العلوم الإنسانية والإجتماعية

بين المجتمع المدني والمجتمع المحلّي والمشاركة في مجتمع السوق النابض بالحياة

2014 مجتمع السوق

سبايز بوتشر

مؤسسة الكويت للتقدم العلمي

العلوم الإنسانية والإجتماعية التكنولوجيا والعلوم التطبيقية

كيف نختبر مجتمع السوق. فقد قاربنا فيه عالم العمل والاستهلاك ومجالات حياتية غالباً ما نراها "خارج" الاقتصاد، على الرغم من أنها تدعم التكاثر الاقتصادي. ففي هذا الفصل، نركّز على المجتمع المدني. فعلى عكس العائلة والعمل والبيئة الطبيعية التي تواجدت كلّها بأشكال مختلفة قبل تطوّر الرأسمالية، يرى كثيرون المجتمع المدني على أنه تطوّر حديث – يمنح مساحةً للتنفس خارج المتطلبات البيروقراطية للدولة ودوافع تحقيق الربح الخاصة بالأسواق. وفي هذه المساحة تتشكل القيم ويتم التجادل حولها ويطعن فيها، ما يعني أنه المكان الذي تتشكل فيه عملية مجتمع السوق بحدّ ذاتها.

ولكن طبيعة المجتمع المدني وأهميته وعلاقته بالاقتصاد الرأسمالي لا تزال محطّ جدل. وفي هذا الفصل، نتعرّف إلى ثلاثة مفاهيم مختلفة من المجتمع المدني وكيف يمكن تطبيق هذه الأفكار على العديد من المناظرات العصرية الأخرى: أولاً، وجهة النظر الليبرالية الكلاسيكية الموجهة نحو التبادل الحرّ بين الافراد، ثانياً، النموذج الذي بناه الليبراليون الاجتماعيون والاجتماعيون المحليون الذين شددوا على الانسجام الاجتماعي وبناء المجتمع المحلي، وثالثاً مفهوم يقوم على وجهة نظر المنّظرين النقديين الذين يرون المجتمع المدني مكاناً للصراع والنزاع حول قيمة المجتمع وتنظيمه.

كما نناقش دور الحركات الاجتماعية وتغير طبيعة المشاركة والمنهج الجديد نسبياً القاضي بنقل مسؤوليات الرفاه من الدول إلى المجتمع المدني.

فهم المجتمع المدني

نشأت أسس المجتمع المدني الحديث خلال الفترة الانتقالية من الاقطاعية إلى الرأسمالية، وتعكس التغيرات الاجتماعية الواضحة في مجتمع السوق.

اعتبر دوركهايم (1984 ]1893[) أنّ فصل العمل عن المنزل أدّى إلى تقسيم اجتماعي جديدٍ للعمل. وفي الوقت عينه، أفضت الإصلاحات السياسيّة اللّيبراليّة تدريجيّاً إلى فصل السلطات داخل الدولة واضعةً بالتالي أسساً لحكومة محدودة الصلاحيات، تمثّل شعبها وتضمن حماية حقوق الفرد. وفتحت هذه الإصلاحات الديمقراطيّة المجال أمام مشاركة العامّة في صنع القانون وأمام المنظمات التطوعيّة لمساعدة الدولة في أدوارها المتنامية والأسواق التي ولّدتها إعادة تنظيم الإنتاج وإعادة الإنتاج.

واستحدثت التحولات السياسيّة والاقتصاديّة مساحات جديدة تتيح للنّاس التلاقي في أماكن عامة خارج منازلهم ومقرّ عملهم، حيث يتمكّنون من التنسيق فيما بينهم والتحاور والتناقش بمنأى عن سيطرة الدولة المباشرة. وعلاوةً على ذلك، اضطلعت التكنولوجيّات الجديدة، كطباعة الكتب، بدور بارز في تعزيز مساحات يسهل فيها تمديد المناقشة والحوار إذ نشرت وبشكل أوسع، أفكاراً اجتماعيّة وسياسيّة جديدة. وازدادت القدرة على النّفاذ إلى المعلومات والمشاركة السياسيّة مع انتشار العلم وتعزيز الحماية الاجتماعية التي تقدّمها الدولة للفقراء والنساء، وتطوّرت مع ظهور التكنولوجيّات الحديثة كالإنترنت وأجهزة الخلويّ.

فقد تركت تطورات اجتماعيّة أخرى التأثير عينه، فكان من شأن ارتفاع الرأسماليّة أن شجّع التمدّن فقطع العلاقات الاجتماعية القديمة وبنى في الوقت عينه مساحات سمحت بنموّ مجتمعات محليّات جديدة تقوم على المصالح والقيم المشتركة بدلاً من النَّسب المشترك. غير أنّ نظام الرأسماليّة جلب معه مشاكل اجتماعيّة جديدة كالفقر والتشرّد والجرائم (الفصل 4) التي أدّت بدورها إلى ردود فعل مختلفة، وإلى جانب المطالبات بمضاعفة تنظيم الدولة، تطورت بدائل أخرى على أساس التبادليّة. وتصرّف عدد من أرباب العمل بطريقة مباشرة في حين جاءت استجابة العمّال جماعياً.

على سبيل المثال، أسّس جورج كادبوري (George Cadbury) قريةً نموذجيّة لعمّال مصنعه في برمنغهام بهدف تقليل المشاكل التي تسبّبها ظروف المعيشة السيّئة، وقد استرشد في أعماله بالمبادئ الدينيّة والتزاماته بصفته عضواً في جمعيّة الأصدقاء الدينيّة بدلاً من المحاولة لزيادة الأرباح كرجل أعمال (Cadbury، من دون تاريخ). وجابه العمال أيضاً التحديات الاجتماعية للرأسماليّة من خلال مساعدتهم بعضهم بعضاَ أو من خلال المجتمعات الصديقة التي كوّنوها. ونمت هذه الأخيرة بفضل الجمعيّات الحرفيّة ونقابات العمل الأولى، لأنّها أتاحت للعمّال تشارك مخاطر مجتمع السوق سوياً كفقدان الدخل الناجم عن المرض أو البطالة المؤقتة وذلك من خلال تقديم المساهمات في الأوقات الجيّدة وتلقي الدعم في الأوقات السيئة. 

وعزّز مجتمع السوق المجتمع المدني وذلك عبر فتح مساحات اجتماعيّة جديدة وتوليد ضغوطات اجتماعيّة على حدّ سواء. وازدادت نسبة النفاذ إلى هذه المساحات ولا سيّما أنّ الحركات الاجتماعية طالبت بحقوق اقتصاديّة وسياسيّة أفضل باسم العمّال والنساء والمجموعات الاجتماعية الأخرى. ويضطلع المجتمع المدني أيضاً بأدوار اقتصاديّة مهمّة فهو المسؤول المباشر عن الإنتاج الاقتصادي الكبير، ناهيك عن أنّه يدعم النشاط الاقتصادي ويسهل مساره من خلال منح الثقة، وتحقيق التماسك والتضامن الاجتماعيين ما يتيح للدول والأسواق أن تعمل بفعاليّة. ويعتبر المجتمع المدنيّ المكان الذي نقارن فيه مسار الدول والأسواق، ونرفع شكاوى من أجل إعادة توزيع الموارد والتوصّل إلى أشكال مختلفة من التنظيم الاقتصادي أو بكلّ بساطة تنظيم النشاط الاقتصادي بأنفسنا بطريقة جديدة ومختلفة.

ثلاثة مفاهيم خاصة بالمجتمع المدني

أدّت التعقيدات في النشاطات والعلاقات المرتبطة بالمجتمع المدني وتنوّعها إلى عدد من المفاهيم المتنافسة وإنّما غير الحصرية بالضرورة. جعل الليبراليّون الكلاسيكيّون عملية الصرف في السوق أولويّتهم وهي تشكّل جزءاً لا يتجزأ من العلاقات الاجتماعية ناهيك عن أنّها قوام المجتمعات المحليّة مع التركيز على نظرة أقلّ "فردوية". ويفضي تعايش الفرد مع ضروريات مجتمعات السوق إلى نشوب ضغوطات حتمية. ولكنّ واضعي النظريات الأساسيين يعتبرون أنّ الضغوطات هذه قد تعيد من خلال المجتمع المدني، رسم العالم الاجتماعي سواء أكان ذلك للأفضل أو الأسوأ.

[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى