة المناخية ليست عصا سحرية، ولن تُزيل مشكلاتنا بضربة واحدة».
© 2025, New Scientist, Distributed by Tribune Content Agency LLC