البيولوجيا وعلوم الحياة

الجمعية الأميركية لتقدّم العلوم 2001: بداية قرن أم نهايته؟

2013 لمن الرأي في الحياة؟

جين ماينشين

مؤسسة الكويت للتقدم العلمي

البيولوجيا وعلوم الحياة

عندما ظهر كولنز وفنتر معاً في البيت الأبيض ثانية في ظروف أقل ودية في اجتماع الجمعية الأميركية لتقدّم العلوم، كان يحتفلان بنجاحهما المتبادل بقرب اكتمال تحديد سلاسل المادة الوراثية في الجينوم البشري.

بيد أنهما مثّلا قيماً مختلفة بحيث من الصعب اعتبارهما متعاونين، على الرغم من تشابه ربطتي العنق والبدلتين التي أشارا إليها في جلسة استماع الكونغرس في سنة 1998. ففي اجتماع الجمعية الأميركية لتقدّم العلوم، بدا فنتر وسيليرا (Celera) متلهّفين للتعالي على كولنز.

مثّل كولنز التمويل العام للعلم، والتعاون على المستوى الوطني والدولي. وكان يدعو إلى النشر المفتوح وتشارك البيانات، من خلال بنك الجينات (GenBank)، مستودع المعلومات الوراثية القياسي الذي تموّله الحكومة.

ومثّل كولنز التواضع والحرية العلمية وكان يصوّر في بعض الأحيان بأنه رجل صغير يعمل لصالح المعرفة الجيدة والخالصة. بدا فنتر رجلاً غير عادي. كان لديه الزهو، من دون ذكر البيانات التي سعت مجموعته إلى تسجيل براءات بعضها وسعت إلى الاحتفاظ ببعضها لنفسها، ونشرت الباقي.

وقد تم تصويره بأنه رجل الأعمال الكبيرة، ورجل الربح والنزعة إلى الخصخصة. تحدّث كولنز عن الصالح العام الذي سيتحقّق من خلال العلم، وألحّ فنتر على الاستثمار في مزيد من الأبحاث والتطوير لتسريع عملية الاكتشاف. وقد حثّ كولنز على الكمال والحذر والجودة، في حين دعا فنتر إلى السرعة والابتكار والتقدّم.

بيد أن هذه القصة ليست صحيحة حقاً. كان فنتر الرجل الصغير ذا الشركة الخاصة الذي يتبع الحلم الأميركي، في حين كان كولنز الرجل الحكومي الكبير. نشر كولنز نتائجه في مجلة نيتشر، وهي من أكثر المجلات العلمية توخّياً للربح، في حين نشر فنتر في مجلة ساينس التي لا تتوخّى الربح".

 

ووجد باحثون من أمثال الطبيب والكاتب النيويوركي جيرالد وايزمان (Gerald Weissman) نظام سيليرا أكثر سهولة في الاستخدام من قاعدة بيانات "معاهد الصحة الوطنية". وقد أبرزت المنافسة الجديد في هذا العلم بدلاً من الانقسامات الثنائية والصدامات بين القيم التقليدية، ولم تكن تتلاءم مع الأنماط القديمة التي يمكن التنبّؤ بها. وأدى تحديد سلاسل الجينوم إلى نهاية "السباق" ولكن إلى بداية فهم كيف يمكن أن نحدّد الحياة.

في النهاية، من أكبر المفارقات على الإطلاق أن هذا الاندفاع لتحديد سلاسل الجينوم البشري، مع كل ما لازمه من اهتمام ووعود وآمال وأرباح، ربما يقودنا في الواقع إلى العودة إلى الكائنات الحيّة. وكما قال فنتر نفسه في العديد من المناسبات، فإن تحديد السلاسل ليس إلا البداية فحسب.

ومن هذا العمل في الجينوميات البنيوية وجمع كميات كبيرة من البيانات، يمكننا الانتقال إلى تحليل تلك البيانات. ويمكننا البدء بالانتقال إلى فرضيات جديدة واستنتاجات جديدة عما تعنيه البيانات. وبفضل التحدّي الذي نهضت به سيليرا، علمنا أنه يمكن إنجاز تحديد السلاسل بسرعة أكبر مما هو متصوّر؛ وأن ما يعدّ جينات يتباين تبايناً كبيراً في الواقع – بعضها كبير جداً، وبعضها الآخر صغير، وبعضها واسع التغيّر وبعضها أكثر استقراراً؛ وأن للجينوم نسخاً كثيرة لأجزاء الدنا ولا نعرف سبب ذلك؛ وأن معدّلات الطفرة في الصبغي الذكر، أو Y، أعلى مما هي عليه في الصبغي X وأن الصبغيات البشرية Y تبدو الصبغيات الأقل توافقاً في الأنواع الأخرى التي درسناها.

ومن الواضح أن القيمة الكبيرة للمقارنات بين الأنواع ستظهر وأنه سيتعيّن علينا أن نعمل بجهد أكبر لفهم كيف يصبح البشر بشراً ولديهم ما يقدّر بنحو 30,000 جين، بدلاً من العدد المقدّر بنحو 100,000 في الأصل.        

يكشف إلقاء نظرة قريبة على السلاسل أن هناك العديد من الأشكال الفردية المتعدّدة للنوكليوتيد (SNP) التي تشكّل مؤشرات مفيدة على الاختلافات. إذا كان تفحّص نوكليوتيد فرد معيّن، معروف بأنه موجود في موقع معيّن على الصبغي، يمكن أن يكشف إذا كان لدى شخص ما تباين وراثي يشكّل اختلافاً في الوظيفة، فإن تلك معلومات قيّمة جداً.

 

ويبدو أن الحال كذلك. وبما أننا لا نعرف الكثير عن الجينوميات الوظيفية، أو ما هي وظيفة جميع سلاسل الدنا والجينات، فإنه يفترض بالاكتشافات التي تتحقّق في المستقبل أن تبيّن المزيد عما نحن كأفراد عندما نتعلّم تفسير أشياء مثل تعدّد الأشكال الفردية للنوكليوتيد.

إن صورة رقاقات الدنا التي تخزن سجلاً عن جميع الأشكال الفردية المتعدّدة للنوكليوتيد تستحضر عالماً جديداً شجاعاً رائعاً لدى بعض العلماء، مثل لي سيلفر (Lee Silver) فهو يرحّب بما يتصوّره تحسينات حتمية، حتى لو شكّلت قليلاً من التحدّيات على طول الطريق.

ويرى واتسون أيضاً أن التطورّات القائمة على تنامي معرفتنا الوراثية مرغوب فيها وضرورية أيضاً. بل إنه يصدّق على المعالجة بالخلايا الإنتاشية (Germ-Line Therapy)، أي التدخّلات الطبية التي تغيّر المادة الوراثية المنقولة إلى الخلايا المنتشة التي تؤثّر في الشخص المعالج فقط.

وكما يرى واتسون الأمر، "الحس السليم يدعو إلى تطوير ذلك… يجب أن نكون صادقين وأن نقول إنه يجب علينا ألا نتقبّل الأشياء التي لا يمكن علاجها. إنني أفكر، ‘ما الذي يمكن أن يجعل حياة شخص آخر أفضل؟’ إذا كان في وسعنا المساعدة من دون مخاطر كبيرة، فإن علينا المضي قدماً وألا نقلق إذا كنا سنسيء إلى بعض الأصوليين من تُلسا بولاية أوكلاهوما".

لاحظ مراسل صحيفة نيويورك تايمز نيكولاس ويد أن المعالجة بالخلايا المنتشة والمعالجة الجينية توفّر إغراءات كبيرة، وربما نسمع عن إغراء مفيستوفيليس (Mephistopheles). غير أنه يخلص إلى أن "فاوست سمع عن ملاك صالح أيضاً، لكنه أخطأ الاختيار. فبعد المجيء من بعيد واكتساب اللمحة الأولى عن سلاسل الجينوم البشري، هل سنعلن أن التعامل معه خطير جداً؟ لو كانت تلك طبيعتنا، لما خاطرنا في الخروج من السفانا الأفريقية المألوفة التي نشأنا فيها. لا يمكننا العودة إلى نطاقها. لا يمكننا العودة إلى الوراء البتة". وجب ألا نفعل ذلك كما يرى ويد.

هناك آخرون أقل ثقة بكثير بشأن التوقّعات على المدى القصير. إنهم قلقون بشأن قضايا الأخلاق والسلامة الملازمة للمعالجات بالخلايا المنتشة، بالإضافة إلى الشواغل الأخلاقية والاجتماعية الأخرى. وتشهد كثير من الكتب والمقالات على الكثير من الشواغل. مع ذلك، هناك قوة محرّكة لمشاريع الجينوم هي التي انتصرت.

 

ويعمل فرانسيس كولنز و"معاهد الصحة الوطنية" – أي الصحة البشرية – على تحديد سلاسل دنا الفئران، وثمة برامج تظهر في الجامعات، وشركات التكنولوجيا البيولوجية، والهيئات التمويلية، وفي مخيّلة الجمهور والعلماء لتقصّي "الجينوميات الوظيفية" و"علم البروتينات الوراثية" (Proteomics) و"البيولوجيا الحسابية" على وجه التحديد. ومن يدري، ربما نصل إلى "علم العضويات" (Organismics).

هناك الآن فكرة تدعو إلى دراسة الخلايا والكائنات الحية. ما هي الكائنات الحية؟ هل يمكننا تعريف الحياة من خلال جينومها؟ هل يمكننا أن ننظم جميع السلاسل الجينية، ونتفحّص جميع الأشكال الفردية المتعدّدة للنوكليوتيد وتفاصيل أخرى، ونميّز شخصاً عن آخر؟ هل هناك "وحدة جينية دنيا"، وإذا كانت موجودة، هل تحدّد الحياة؟

إذا كان كذلك، ما الذي يفترض أن يحدث عندما نحلّل جينوم شخص ما؟ لنأخذ جينومك على سبيل المثال. هناك من دون شك شيء غير كامل في الدنا الذي لديك ويمكن "إصلاحه"، مثلما هو موجود لدى أي شخص.

بعض الدنا متضرّر، وبعض الجينات يمكن أن تكون أفضل. لنأخذ واحداً منها، واحداً فقط، ونستبدله. هل هناك مشكلة في ذلك. لنفترض أننا نستطيع أن نفعل ذلك بسلامة تامة: لا يوجد أي خطر عليك، أو تكلفة كبيرة، بل هناك فائدة كبيرة. لكنك قد تعترض، لماذا علي أن أهتم؟ لنقل أنك تحمل جين داء هنتنغتون، أو فقر الدم المنجلي، أو أي من الأمراض الأخرى التي يرجّح أن تظهر علاقتها الإحصائية على الأقل بمرض معيّن . هل يُحدث ذلك أي اختلاف؟

إذا قلنا لا يجدر بنا القيام باستبدال أي جين تحت أي من الظروف، يكون لدينا قرار واضح لكنه لن يسود مدة طويلة. فمن المرجّح أن نرى المزايا على المدى الطويل، حتى إذا استبعدنا ذلك في الأصل. لقد قبلنا باعتبارنا مجتمعاً عمليات زرع القلب على سبيل المثال، ويبدو القلب أهم للحياة من جين محدّد. إذا حصلنا على الجين البديل من مختبر، مستنسخ من شخص آخر أو مخلّق، فإن هذه هي التكنولوجيا في أحسن أحوالها. أليس كذلك؟ ماذا لو جاء الجين من حيوان آخر – خروف أو فأر، أو ذبابة فاكهة؟ هل يهمّ، وإذا كان كذلك لماذا؟

لننظر بعد ذلك في استبدال جينين وأخذ الدنا المتبرّع به من نوع آخر. ماذا عن أخذ جميع الجينات من نوع آخر؟ في النهاية، يبدو أننا نتشارك 95-98 في المئة من الدنا الذي لدينا مع الرئيسيات الأخرى. ونتشارك في الظاهر الكثير من الجينات مع جميع الأنواع التي نعرفها – التطوّر شديد المحافظة. إن المزيد من تحديد السلاسل المقارن سيبلغنا المزيد عن الجينات التي تعود "لنا" والجينات الناتجة عن الانحفاظ التطوّري بين الأنواع. إذا كنا سنتكلّم عن الجزيئات فحسب، فيجب ألا يهم المصدر، حتى إذا حصلنا على جميع الجينات المنفصلة من مكان آخر.

 

ولنفترض أننا وجدنا نسخة من كل جين نحتاج إليه من كائن حيّ آخر، وخلّقنا الجينات التي لن نعثر عليها، ثم نظمناها بالترتيب الصحيح (إن جزءاً من وظيفة الجينوم أن تنشّط بعض الجينات الأخرى التي تليها في الصف). وإذا تمكّنا من تنظيم جميع هذه الجينات بالترتيب الصحيح، وإذا أدّت وظيفتها بطريقة صحيحة، هل هذه حياة؟ حياة بشرية؟ حياة جيدة؟ هل من المعقول القول إن الحياة بدأت بالجينات – أو أليست هذه حجة قوية على أن الحياة الفردية تبدأ لاحقاً حقاً، عندما يقطع التطوّر شوطاً طويلاً؟

في هذه المرحلة سيكون معظم الناس مضطربين قليلاً. ولا يبدو ذلك "صحيحاً "إلى حدٍّ ما. يبدأ الشعور "بالنفور" بالتسرّب. لكن لماذا؟ هل هو كبرياؤنا وشعورنا بتفوّق النوع الذي يجعلنا نشعر إلى حدٍّ ما بأننا لا يمكن أن نكون نتاج حفنة من الجزيئات المشتركة مع كلب أو جرذ؟ وحتى إذا كان لدينا قليل من الجزيئات الإضافية الخاصة بالبشر، فإن ذلك لا يبدو "صحيحاً". لكنه صحيح إذا كنا راغبين في النظر إلى الحياة بتلك الطريقة. إذا كنا مستعدين لمسايرة الادّعاءات والآمال المفرطة بمبادرة الجينوم، فسيقودنا ذلك عبر هذا المسار.

الخطأ الذي يحصل إذا قبلنا هذه المقولة هو أننا ننجرف نحو الافتراضات بشأن ما يعتبر حياة، وننخدع بالرؤية الوراثية المسبقة التشكّل. من الواضح أن الحياة ليست حفنة من الجينات، وإنما كل منا يبدأ بمزيج خاص من الجينات.

صحيح أن الكائنات الحية تفيد بمثابة طريقة كي يعيد الجينوم إنتاج نفسه، كما عبّر عن ذلك ريتشادر دوكنز (Richard Dawkins) ، ولكن الجينوم ليس شيئاً من دون الكائنات الحية. ربما يكون الدنا قابلاً للاستبدال من كائن حي إلى آخر، أو حتى من طبق في مختبر، لكن الدنا ما هو إلا البداية.

الدنا بحاجة إلى بيئة، مليئة بالمغذيات والدعم، ليصبح حياة. مثلما تحتاج البيضة المخصّبة إلى بيئة ولا يمكن أن تكون حياة فردية من تلقاء نفسها، لذا لا يمكن أن يكون الجينوم بنفسه حياة. وربما مثلما عبّرت عن ذلك أيفلين فوكس كيلر (Evelyn Fox Keller) ، كان القرن العشرين "قرن الجينات". لقد انتهى ذلك القرن، وولّى أيضاً التركيز على الجينات والجينوميات باعتبارها المسار إلى حقيقة الحياة. وربما ننتقل إلى قرن الكائنات الحية، ويمكننا أن نأمل أن يكون الحال كذلك، إلى حقبة نحيط فيها بتعقيدات التفاعلات. سيدعو ذلك إلى بيولوجيا جديدة وسياسة جديدة ترشدنا.

 

لقد شهدنا تحرّكات في الاتجاه بالفعل، مثل نشر أقسام خاصة من مجلة ساينس في سنة 2002، "البيولوجيا الشاملة" (Whole-istic Biology) (1 آذار/ مارس) و"الأمر ليس في الجينات فحسب" (It’s Not Just in the Genes) (نيسان/ أبريل).

علينا ألا نرضخ لدورة من ردود الأفعال من دون تأمّل، من النفور إلى القبول والاهتمام. وإنما علينا أن نفهم التعقيدات والارتباطات القائمة داخل الحياة. وعلينا أيضاً أن نبني شبكات من الباحثين الذين يستطيعون التواصل فيما بينهم ومتابعة برامج الأبحاث المتعدّدة والمتعدّدة التخصصات.

وبدلاً من إنشاء مشاريع إلسي (الآثار الأخلاقية والقانونية والاجتماعية) منفصلة للجينوميات، علينا أن نقيم تكاملاً بين هذه المنظورات وجميع مستويات البيولوجيا الأخرى. علينا أن نطوّر طرقاً لتقبّل الأبعاد البشرية للبيولوجيا على جميع المستويات، بما في ذلك تقييمنا متى تبدأ الحياة البشرية وما يعنيه أن نكون بشراً – من الناحية البيولوجية.

[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى