العلوم الإنسانية والإجتماعية

سياسات نموذج النموّ الاقتصادي

2014 مجتمع السوق

سبايز بوتشر

مؤسسة الكويت للتقدم العلمي

العلوم الإنسانية والإجتماعية التكنولوجيا والعلوم التطبيقية

أقرّ الاقتصاد السياسي الأولي أن النموّ الاقتصادي يحتاج إلى الاستثمار وإلى زيادة في مخزون رأس المال. إذن، يمكن استهلاك فوائد التخصص أو أن تستخدم من أجل توسيع الإنتاج المستقبلي، ما يزيد من النموّ. وقد حاول عدد من الاقتصاديين جعل عملية النموّ هذه نموذجاً من خلال التراكم.

افترض ريكاردو أن العمّال هم فئة كُتب عليها العيش على مستوى السعي للكفاف فقط، وبرر لأرباب العمل إبقاء الأجور منخفضة من أجل توفير الأموال لإعادة الاستثمار. لذا كان ريكاردو من معارضي القوانين الحمائية التي استفاد منها ملّاك الأراضي من خلال رفع أسعار منتجات غذائية أساسية مثل الذرة. واعتبر أن السياسات المماثلة تعوق "التقدم" بما أنها تزيد التكاليف على شكل أجور وإيجارات، ما يحدّ من الأموال المتوفرة لإعادة الاستثمار. وأشار ريكاردو إلى أن طبقة ملّاك الأراضي "الطفيلية" (Parasitical) ستكون مسؤولةً عن تراجع معدلات الأرباح.

واستناداً إلى أفكار ريكاردو، طوّر ماركس لاحقاً منظومةً لدوامة الاستثمار – الإنتاج تحدّت الوضع الراهن الذي كان قائماً. فقد تقدّم بتحليلات اقتصادية ذات بصيرة حول النموّ، دعمت تحركات العمّال الذين طالبوا بمكافآت أكثر ملاءمةً لمساهمتهم في إنتاج الفائض الاقتصادي. غير أن تهديد تحليلات ماركس للرأسمالية جلب تطورات معاكسة. فقد ركزت المدرسة الكلاسيكية الجديدة الناشئة على التجارة أكثر من الإنتاج وعلى "الكفاءة" (Efficiency) أكثر من الظلم في التوزيع بالسوق.

الفائض أو الكفاءة؟

يعتبر ماركس المنظّر الأكثر تأثيراً في نموذج التراكم الرأسمالي. ويشرح في كتابه Circuit of Capital كيف يؤدي الإنتاج إلى فائض. تركز فكرة الفائض على كيف يؤدي نظام الإنتاج إلى المزيد من القيمة كمخرجات أكثر ما يتطلب من مدخلات. ويمكن إعادة استثمار هذا "الفائض" (Surplus) من أجل توسيع الإنتاج أكثر. ويتعارض التركيز على عملية الإنتاج في مكان العمل (المصانع والحقول والمكاتب) مع النموذج الكلاسيكي الجديد الذي نناقشه أدناه والذي يركز على مكان العمل.

عملية تراكم رأس المال

كان ماركس من أوائل المنظّرين الذين حللوا بشكل منتظم قدرات النموّ في الرأسمالية. فقد وصف "أسلوب الإنتاج" (Mode of Production) الرأسمالي كنموذج من "إعادة الإنتاج الموسّع" (Expanded Reproduction) حيث في أي فترة معينة، تتوسّع قدرة النظام على الإنتاج إلى أكثر ما كانت عليه في الفترة السابقة. وقد أشار ماركس (1992 [1884], pp. 109-43) إلى هذا التوسع من خلال Circuit of Capital حيث يمكن تتبع تراكم رأس المال خطوةً خطوةً من خلال مراحل ثلاث أو "حركات" تبدأ من المال وتنتهي مع المزيد من المال (M’): M’– C’…P…C- M

وعلى الرغم من أن دائرة تراكم رأس المال قد تبدو كصيغة رياضية، إلا أنها مجرّد طريقة مقتضبة لشرح عملية مشتركة لكلّ القطاعات الرأسمالية (مراجعة المربّع 2.3). يقدّم المال(M)  من أجل شراء المدخلات (C) الضرورية لإنتاج (P) السلعC’ من أجل البيع M’. ومع إتمام الدورة، يحصل التراكم في حال تم استثمار المال في إنتاج جديد، وبدأت العملية مجدداً. ويلقي ذلك الضوء على الطبيعة المستمرة والمتوسعة للإنتاج الرأسمالي. غير أن بعض الفائض قد لا يخضع لإعادة الاستثمار. مثلاً، البعض منه قد يستخدم من أجل زيادة استهلاك أرباب العمل الآنية أو قد تأخذه الحكومات على شكل ضرائب. وكلّما زاد الفائض الذي يعاد استثماره وكلّما زادت سرعة إعادة الاستثمار، كلما باتت عملية التراكم والنموّ الاقتصادي أسرع.

المربع 2.3 التحركات في دائرة رأس المال

M– C (L, mp)…P…C’- M’

المرحلة 1: M-C (L, mp): في التحرك الأول، يبدأ الرأسماليون مع المال (M) ويستثمرونه في سلع C. وتأخذ هذه السلع شكلين- وسائل الإنتاج (mp) التي تضمّ المصنع والماكينات والمواد الخام الضرورية لإنتاج المنتج النهائي، واليد العاملة (L) التي يمثّلها العمّال. ولنجاح هذا التحرك، على المؤسسات المعنية أن تكون قادرةً على شراء السلع التي تحتاجها مقابل سعر تنافسي.

المرحلة 2: C..P..C’: التحرّك الثاني هو المكان الذي يجري فيه الإنتاج بالفعل. هنا يتم تحويل مجموعة من السلع (C) إلى مجموعة أخرى من البضاعة النهائية (C’) عبر عملية إنتاج (P)- مثل حين تجتمع العصّارة والبرتقال وعمل موظف في مقهى من أجل إنتاج عصير البرتقال. ويقول ماركس إن القيمة الجديدة تظهر فقط بفضل عملية الإنتاج،

فقيمة البضاعة النهائية أكبر من كلّ المدخلات معاً. والقيمة الجديدة هي "قيمة فائضة" (Surplus Value) ويزعم ماركس أنّها تأتي من قدرة العمل على إضافة قيمة جديدة. وكلّما زادت القيمة مقارنةً بقيمة الإنتاج، كلمّا زادت القدرة على التراكم. ولا ينجح هذا التحرّك إلا في حال سير الإنتاج بسلاسة مع تفادي العراقيل التي قد تنتج عن إضرابات مثلاً أو عن تعطل الماكينات.

المرحلة 3: C’-M’: تشمل المرحلة الثالثة بيع البضاعة النهائية في السوق. ويمكّن ذلك الرأسمالي من تحديد القيمة الفائضة التي سيحصل عليها كربح. ما يعني أنه يمكن بيع السلع النهائية (C’) مقابل مال (M’) أكثر مما تم البدء به. ولا يحصل ذلك إلا إن سارت عملية الإنتاج بسلاسة وتوفّر سوق لبيع الأغراض فيه. وإن كان المستهلكون غير راغبين أو غير قادرين على الإنفاق (كما يحصل أحياناً في حالات الركود)، ستنكسر حينها دورة رأس المال، حتى لو سبق وتم التوصل إلى قيم وسلع جديدة.

توجد عدّة شروط مسبقة لإتمام الدورة بشكل ناجح. فالتكاثر الاجتماعي ضمن العائلات والمجتمعات ضروري من أجل تقديم عمّال مدربين جيداً يندمجون في المجتمع وعلى استعداد للعمل (مراجعة الفصل 8). إن التكاثر البيئي ضروري من أجل تأمين مواد خام وبيئة لامتصاص النفايات (مراجعة الفصل 9) . كما تبرز حاجة إلى نظام مستقرّ من الأموال من أجل تسهيل التبادل والاستثمار. ويتطلب من المؤسسات السياسية أن تعطي العملية شرعيةً حتى يقبل الناس النظام ويعملوا معه وليس ضده.

في قلب نموذج الفائض، يوجد العمّال. وهذا واضح في "نظرية قيمة العمل" (Labour Theory Of Value) التي أشار إليها اقتصاديون سياسيون كلاسيكيون مثل ماركس وسميث وريكاردو (مراجعة الفصل 2). كانت تلك النظرية جزءاً مهماً من تحليل ماركس للرأسمالية ومن انتقاده للاقتصاد الكلاسيكي السياسي. فقد قال إن التراكم الناجح يعتمد على عمّال ينتجون قيمةً أكبر ممّا يحصلون عليه كأجور. وتعني العلاقة الوظيفية أن أرباب العمل يحتفظون بالقيمة الجديدة التي يتم التوصل إليها من خلال الإنتاج. فهم يخصصون "قيمة الفائض" من أجل دفع الإيجار والفائدة والحصول على الأرباح، ما يعطيهم الفرصة للاستهلاك أو إعادة الاستثمار في إنتاج موسع.

ومن خلال التركيز على دور القيمة المتزايدة في الإنتاج كمصدر لتراكم رأس المال، رفض ماركس الأفكار السابقة بأن الثروة "مجموعة صفرية" (Zero Sum Game). فلا النهب ولا "الشراء بالرخيص والبيع بالغالي" يشرحان الميل المميز للنموّ الاقتصادي في الرأسمالية. وأشار إلى أن التجارة أو تبادلات السوق لم تغير طبيعة البضاعة أو كميتها، بل غيرت نمط الملكية فحسب. فالتبادل بحدّ ذاته يعجز عن  أن يؤدي إلى قيمة، بل يسمح بربح الكاسبين على حساب الخاسرين. وعلى الرغم من أن التجارة موجودة منذ زمن بعيد، فإن النموّ الناتج من الرأسمالية كان جديداً وتطلب الأمر نظريات جديدة لشرحه. إلا أن الاقتصاديين الكلاسيكيين الجدد لجؤوا إلى دائرة التبادل من أجل تطوير تحليلهم الاقتصادي الخاص.

السوق "الكفوء" الكلاسيكي الجديد

في نهاية القرن التاسع عشر، ابتعد الاقتصاديون تدريجاً عن التركيز الكلاسيكي على الإنتاج ونظرية قيمة العمل. وركّزت الاقتصادات الكلاسيكية الجديدة على دائرة الإنتاج، أي الأسواق التي يتم فيها بيعُ البضاعة والخدمات وشراؤها. وكما ذكرنا في الفصل الثاني، تحلل المقاربة الكلاسيكية الجديدة التفاعل بين العرض والطلب في ظلّ ظروف تنافسية في السوق. وهي تركز على كفاءة السوق في تخصيص الموارد النادرة للاستخدامات الأكثر فائدةً.

واستناداً إلى ليونيل روبنز (Lionel Robbins) (1945 ]1932[)، ترفض الكلاسيكية الجديدة التعريفات المادية للاقتصاد. فبدل التركيز على كيفية إنتاج القيمة، تركز على كيفية القيام بالاختيارات. فقد زعم روبنز أن اهتمام الاقتصاد الرئيسي ليس زيادة الثروة بل التعامل مع المواد النادرة. وقال (1945 [1932], p.32) إن الاقتصاد هو "العلم الذي يدرس السلوك البشري كعلاقة بين الوسائل النهائية والنادرة التي لها استعمالات بديلة". ويركز ذلك على عملية اختيار كيفية استعمال الموارد، حيث تخصص الموارد لأشخاص مختلفين ولأهداف مختلفة.

ويعكس ذلك نظرةً ذاتيةً للقيمة حيث تكون السلع قيّمةً لأن الناس يرغبون بها ويعبّرون عن ذلك عبر استعدادهم للدفع مقابلها. لذا إعادة توزيع السلع من خلال الأسواق للذين يقيمّونها أكثر من غيرهم قد يزيد القيمة، على الرغم أن الخصائص الموضوعية للسلع، لا تتغير.

ومن شأن التركيز الكلاسيكي الجديد على التخصيص من خلال الأسواق لا الإنتاج في مكان العمل، أن يشدد على التوازن، النقطة التي يتقاطع فيها العرض والطلب. ويشرح ذلك كيف يتغير نمط الملكية، وكيف يشتري  الأفراد والشركات الأشياء التي يرغبون فيها أكثر ويبيعون تلك التي يرغبون فيها بدرجة أقل. وتحرص الأسعار على أن تذهب البضاعة والخدمات إلى أولئك الذي هم على استعداد لدفع ثمنها أكثر. وتحلل أدوات التوازن نقاطاً معينةً في خلال الوقت لا عملية التغيير ككلّ. وحسابياً، يحدث ذلك من خلال إحصاءات مقارنة، حيث تتم مقارنة نتائج مختلفة.

كانت النماذج الكلاسيكية الجديدة المماثلة مؤثّرةً في الترويج لإجراءات وسّعت دور الأسواق في الاقتصاد، أكان من خلال تخصيص قطاعات مملوكة من الحكومة أو إزالة الضرائب عن التجارة. وتستخدم الإحصاءات المقارنة للقول إن تخصيص الموارد بعد إصلاحات مماثلة أكبر من التخصيص قبل الإصلاح لأن الموارد توزع على الأشخاص الذين يحتاجونها أكثر من غيرهم.

وتتلاءم أدوات الاقتصادات الكلاسيكية الجديدة (الاقتصادات الجزئية) (Micro Economy) مع مفهوم الاقتصادات الفردية. في خلال القرن العشرين، كان المشروع المهم في الاقتصاد الكلاسيكي الجديد توسيع هذا التحليل الجزئي إلى الاقتصاد ككلّ، من خلال نظرية توازن عامة. وقد سعى اقتصاديون بارزون لإثبات أن التوازن في كلّ سوق فردي (مثل سوق الأخشاب او الفحم) يتطابق مع توازن عام (أو اقتصادي شامل) (Economy-Wide) لكلّ الأسواق.

وهدف المشروع لإظهار أن الاسواق التي يعوقها تدخل حكومي قد تعطي نتائج مستقرةً ومرغوباً فيها. كما سعى إلى تطوير نماذج رياضية يمكن استخدامها لتوقع نتائج اقتصادية مستقبلية. لا تزال العديد من هذه النماذج مفيدةً لبعض الأهداف وتستخدم بشكل واسع، إلا أن دراسات جديدة شككت بمشروع التوازن العام (Ackerman 2002) .

وقد دمجت مفاهيم زيادة الاستثمار وتراكم رأس المال في جدول أعمال الأبحاث الكلاسيكية الجديدة على يد خبراء اقتصاد استوحوا من كينز (قراءة الفصل التالي). فقد طوّر روي هارود (Roy Harrod) (1939) وإيفسي دومار (Evsey Domar) (1946) بشكل مستقل نماذج ربطت الزيادات في مخزون رأس المال (التراكم) بمعدّل النموّ الاقتصادي. وقد توسّع روبرت سولو  (Robert Solow) (1956) في هذه المسألة، ليشمل التطوّر التكنولوجي كمتغير منفصل.

غير أن نماذج النموّ هذه كانت "خارجية"(Exogenous) ، فما يقود إلى النموّ هو خارج النموذج بحدّ ذاته. ويستخدم نموذج سولو معادلةً لربط التغيرات في المدخرات والاستثمار أو الابتكار التكنولوجي بمعدلات النموّ. غير أن النموذج لا يشرح السبب الذي يدفع الناس إلى الادخار أو الاستثمار أو كيفية تطوّر التكنولوجيا. ولكن يعتقد أن ذلك يحصل بمعدّل ثابت تحدده القوى الاجتماعية والتكنولوجية والسياسية خارج الاقتصاد.

تتمتع هذه النماذج بمواضع قوى وضعف متميزة. ومن خلال تقليص العمليات المعقدة إلى متغيرات قليلة، تصبح هذه النماذج أكثر ملاءمةً للمناهج الرياضية وتعطي توقعات حيال السلوك الاقتصادي المستقبلي. ولكنها غالباً ما تفشل في شرح كيفية تداخل العوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. كما أنها تشرح العمليات المعقدة من خلال وسائل بسيطة نسبياً، فتغطّي على عمليات أكثر تعقيداً.

[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى