العلوم الإنسانية والإجتماعية

طريقة السلع الخيالية في عملية التسليع لبناء مجتمع السوق

2014 مجتمع السوق

سبايز بوتشر

مؤسسة الكويت للتقدم العلمي

العلوم الإنسانية والإجتماعية التكنولوجيا والعلوم التطبيقية

في كتاب "التحوّل العظيم" (Great Transformation) (1944)، كتب بولانيي عن الانتقال من الإقطاعية إلى الرأسمالية والفترة التي أصبحت فيها أوروبا مجتمع سوق. لقد اهتمّ بالعملية التي مكّنت من حصول هذا التحوّل، على الأخص ظهور "السلع الخيالية" ومؤسسات "الحماية" التي رافقتها.

يقول بولانيي إن السلع الخيالية هي أشياء لا يتم إنتاجها من أجل بيعها في الأسواق، وعلى الرغم من ذلك لديها سعر في الاقتصاد الرأسمالي وتتم التجارة بها. لذا هي تتمتع ببعض خصائص السلع (تباع في الأسواق مقابل سعر)، ولكن على عكس السلع الاعتيادية، فهي لا تُنتَج من أجل بيعها.

والأهم من بينها، استناداً إلى بولانيي، نذكر الأرض واليد العاملة والمال، أي منها لم تتوافر في الأصل كسلع. فالأرض توجد طبيعياً خارج السوق، واليد العاملة هي القدرة الإنسانية على القيام بالعمل التي تغرس في البشر من خلال عائلاتهم والنظام التعليمي الذي يتبعونه. أمّا المال فهو وسيلة للتبادل ولتحديد القيمة في إطار من الثقة يتم التوصل إليها من خلال المؤسسات الاجتماعية (الفصل 6).

فيما كانت "تنتقل" الأرض واليد العاملة المرتبطة بها (عبر الزواج أو الغزوات في النظام الإقطاعي على سبيل المثال)، شهد صعود الرأسمالية تحوّل هذه المظاهر الطبيعية والاجتماعية إلى سلع. هذا لأن المدخلات في نظام السلع يجب أن تكون سلعاً أيضاً، كي تتحكم الأسواق بالاقتصاد ككلّ. ووفق بولانيي "لأن العمل والأرض والمال مدخلات إنتاجية أساسية في الصناعة، يجب تنظيمها هي أيضاً في السوق" (Polanyi 1944, p. 75).

ومن خلال خلق أسواق للأراضي واليد العاملة والمال، يمكن استخدام قوى المنافسة من أجل تنظيم هذه المدخلات المهمة. غير أن بولايني (1944, p. 60) يقول إن تطور اقتصاد سوق في هذه الطريقة يترافق أيضاً مع تطور "مجتمع السوق". لذا من الضروري وجود مجموعة من القوانين والمؤسسات لضمان توفر ومصداقية السلع الخيالية مع النتيجة حيث يكون المجتمع بحدّ ذاته مكوناً لتلبية طلبات السوق. ومن الأمثلة على ذلك قوانين المصانع الإنجليزية (مراجعة المربع 4.2)

المربع 4.2 قوانين المصانع الإنجليزية

في خلال القرن التاسع عشر، ارتفع الإنتاج الصناعي في بريطانيا وبات الاعتماد على مدخول السوق القاعدة لعدد متزايد من الأشخاص. وباتت المصانع أكثر بروزاً، حتى إن الشاعر الإنجليزي وليام بليك (William  Blake) وصفها بـ"الطواحين السوداء الشيطانية" بسبب مظهرها ولأن كثيرين ممّن كانوا يعملون فيها قضوا ساعات طويلة في ظروف صعبة. وقوانين المصانع الإنجليزية كانت القواعد الأولى التي نظّمت العمل في قطاع النسيج، الذي كان المجال الأوسع في بريطانيا ومن بين القطاعات الأولى التي شهدت ثورةً صناعيةً.

حدد قانون المصانع لعام 1833 ساعات العمل القصوى 15 ساعة في اليوم، و12 ساعة للأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 13 و18 عاماً و8 ساعات للأشخاص بين الـ 9 و12 سنة. وفي عام 1844، تم توسيع القانون لتصبح النساء متساويات مع الأطفال في ما خصّ ساعات العمل، ما يحدّ من فرصهن في الحصول على عمل مأجور في قطاع النسيج، وفي عام 1847، تم تقليص ساعات عمل الأطفال والنساء إلى 10 ساعات. وفي خلال العقود الأربعة اللاحقة، أدرجت أعداد إضافية من المصانع تدريجياً تحت قوانين المصانع، حتى قانون المصانع لعام 1878، الذي فرض قيوداً على ساعات العمل في كلّ المصانع.

إذن تشير قوانين المصانع إلى كيف ترافق قيام مجتمع السوق يداً بيد مع قيام أشكال جديدة من القواعد الاجتماعية والاقتصادية، وكيفية تشكيل تلك القواعد بعد صراعات ونزاعات. وقد أعاقت الأشكال الجديدة من عمل المصانع الأنماط التقليدية للإنتاج والعائلة. فبدأ الإنتاج يجري بشكل متزايد خارج الأسرة وفي ظروف عمل صعبة. وقد دعم العمّال قرار الحدّ من ساعات العمل وكذلك الإصلاحيون القلقون من تأثير العمل المأجور على العمّال والعائلة التقليدية. غير أن معظم أصحاب المصانع عارضوها وكذلك فعل حلفاؤهم في البرلمان، على الرغم من أن أقليةً من أصحاب المصانع، مثل الاشتراكي روبرت أوين (Robert Owen)، دعموا ساعات العمل الأقصر.

وكانت من نتائج القوانين تنظيم اليد العاملة ودمجها بالاقتصاد، وبذلك دعم توسع مجتمع السوق. ومن خلال الحدّ من ساعات عمل النساء، حمت تلك القوانين النساء من الجوانب الأكثر قسوةً من نظام العمل المأجور وضمّتهن إلى سوق العمل، غير أنها قيدت قدرتهن على الحصول على حقوق اقتصادية مساوية لحقوق الرجال.

وقد أرضى ذلك العديد من دعاة حركة الإصلاح الذين رأوا أن دور المرأة يجب أن ينحصر في المنزل بتربية الأطفال ورعاية شؤون البيت.

ويمكن القول أيضاً إن قوانين المصانع ساهمت في استمرارية نظام العمل المأجور، حيث حدّت من الوقت الذي كان يقضيه العمّال في ظروف صعبة وشاقة، ما منحهم المزيد من الوقت للراحة والمرح. ويرى كثيرون أنها نقطة انطلاق "التراكم المكثف" (زيادة الإنتاج من خلال جعل العمّال يعملون بشدّة أكبر أو باستخدام آلات أكثر فعاليةً). إذن، على الرغم من معارضة معظم أصحاب المعامل هذه القوانين، إلا أنها ساهمت في استمرار الرأسمالية من خلال حماية العمّال ودعم الإنتاجية.

صنع الأسواق

اقترح بعض الباحثين تطبيق مبدأ السلع الخيالية على حقول أخرى لم يأخذها بولانيي في عين الاعتبار، مثل خلق أسواق الملكية الفكرية (Jessop 2007) . وهنا نتحدث عن "المعرفة" التي توجد قبل التسليع. ربما هي معرفة علمية حول الشيفرة الجينية لحيوان ما، أو معرفة تقليدية يتمتع بها سكان أصليون حول الخصائص الطبية لنبتة ما. وتمنح قوانين جديدة، مدعومة من حقوق الملكية الفكرية المتعلقة بالتجارة في منظمة التجارة العالمية، الأفراد والشركات الحق الحصري في استخدام معرفة ما لأغراض تجارية. فيمنحون حقوق ملكية فكرية لهذه المعرفة، التي تصبح سلعةً لها سعر ويمكن تبادلها.

ونرى منطقاً مشابهاً في استخدام الأسواق لتوفير أغراض وخدمات كانت تنتج بشكل مختلف تماماً. مثلاً، نقلت حضانات الأطفال عادةً اجتماعية كانت تجري في المنزل إلى السوق حيث تخضع للمنافسة. ويلقي هذا المثل الضوء على الوسيلة الثانية التي يجري بموجبها التسليع. فالنشاطات التي كانت موجودةً أصلاً في الاقتصاد ولكن تنظم وفق مبادئ لاسوقية، مثل الصحة العامة والتعليم، قد تنتقل إلى السوق أيضاً.

ويحدث ذلك من خلال الخصخصة، أي بيع الأصول العامة أو التحوّل نحو السوق، حيث تحدد أسعار لاستعمال الخدمات. إن هذه الخدمات المخصصة والمحولة نحو السوق ليست سلعاً خياليةً كما وصفها بولانيي، غير أنها تتضمن تحويل أشياء أنتجت في البداية خارج السوق للاستخدام المباشر، إلى أشياء أنتجب مقابل قيمة تبادل وتم توزيعها من خلال السوق.

ويلحظ علماء الاجتماع والاقتصاد السياسي أن عملية التسليع هنا ليست طبيعيةً أو اقتصاديةً بشكل صرف. فالمؤسسات الاجتماعية ضرورية لحصولها لأنه على عكس السلع العادية مثل السيارات أو أجهزة الكمبيوتر أو عبوات الكوكا كولا، ، فالسلع الخيالية والنشاطات غير السوقية لم تنتج من أجل بيعها في السوق، وهي غير موجودة كسلع جاهزة ، لذا يتعين إدخال أمر إضافي لتحويلها إلى سلع يمكن تبادلها في الأسواق. وعادةً ما يكون ذلك الأمر الإضافي هو الدولة.

وبالفعل، تقرّ معظم الاقتصادات الكلاسيكية الجديدة بذلك، وترى أن الدولة تلعب دوراً أساسياً في إنشاء الملكيات وتطبيقها، وبدونها لا يمكن أن تعمل الأسواق. فإن كانت الأرض سلعةً، على قوانين الدولة أن تمنح الحق بالملكية الخاصة للتمكن من امتلاكها والاتجار بها. ويمكن ملاحظة العملية عينها تاريخياً في اليد العاملة. فالدولة كانت أساسيةً في خلق أسواق عمل وطنية (Polanyi 1944, p.139)، وتمكين العاجزين عن العمل من الحصول على مساعدة اجتماعية، وضمان استمرار الباقين في سوق العمل.

لا ينحصر دور الدولة في خلق أسواق للسلع الخيالية، بل لديها دور متواصل في تنظيمها أيضاً. ويقول بولانيي إن عملية تسليع الأرض واليد العاملة والمال هددت في تقويض أسسها، معتبراً أن أسواق الأرض واليد العاملة "ضرورية من أجل اقتصاد السوق، ولكن لا يمكن لأي مجتمع أن يتحمّل آثار نظام مماثل من الخيال الخام.. إلا في حال تمت حماية الثورة الإنسانية والطبيعية" (1944, p. 73).

ويشمل وجود سوق للعمل، العمّال (الباعة) الذين يبحثون عن عمل بأجر (السعر) من أرباب عمل (شراة). غير أن التعامل مع العمل على أنه مجرّد سلعة قد يلحق الضرر بـ"القدرة البشرية على العمل" (Human Capacity To Work) والشخص الذي يُستخدم عمله في الإنتاج. هذا لأن القدرة على العمل أو "قوة اليد العاملة" – السلعة التي تشترى وتباع – لا تُفصل عن جسم الإنسان. لذا يقول كثيرون إنه يوجد "أرضية" حدّ أدنى لا تنزل الأجور دونها، لأنها المدخول الذي يساهم في "تكاثر" العمّال، ويجب أن تكون كافيةً لشراء المواد الأساسية للبقاء.

ويشرح ذلك ظهور الحدّ الأدنى للأجر وأشكال المساعدات الاجتماعية للعاطلين عن العمل. وتوجد قوانين مماثلة حول الأراضي مثل التحكم بالإيجارات والإسكان العام. وبالنسبة لبولانيي، كانت تلك الإجراءات المتمم الضروري لتحرر السوق في القرن التاسع عشر، في العملية المزدوجة التي أطلق عليها اسم "الحركة الثنائية" (1944, p. 143) (Double Movement). ويشمل هذا المصطلح مدى امتداد متناول الأسواق من جهة و"الحركة المقابلة الحامية اجتماعياً"(Socially Protective Counter-Movement)  من جهة أخرى، والتي تحجر على سلع خيالية من قوةّ التسليع الكاملة (وسنتحدث عن ذلك بشكل أوسع في الفصل 5).

وتتعلق الحركة الثنائية بفكرة بولانيي (1944) حول "التضمين" (Embededness) والتي تفيد بأن كلّ الاقتصادات متضمنة في مؤسسات تنظّم العملية الاقتصادية في أي مجتمع كان. وقد روّج مارك غرانوفيتر (Mark Granvovtter) (1985) لمبدأ "التضمين" في علم الاجتماع الاقتصادي. فهو يقول إن التبادلات الاقتصادية متضمنة في شبكات من العناصر الاقتصادية بدل أن تكون في آلية السوق "اللاشخصية" (Impersonal) المقدمة في نظرية الاقتصاد الكلاسيكية الجديدة. وتركز هذه المقاربة الكلية على تتبع شبكات الإنتاج والاستهلاك في الاقتصاد، في ما يتمايز عن مقاربة بولانيي الكلية للتنظيم الاجتماعي (مراجعة الفصلين 4 و10).

[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى