العلوم الإنسانية والإجتماعية

التوزيع عبر الأسواق

2014 مجتمع السوق

سبايز بوتشر

مؤسسة الكويت للتقدم العلمي

العلوم الإنسانية والإجتماعية التكنولوجيا والعلوم التطبيقية

إنّ التباينات الاقتصادية التي ظهرت مع الرأسمالية لم تكن عرضية، بل كانت النتيجة المباشرة لقيام مجتمع السوق. فالأسواق تضطلع بدور أساسي في تحديد توزيع الدخل، بما أنّ نظام إنتاج السلع يدمج عوامل الإنتاج (الأرض والعمل ورأس المال) في الأسواق باعتبارها سلعاً (مفترضة) (Polanyi 1944) (راجع الفصل الثاني). من شأن عملية التسليع هذه أن تضمن بأنّ توزيع الدخل (الإيجار والأجور والأرباح) على الملّاكين والعمّال وأصحاب الأعمال يتمّ وفقاً لقواعد المنافسة في السوق. ويحدّد مستوى هذا الدخل بدوره قدرة المشاركين في السوق على تلبية احتياجاتهم ومتطلّباتهم الاستهلاكية.

ومن الناحية العملية، يخضع توزيع الموارد الاقتصادية أيضاً للقوانين الضابطة للسلامة والمعايير البيئية والممارسات الاحتكارية، وللأعراف الاجتماعية ومعايير المجتمع، وللضرائب المفروضة والإنفاق الحكومي. غير أنّ الاقتصادي ميلتون فريدمان(Milton Friedman)  (انظر(Friedman & Friedman 1979) )، المعروف بتأييده لاقتصاد السوق والحائز على جائزة نوبل، يدلّل على أنّ الديناميات التنافسية التي تعزز كفاءة الأسواق لا يمكن أن تتحقّق إلّا إذا كان مسموحاً للأسواق أن تشارك في تحديد توزيع الدخل. وأسعار السوق برأيه تؤدّي وظيفتين: فهي توفّر معلومات حول تكاليف الإنتاج ورغبات المستهلك، ما يسمح للمنتجين بمواءمة الموارد مع طلب المستهلك بفعالية أكبر، ولكنّها في الوقت عينه توفّر حوافز للتصرّف بناء على هذه المعلومات، من خلال مكافأة الذين يتصرّفون وفقاً للإشارة السعرية. ولا يمكن لهذه الوظيفة الثانية أن تتحقّق إلّا إذا كانت مداخيل الأشخاص تعكس مشاركتهم في السوق.

فإن لم تكافأ الأعمال التجارية الفعّالة بأرباح عالية أو العمّال الماهرون والمجتهدون بأجور مرتفعة، فلن يكون لحوافز السوق أيّ دور. من هذا المنطلق، تعكس المكافآت غير المتساوية التي يقدّمها السوق مساهمات الأشخاص المختلفة في الإنتاج (راجع المربّع 2.4). ويسلّم فريدمان بأنّ هذا نتيجة خيار ووليد الصدفة في الوقت عينه. ذلك أنّ قرارات التوظيف والاستثمار والتعليم تؤثّر في المكافآت التي يتلقّاها الأشخاص، ولكنّ هؤلاء يتمتّعون بقدرات وموارد مختلفة منذ ولادتهم، كما أنّ خياراتهم قد تتأثر بأحداث مصادفة. مع ذلك، يعتبر فريدمان أنّ التدخّل أكثر من اللازم في حصص السوق سعياً لتصحيح ظلم الحظ يهدّد بتقويض حوافز السوق.    

المربع 2.4 القيمة وعدم المساواة

لقد ناقشنا في الفصول السابقة نهجين اقتصاديين مهمّين يحاولان شرح كيفية تحديد السعر والقيمة في إطار اقتصاد تنافسي. ولكنّ نظريّتي الكلاسيكية الجديدة والماركسية لا تقتصران على النموّ الاقتصادي أو الأسعار، فهما تساعدان أيضاً على شرح توزيع الدخل وتبرير (أو نقد) عدالة هذا التوزيع.

إنّ تركيز نظرية الكلاسيكية الجديدة على قوى العرض والطلب يشير إلى أنّ أسعار السلع الاستهلاكية تعكس المنفعة "الهامشية"  (Marginal)التي يستفيد منها المستهلكون. كما تقول هذه النظرية إنّ الإنتاج والعمّال وملّاك العقارات وأصحاب الأعمال يحصلون على مداخيل تعكس الإنتاجية " الهامشية" لعملهم أو أرضهم أو رأسمالهم (راجع الفصل الثاني، المربّع 2.2). وبالتالي فإنّ المداخيل المكتسبة تبدو مبرّرة كونها تعتبر انعكاساً لقيمة المساهمات في الإنتاج.

من جهة ثانية، تفترض نظرية قيمة العمل المعتمدة في الاقتصاديات الكلاسيكية والماركسية بأنّ العمل هو في الأساس مصدر كلّ قيمة. وبالتالي فهي تشكّل أساساً لنقد توزيع السوق بما أنّ مداخيل ملّاك الأراضي وأصحاب الأعمال لا تسوّغها مساهماتهم إنّما هي نتيجة سيطرتهم على موارد هامّة. المقلق بشكل خاص في هذه المسألة هو أنّ العمّال، الذين يساهمون بالجهد الأكبر، غالباً ما يحصلون على المكاسب الأقلّ.     

وبما أنّ نظريات القيمة مهمّة في إطار تقييمنا لعدم المساواة، نشير إلى أنّها شكّلت موضوع نقاشات وانتقادات حادّة. فقد رفض عدد كبير من علماء الاقتصاد، بدءاً بيوجين فون بوم بافرك  (1949 [1896]) (Eugen Von Bohm-Bawerk) ، نظرية قيمة العمل بسبب "مشكلة التحويل"(Transformation Problem)   وقد برهن هؤلاء بأنّ الأسعار لا تتوافق وقيمة العمل المتجسّد فيها إلّا في ظروف محددة للغاية. على نحو مماثل، بيّنت جوان روبنسون (Joan Robinson) وبييرو سرافا(Pierro Sraffa)   وغيرهما بأنّ نظرية الكلاسيكية الجديدة حول الإنتاجية الهامشية لا يمكن تطبيقها كما ينبغي على رأس المال. والواقع أنّ "نقاش كامبردج" (Cambridge Controversy) يشير إلى أنّه لا يمكن اعتبار الربح العائد الهامشي لرأس المال (Harcourt, 1972).

سعى كلّ من الاقتصاديين الكلاسيكيين والماركسيين جاهدين للردّ على هذه الانتقادات المحدّدة، وعلى الرغم من أنّ النقاشات تقنية بطبيعتها، إلّا أنّ آثاراً مهمّة تترتّب عليها. وفي حين تبقى نظريّات القيمة هذه مفيدة لتسليط الضوء على الديناميّات الهامّة في كيفية تحديد القيمة والسعر، إلّا أنّ أياً منها لا توفّر تفسيراً كاملاً ومقنعاً تماماً. وليس ذلك بالأمر المستغرب، فشرح القيمة مسألة معقّدة، وهي ترتبط بعوامل سياسية وثقافية بقدر ارتباطها بالعوامل الاقتصادية.

أمّا الليبرتاري روبرت نوزيك (Robert Nozick) (1974) فيشدّد على أنّ نتائج السوق هي حصيلة التبادل الحرّ والطوعي، وأي محاولة لإعادة توزيعها تنطوي على انتهاك للعدالة. وقد أضاف عالم الاجتماع لورنس ميد (Laurence Mead) (1997) إلى هذه الحجج المعارضة لدور الدولة في إعادة التوزيع، حيث أشار إلى أنّ البرامج الحكومية الهادفة إلى مساعدة المحرومين غالباً ما تكون لها تأثيرات عكسية. فهي قد تكافئ السلوك السيئ – كالإخلال بالنظام في المدرسة أو التهرّب من العمل – وتخلق مع الوقت "ثقافة الاعتماد على الغير"(Culture of Dependency)  التي تفضّل فيها المساعدات الحكومية على السعي للحصول على مكافآت أكبر في السوق. بالنسبة إلى ميد (1997)، يجب أن تكون أي مساعدة حكومية مشروطة بإثبات السلوك "المستحبّ"(Desirable) . مذهب الأبويّة هذا يساند حجج الليبرالية الجديدة المعارضة لإعادة التوزيع والتي نتوسّع في مناقشتها في الفصل الخامس.

 

[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى