العلوم الإنسانية والإجتماعية

طريقة (داخل التسليع وخارجه ) في عملية التسليع لبناء مجتمع السوق

2014 مجتمع السوق

سبايز بوتشر

مؤسسة الكويت للتقدم العلمي

العلوم الإنسانية والإجتماعية التكنولوجيا والعلوم التطبيقية

إن عملية التسليع ليست حركةً خطيةً، بل هي تتطور بشكل غير متساوٍ وهي عرضة لتداخل عوامل سياسية واجتماعية واقتصادية. وفي خلال القرنين الماضيين، تم تأمين خدمات اجتماعية في أوقات مختلفة من قبل السلطات العامة والشركات الخاصة على حدّ سواء. فالسجون على سبيل المثال، كانت تدار من قبل شركات خاصة في بريطانيا حتى عام 1877 حين تم تأميمها  (Mehigan & Rowe, 2007 p. 356). حينها، نزع تسليع السجون، ما يعني أن الخدمات باتت مقدمةً مباشرةً من قبل الدولة، بدل أن يتم بيعها في السوق (مراجعة المربع 5.2). ولكن عام 1998، عادت الحكومة البريطانية إلى التسليع من خلال التعاقد مع شركات خاصة من أجل تشغيل سجون جديدة (Mehigan & Rowe, 2007, p. 361).

وعلى صعيد مماثل، حين وصلت أول حكومة ذات أغلبية من حزب العمال إلى السلطة في بريطانيا عام 1945، أمّمت مرافق وصناعات أساسية مثل الفحم والطيران والكهرباء والغاز وبنك إنجلترا (Parker 2009, pp. 6-7). وفي الثمانينات والتسعينات، في ظلّ حكومات مارغريت تاتشر (Margret Tatcher) وجون ميجر  (John Major) المحافظة، تم تخصيص العديد من تلك المرافق وتسليعها. ولكن في العام 2008، سجلت خطوة جزئية تجاه العودة إلى التأميم والتسليع حين أممت الحكومة البريطانية مصرف "نورثرن روك" (Northern Rock) غداة الأزمة الاقتصادية العالمية.

المربع 5.2 نزع التسليع أو إعادة التسليع؟

يرتبط تاريخ الرأسمالية في جزء كبير منه، في دمج الجوانب الكبرى من الحياة الاجتماعية في السوق. غير أن العديد من الخدمات الاجتماعية لا تندرج بدقة في تعريف السلعة لأن الأشخاص لا يعتمدون على السوق لاستخدامها. ويمكنك هنا أن نأخذ الرعاية الصحية على سبيل المثال، ففي العديد من البلدان، تضمن الدولة حصول مواطنيها على الرعاية الصحية. وفيما تقدم بعض وسائل الرعاية الصحية من قبل مؤسسات خاصة من خلال السوق، فإن المواطنين لا يعتمدون على السوق من أجل الحصول على هذه الرعاية. ويستخدم بعض الباحثين مصطلح "نزع التسليع" (Decommodification) لوصف هذه العملية.

ويقول غوستا إسبينغ- أندرسن (Gosta Esping- Andersen) أحد أبرز منظرّي دولة الرفاه، إن "نزع التسليع يحصل حين تقدم خدمة على أنها حقّ، وحين يمكن للإنسان أن يحصل عليها بشكل يحفظ حياته بدون الاعتماد على السوق" (1990, pp. 21-22). ويقول إسبينغ- أندرسن إن بعض أشكال الإجازات المرضية وإجازة الأمومة هي مثال على نزع تسليع اليد العاملة لأن الدولة تفرض على أرباب العمل أن يتمكن العمّال "بحرية وبدون احتمال فقدان وظيفتهم، أن يتغيبوا عن العمل حين يعتبرون أن ذلك ضرورياً" (1990, p. 23). ولو كانت اليد العاملة سلعةً صافيةً، لكان ذلك الغياب سيؤدي إلى فقدان الدخل لأن العامل لا يعد جزءاً من عملية الإنتاج في حينها.

غير أن بعض الباحثين الآخرين يعارضون هذا المبدأ من نزع التسليع. فيقول كلوس اوف (Claus Offe) على سبيل المثال إن جزءاً من تنظيم الدولة للعمل يشمل عملية "إعادة تسليع إدارية" (1984). فبدل حجر اليد العاملة عن السوق، تدمج الدول اليد العاملة في السوق وذلك من خلال تأمين التعليم والتدريب، فتضمن عمالاً ذوي مهارات ملائمة لسوق العمل.

وبعد أوف، باتت البرامج التي تتطلب من الناس القيام بالتدريب أو عمل يدوي من أجل الحصول على مساعدة بطالة، مثال على "إعادة التسليع الإدارية". هذا لأن الدولة تعمل لضمان مشاركة الأشخاص في سوق العمل، بدل السماح لهم ببساطة في الوجود خارجه(Holden 2003)  . إذاً، تلعب الدولة دوراً متناقضاً في ما يتعلق بالتسليع. فهي تنزع التسليع من جهة وتعيد التسليع من جهة أخرى، ما يشبه "الحركة الثنائية" لدى بولانيي.

ولكن ليس من السهل دائماً، تحديد ما إذا كان شيء ما مسلّع أو غير مسلّع. لنأخذ النقل العام على سبيل المثال، غالباً ما توفر الدولة القطارات والحافلات لا من أجل تحقيق الربح بل من أجل هدف اجتماعي أوسع يتعلق بتسهيل حركة الناس. ولكن نادراً ما يتوفر النقل العام مجاناً وأحياناً تتعاقد الدول مع شركات خاصة ساعية للربح لتشغيل نظام النقل العام، ما يعني أن النقل العام لا يتلاءم بدقة مع تعريف إسبينغ- أندرسن لنزع التسليع لأن الخدمات لا تقدّم على أنها حقّ.

ويمكن هنا النظر إلى التسليع وإعادة التسليع على أنهما "أنواع مثالية" (Ideal Types) أو حدّان متطرفان للطَيْف. فأشياء قليلة تتلاءم مع الحالة المثالية للتسليع أو نزع التسليع. ومن المفيد التحقق من أي حدّ يتم تسليع ونزع تسليع الخدمات واليد العاملة في آن واحد وكيف يتم تشكيل كلّ جانب من خلال هذه العمليات المتناقضة.

وغالباً ما يكون مدى التسليع وطبيعته التنظيمية نتاج مراحل أزمات اقتصادية ونزاع بين مجموعات مختلفة. مثلاً، استناداً إلى المؤرّخ إ. ب. تومبسون، أظهر انتشار "أعمال شغب الخبز" في بريطانيا في خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الاحتجاج العارم على تقلب أسعار الخبز استناداً إلى حال السوق، وطالبوا أن يكون محدداً استناداً إلى "السعر العادل" (Just Price). قال إن المتظاهرين حاولوا فرض قيم اقتصادية أقدم (تستند إلى القيم الاجتماعية والحاجات والعادات) بدل المنطق الساعي للربح في اقتصاد السوق الناشئ القائم على السلع  (Tompson 1980).

وقد تنطبق مبادئ مماثلة على نضالات أحدث مناهضة للتسليع. مثلاً، قامت موجة احتجاجية لمناهضة تخصيص سلع وخدمات أساسية بما أنها تجعل الحصول عليها محصوراً بالأشخاص القادرين على الدفع. والتحركات المناهضة لتخصيص قطاع المياه في بوليفيا مثال على ذلك. فالمحتجون نادوا باقتصاد أخلاقي قائم على الحاجات يرونه أعلى وأكثر إنسانيةً من قواعد الربح في نظام السوق الرأسمالي.

من الواضح إذن أن التسليع عملية مثيرة للجدل ولكنها جانب أساسي من مجتمع السوق، وهي أكثر ما تكون عرضةً للتجاذبات في الأزمات الاقتصادية حين يترنح نموّ إنتاج السلع العادية.

تفتح عملية التسليع فرصاً جديدةً لتحقيق الربح، ووفق الاقتصادات الكلاسيكية الجديدة فهي تفتح الفرص أيضاً لفعالية أكبر، غير أنها قد تشكل تحدياً للقيم الاجتماعية وللإنصاف.

[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى